سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن-العدد: 6595 - 2020 / 6 / 17 - 18:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
(ايها الانسان .... تفوق على نفسك) نيتشة
المقصود بهذه المقالة بيان سلوكيات بعض العراقيين الذين اصبحوا بعد 2003 برجوازيين من الطبقة الوسطى , ويتصرفون كصعاليك ومحرومين وجوعية من الطبقة الفقيرة , تماهيا مع نمطهم السابق قبل 2003 ونسق اباؤهم واجدادهم الذي استمر الاف السنين . فمن هم البرجوازيين في العراق اليوم ؟؟ ومن هم الصعاليك في عراق الامس ؟؟
البرجوازيين هم اصحاب الطبقة الوسطى في المجتمع . وهم الافراد الذين يستطيعون توفير متطلبات حياتهم بالقدر الذي يجعلهم في بحبوحة من العيش والاستغناء عن الاخرين , ومن اجل ذلك اطلق عليهم طبقة (الكفاية) ، والتي تختلف عن طبقة (الكفاف) الفقيرة التي لاتستطيع توفير سوى الحد الادنى لمعيشتها وادامة حياتها . الا انها ايضا تختلف عن الطبقة الارستقراطية الثرية او الغنية (المترفة) في المجتمع التي تتميز بامتلاكها لوسائل الانتاج والعقارات والاموال الكبيرة جدا . والطبقة الوسطى البرجوازية ليست نسيج واحد من الوضع المالي والاجتماعي والثقافي فهناك الطبقة الوسطى العليا وهناك الطبقة الوسطى المتوسطة وهناك الطبقة الوسطى الدنيا , والطبقة الوسطى في العراق اليوم حتما ليست نسيج واحد , وانما متوزعة ضمن الاقسام الثلاث التي ذكرنها . وقد استعرضت في دراستي المفصلة في موقع الحوار المتمدن (تحولات الطبقة الوسطى (البرجوازية) في العراق خلال (150 عام )(1869-2019) وهى باربع اقسام (ان الطبقة الوسطى البرجوازية في العراق مرت بتحولات عدة خلال المائة وخمسين عاما الماضية (1869- 2019) يمكن تقسيمها الى اربعة اقسام رئيسية بحسب المتبنيات الفكرية والخلفيات الاجتماعية والمطارحات الاقتصادية التي تحملها وهى :
1 . البرجوازية الكومبرادورية النهضوية (1869-1914)
2 . البرجوازية الوطنية الليبرالية (1914-1958)
3 . البرجوازية الثورية المتريفة (1958-2003)
4 . البرجوازية الاسلامية الديمقراطية (2003- 2019)
مايهمنا في هذا الموضوع هو الطبقة الوسطى البرجوازية الاخيرة التي تشكلت نتيجة للتحولات المفصلية التي انتابت الدولة العراقية بعد الاحتلال الامريكي واسقاط النظام البعثي الحاكم عام 2003 وتاسيس النظام الديمقراطي التعددي بحسب التمثيل النسبي لمكونات المجتمع العراقي . وقد وصفت في دراستي هذه الطبقة الوسطى البرجوازية الاخيرة بالاسلامية مجازا , لان النخبة السياسية التي تصدت للمشهد الحكومي والمزاج الشعبي العام يغلب عليهما الطابع الاسلامي – الطقوسي . وقد تميزت هذه الطبقة بثلاث خصائص ومميزات تختلف عن جميع الطبقات الوسطى الثلاث السابقة وهى :
الخاصية الاولى : انها اكثر البرجوازيات عددا في تاريخ العراق الحديث والمعاصر . حيث ذكرت تقارير حكومية ودولية ان عدد المستفيدين الذين يتلقون رواتب واعانات شهرية من الدولة وصل الى مايقارب السبعة مليون مستفيد في نهاية عام 2016 (والعشرة مليون تقريبا في عام 2020) متوزعين تحت عناويين مختلفة بين موظف مدني وعسكري ومتقاعد مدني وعسكري ومؤسسة الشهداء ومؤسسة السجناء السياسيين وشبكة الرعاية الاجتماعية . واذا افترضنا ان كل واحد من هؤلاء يعيل ثلاث افراد فان مساحة الايراد ستكون اكثر انتشارا في المجتمع العراقي .
الخاصية الثانية : انها اكثر البرجوازيات (تبرجزا) ورفاهية وتماهيا مع السلوكيات المادية بالقياس الى البرجوازيات السابقة . وهذا يرجع الى الرواتب الكبيرة نسبيا التي يحصل عليها الموظفون وباقي المستفيدين من الدولة بصورة عامة , وهى الاعلى بتاريخ القطاع العام في العراق , بل ان بعض المؤسسات والهيئات والوزارات الحكومية يحصل موظفوها على رواتب عالية جدا , كالخارجية والداخلية والدفاع والصحة والنفط والكهرباء والتعليم العالي والعدل والهيئات المستقلة وموظفي رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب وومنتسبي السلطة القضائية . ولاحاجة الى التطرق الى رواتب وامتيازات النخبة السياسية الحاكمة في البلاد كالرئاسات الثلاث والوزراء والنواب والمحافظين ووكلاء الوزرات والمدراء العامون ورؤساء الجامعات والعمداء واعضاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية وغيرها . وشكلت هذه الطبقة الوسطى قطيعة اقتصادية مع الطبقات الوسطى السابقة في التماهي المطلق مع مظاهر (التبرجز) الذي تميزت بها هذه الفئات في الدول الاخرى .
الخاصية الثالثة : تمدد البرجوازية الى الريف بعد ان كانت مقتصرة على اهل المدن او المتريفين المهاجرين للمدن . فالزائر الى الريف والقرى سابقا يجد انه يتنقل بين عالمين مختلفين (عالم العصور الحديثة وعالم العصور الوسطى) فرغم بؤس المدن وتريفها وتاخرها في العراق , الا انها كانت بالمقارنة بالريف والقرى احسن حالا بكثير من حيث المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي , فيما ان البؤس والشقاء والجوع والبطالة يضرب اطنابه في الريف والقرى العراقية . اذن نحن امام امتين مختلفتين – حسب تعبير لينين - وكان تمدد البرجوازيات السابقة الى الريف يتميز بالبطء الشديد جدا , وبقى محافظا على نمط (الغرب الوحشي) واسواره العالية , ولم تخلق البرجوازيات السابقة بالتالي (عالما على صورتها) - كما قال البيان الشيوعي - وربما كانت القرى القريبة من المدن هى الاكثر تاثرا بالمظاهر البرجوازية , بسبب الاحتكاك والتاثر بالمجتمع المدني النسبي هناك , ووصول بعض الخدمات الحكومية اليها كالتعليم مثلا . لا انه وبعد عملية التغيير السياسي واسقاط النظام البعثي الحاكم , حصل تحول جذري في النمط المعيشي للريف العراقي , تمثل بتمدد الطبقة الوسطى اليها وانتشار مظاهر (التبرجز) فيها , وهى خاصية انفردت بها البرجوازية الاسلامية والديمقراطية الاخيرة , والسبب الاساس هو تضخم عدد الموظفين الذين يسكنون في الريف والقرى في الدولة العراقية الجديدة بعد 2003 , وشهدنا - ولاول مرة - هذا العدد الكبير من الموظفين المدنيين والعسكريين , بل وتقلد الكثير منهم وظائف لم تكن موجودة حتى في المجتمع الشيعي المدني – وبخاصة الجنوبي - حيث ظهر فيهم الضباط والاستخبارت والطيارين والقضاة والمحافظين ومدراء النواحي واعضاء المجالس البلدية والمحافظة والامانة العامة لمجلس الوزراء وفي السفارات والقنصليات والهيئات المستقلة وغيرها .
واما اصطلاح (الصعاليك) فهى دلالة نقصد بها الافراد المهمشون في وسط وجنوب العراق الذين كانوا يعانون العوز والفقر والحرمان والكبت والعبودية والاذلال العسكري والاقطاعي والبعثي , والمحكومين من الانظمة الطائفية والقومية والبعثية السابقة . وهذا المصطلح اختاره الدكتور علي الوردي في مؤلفاته وكتاباته للدلالة العامة على اولئك الافراد الذين ذكرناهم وخشية من السلطات الطائفية والقومية الحاكمة انذاك . وربما يمكن القول ان مصطلح (الصعاليك) قصد به الوردي الشيعة العراقيين تحديدا - وليس غيرهم - لانه كان يمتلك تصورا خاصا عن القضية الطائفية في العراق وخطورة استفحالها واستمرارها في نطاق الادارة والحكم في البلاد , وهم المعنيون اكثر من غيرهم في الاندراج بسلوكيات الصعلكة واخلاقها وانماطها , لانهم اكثر الناس معاناة وانتهاكا من قبل السلطات السابقة . واستخدم هذا المصطلح في موارد متعددة كلها تشير الى هذا المسار من حيث الربط بين الحكام الجلاوزة والمحكومين الصعاليك في العراق , وخاصة في مجال تاثرهم بالحكام ومحاولة تقليدهم بقوله (ليس من العجيب ان يفرح ابناء الجلاوزة باثار اباؤهم , ولكن العجب كل العجب ان يفرح ابناء الصعاليك بها , كأنهم يريدون اليوم ان يكونوا عبيدا كما كان اباؤهم من قبل) . وطبعا لاحاجة الى التاكيد ان المقصود بهذا النص هم الشيعة تحديدا , لانهم كانوا عبيدا في العصر العباسي , ومن المؤكد ان الكثير منهم اليوم يريدون ان يرجعوا عبيدا عند الحكم الطائفي والبعثي مثلما كان اباؤهم واجدادهم عبيدا من قبل . وقد عاصرنا هذه المسار بعد سقوط النظام البعثي الطائفي عام 2003 حيث وجدنا الكثير من الشيعة (الصعاليك) – للاسف - يريدون عودة الديكتاتورية والاستبداد بصورة علنية او محاولة تبييض صفحاته واعماله او تبرير سلوكياته الاجرامية وغيرها . وهؤلاء يختلفون عن مصداق العبارة التي ذكرها الوردي اعلاه , ليس لان اباؤهم واجدادهم كانوا عبيدا عند الرفيق البعثي والضابط التكريتي والشيخ الاقطاعي فحسب , وانما الاختلاف انهم انفسهم كانوا عبيدا عند الرفيق البعثي والضابط التكريتي , وعاشوا هذه الحقبة باسوء مراحلها والعبودية باجلى صورها , وتاذوا منها بصورة مباشرة او غير مباشرة , وعانوا من اهوالها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية , الا انهم - ومع ذلك التغير الكبير الذي حصل بعد 2003 في انماط حياتهم وسبل معيشتهم , واختلافها جذريا عن الحقبة الاستبدادية المظلمة – مازالوا - في اغلب الحالات - يحاولون قدر امكانياتهم تبرير اعمال تلك الحقبة الاجرامية او مدحها بطريقة غير مباشرة . وقد فسرنا هذا السلوك النفسي بظاهرة (الخصاء) الشهيرة التي عانى منه المجتمع الشيعي بعد انقلاب شباط 1963 - وخاصة فئة الانتلجنسيا منهم - وقد ذكرنا ذلك في مقالات عدة في موقع الحوار المتمدن اهمها (عقدة كيس الحاجة عند المثقفين الشيعة والكورد والمسيحيين) و (فايروس الطائفية عند سعدي يوسف) وغيرها .
وعلى النقيض من اصطلاح (الصعاليك) اختار الدكتور الوردي اسما مبتكرا وطريفا للحكام والمتسلطين وهو (الجلاوزة) ومفردها (جلواز) , وقصد بها حكام العراق في العهدين الملكي (1921-1958) والجمهوري (1958-2003) واصفا اياهم بقوله (والعراق قد ابتلي من هذه الناحية بظاهرة اجتماعية , ربما كانت أشد عليه من الوباء الفتّاك . إن (جلاوزة) العراق ومن لفّ لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين، ينظرون إلى أبناء الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار . ولعلهم لا يشعرون بهذا الاحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو احتقار كامن في أغوار اللاشعور من أنفسهم، فهم يساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحيانا) . وقد اكد الدلالة الطائفية للجلاوزة الدكتور علي الوردي بقوله (ويخيّل لي أن جلاوزة العراق لا يقلون عن هذا الباشا احتقارا للفلاح وللفقير والمسكين، حيث قد ورثوا ذلك وراثة لاشعورية من أسلافهم العثمانيين). فيما اكد دلالتها الصريحة بهذا القول (نقصد بالجلاوزة هنا معنى يقارب ما يقصد العامة عندنا من لفظة (الجندرمة)، والواقع أن عددا لا يستهان به من أفراد الطبقة الحاكمة في العراق هم من بقايا (الجندرمة) الذين ابتلي الشعب العراقي بهم في العهد العثماني البائد ابتلاء عظيما) . كما ذكر اصطلاح (الجلاوزة) رابطا المفهوم مع الظلم والاستبداد بقوله (الجلاوزة حين يحتقرون البؤساء من أبناء الشعب، إنما يكشفون بذلك عن ذلة أنفسهم وما في أغوار عقولهم الباطنة من شعور بالنقص دفين . وهذا النقص لا بد أن يقضي عليهم عاجلا أم آجلا ). واشار ايضا الى دور الكتاب ووعاظ السلاطين والشعراء في الترويج لحكم الجلاوزة بالقول (كان السلاطين في عهودهم الغابرة يستخدمون نوعين من الجلاوزة : جلاوزة السيف وجلاوزة القلم . وهم كانوا يبذلون الاموال في رعاية جلاوزة القلم مثلما يبذلون في رعاية جلاوزة السيف) .
ان من اهم الظواهر التي اثارتني في العراق بعد السقوط عام 2003 هو : انه ورغم تحول اغلب العراقيين الى الطبقة الوسطى واصبحوا برجوازيين اصلاء (ظاهريا) , الا ان سلوكياتهم وتصرفاتهم الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية والنفسية تتميز بان اغلبها يندرج ضمن خانة العوز والحرمان السابق , وامتدادا لنسق (الصعلكة) السائدة , واستفحال الظاهرة الجوعية والبخل والبكائية , واستحكام النزعة العشائرية والريفية والعنجهية البدوية , والسخرية من الدولة والنيل منها والترويج للتربية الزقاقية . فيما ان المفترض ان اخلاقيات الطبقة الوسطى المتحضرة والمعتدلة والمكتفية باحوالها ومساراتها هى الرائجة بسلوكياتهم اليومية ومطارحاتهم الاجتماعية . فكلنا يعلم ان هذه الطبقة الوسطى التي تشكلت بعد السقوط عام 2003 والطبقة الوسطى الثورية والمتريفة التي سبقتها (1958-2003) , انما تبلورت من خلال اموال الدولة ورواتبها وامتيازاتها ومخصصاتها ومشاريعها وحتى فسادها , وليس من خلال جهدها وانتاجها وتجارتها - كما في الطبقتين الوسطى الاولى (البرجوازية الكومبرادورية النهضوية (1869-1914) والثانية (البرجوازية الوطنية الليبرالية (1914-1958) , حتى ان بعض الكتاب اطلق عليها تسمية (برجوازية الدولة) او (البرجوازية البيروقراطية) , لانها تكونت على هامش سيطرة النخبة الثورية والعسكرية على الدولة ومقدراتها في اعقاب الانقلابات العسكرية واسقاط الحكومات الملكية والليبرالية , كما في حالة مصر والعراق وسوريا والجزائر , وما اعقبها من تضخم الجهاز الاداري وتاميم المصانع الاهلية وسيطرة القطاع العام على الانتاج . وهى ليست برجوازية اصيلة او حقيقية – كما يبدو - وانما (طبقات زائفة) حسب تعبير ماركس . وقد ضمت هذه الطبقة الوسطى البرجوازية في العراق بعد السقوط عام 2003 الملايين من الافراد الذين اصبحوا برجوازيين (رغم انوفهم - ودون علمهم) من خلال رواتب الدولة وامتيازاتها ومخصصاتها امثال الموظفون الاداريون والمعلمون والمدرسون واساتذة الجامعات والقضاة والاطباء والشرطة والجيش والمخابرات والضباط وخاصة موظفي الوزارات المدللة امثال الخارجية والداخلية والدفاع والصحة والنفط والكهرباء والتعليم العالي والعدل والهيئات المستقلة وموظفي رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب ومنتسبي السلطة القضائية . فضلا عن النخبة السياسية الحاكمة في البلاد كالرئاسات الثلاث والوزراء والنواب والسفراء والمحافظين ووكلاء الوزرات ورؤساء الجامعات والمدراء العامون والعمداء واعضاء مجالس المحافظات والمجالس البلدية والمستشارون وغيرهم . من الذين تحولوا - بقدر قادر - الى برجوازيين اصلاء (ظاهرا) من حيث الانغماس بالماديات وبناء المنازل والقصور الفارهه وامتلاك الاجهزة الراقية واقتناء السيارات الحديثة والاموال الكبيرة والسفريات المتعددة للسياحة والدراسة والعلاج وحيازة قطع الاراضي السكنية والدونمات الزراعية , وغيرها من سلوكيات (التبرجز) والرفاهية بعد ان كانوا صعاليك وحثالات يعيشون على هامش الحياة واطراف المدن من حيث الفقر والعوز والحرمان والاذلال الطائفي والعبودية البعثية . الا انه ورغم هذا التحول المفصلي والتغيير الجذري والتاريخي في مسار حياتهم , مازال اغلب اولئك البرجوازيين يتصرفون كصعاليك وفقراء من خلال سمات عدة اهمها :
1 . ظاهرة الجوعية : فكلنا نعرف ان اغلبية العراقيين - وخاصة الصعاليك منهم - عاشوا قرون طويلة لاتعد من الحرمان والفقر والعوز , ولم تتغير احوالهم حتى بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921, حيث التسلط الاقطاعي والحكم الطائفي والبعثي الذي جعل مناطق الوسط والجنوب في خانة الاستهداف الحكومي والسلطوي , ومن الطبيعي ان يفرز تلك السلوكيات الاقصائية والمكافحة الاقتصادية نمطا نفسيا ونوعا اجتماعيا من السلوك القائم على البخل والحذر والحرص في التعامل التجاري , وقد تجلى ذلك في مظاهر عدة لاحصر لها من التعامل اليومي الشديد مع الباعة في محلات البقالة والخضروات واصحاب المهن الاخرى وغيرها . واما ابرز المظاهر التي ترتقي الى مستوى الفضيحة فهى الامتناع عن التبرع للمشاريع الخيرية والشان العام مثل المدارس والطرق او مساعدة الفقراء والمعوزين وغيرها بدعوى ان هذا من مسؤولية الدولة .
2 . البكائية والشكوى والرعب من الاستقطاع الحكومي للرواتب : فبعد ازمة انخفاض اسعار النفط عام . 2014 حصل استقطاع رمزي لايتجاوز 4% من الراتب كمخصصات للحشد الشعبي , وبعد ازمة وباء كورونا وماعقبها ايضا من انخفاض اسعار النفط عام 2020 ارادت الحكومة العراقية استقطاع تصاعدي لرواتب الموظفين والمتقاعدين , وجدنا حالات اعتراض ورعب لامثيل لها من العراقيين , اغلبها اعطى مبررات اخرى للرفض من قبيل ضرورة مكافحة الفساد وتعزيز موارد الدولة والاعتماد على الزراعة !! وغيرها ولكن في الواقع ان الاعتراض هو البكائية واستفحال الظاهرة الجوعية عندهم , والامر المخجل ان تلك البكائيات والرعب لم يقتصر على اصحاب الرواتب الصغيرة والمتوسطة من الموظفين والمتقاعدين , بل وحتى العليا مثل اساتذة الجامعات والقضاة والسياسين وغيرهم .فقد نشر احد اساتذة الجامعات المتقاعدين منشورا يحتج فيه على استقطاع مايقارب (300) الف دينار فقط من راتبه الذي يقارب (2,600) مليون دينار , وهو رقم كبير لراتب تقاعدي شهري في العراق , الا ان الظاهرة الجوعية والبكائية ونسق الصعلكة هو من حرك هذا الدكتور وجعله يشعر بالرعب والحنق من الاستقطاع , وقارنت بين شكواه وبكاء المراة الريفية (جملة المكرودة) على زوجها (يراد) الذي قتل في احدى المشاكل العشائرية وهى تنعى وتلطم (واعدني بيها المواعيد ... واعدني بيها وانكتل يراد... وراح الفصل خرجية للايواد) ... ويبدو ان الانماط العليا للصعاليك من جدتهم (جملة المكرودة) هى الفاعلة في نظامهم المعرفي والنفسي والاجتماعي .
3 . التجاوز على الدولة والاستناد على العشيرة : من المعروف ان اهم الاسس التي تستند عليها الطبقة البرجوازية الوسطى في حماية نفسها وضمانة مصالحها هى (الدولة) , الا ان الصعاليك في العراق الذين تحولوا الى برجوازيين (في غفلة من الزمن) يختلفون بهذا الامر , حيث ان الدولة عندهم هى عبارة عن مورد مالي فقط وراتب مجزي فحسب , فيما ان الالتزامات الاخرى مثل الواجبات والتضامن مع الدولة والدفاع عنها لاتشكل ادنى فعل عندهم - ان لم يكن العكس - فهم يساهمون يوميا في الهجومات الشعبوية والعصابية على الدولة , بدعاوى عدة كنقص الخدمات والفساد وغيرها او ضمن دوافع ايديولوجية وثورية (شيوعية وبعثية واسلامية) , رغم انهم جميعا مشتركون بطريقة او باخرى , او حتى ضمن نسبة معينة في ادارة الدولة والاندراج بهذا الفساد والتسيب والتراخي بالواجبات والفوضى . والسبب الاساس لهذا الفعل عند هؤلاء الصعاليك هو انهم يستندون الى عصبة اقوى وامضى للحماية وطلب الوجاهة وهى العشيرة , وقد يعتمدون عليها حتى في مواجهة الدولة عند التقصير والتسيب الذي يقومون به , رغم التسامي الكاذب الذي يقومون به والمطالبة بالدولة المدنية والعلمانية الذي ينادون بها .
4 . انعكاس التربية الزقاقية على سلوك الصعاليك : فمن المعروف ان للطبقة الوسطى اخلاقها وتقاليدها وعاداتها والتزاماتها الخاصة نحو المجتمع , والتي تتميز بالتحضر والاعتدال والرقي والهدوء , فيما وجدنا ان الصعاليك وابناؤهم يسيرون وفق نمط التربية الزقاقية القديمة والسائدة سابقا في المحلات والحارات والشوارع التقليدية . واصطلاح التربية الزقاقية اخترعه الدكتور علي الوردي في مؤلفاته وقصد به الاخلاق والسلوكيات الذي يتربى عليها الطفل في المحلات والحارات والشوارع الشعبية في العراق , وتركيزها على قيم التغالب والتنمر والتحاسد والتنافس , دون قيم الاستيعاب والتلاقي والحوار .
5 . الانسياق نحو السلوكيات الثورية : فمن المعروف ان الطبقة الوسطى البرجوازية تنحاز تدريجيا نحو الديمقراطية والتعددية الثقافية والسياسية والتسامح والحقوق الطبيعية والحرية وسيادة القانون وغيرها من القيم الليبرالية , لان الطبقة الوسطى (خميرة الديمقراطية والعقلانية) - كما يقولون - الا ان الصعاليك في العراق الذين تحولوا الى برجوازيين في غفلة من الزمن مازالوا مستمرين على نسقهم السابق الذي يمجد التوجهات الثورية والنزعات الايديولوجية والجزمية والمناداة بالدولة الاشتراكية والشمولية والعدالة الاجتماعية وتقدير العامة والرعاع والجماهير , وغيرها من المفاهيم التي تنادي بها عادة الفئات الفقيرة والمتريفة في المجتمع . والسبب في استمرارية هذا النسق الثوري والايديولوجي هو - كما قلنا - ان البنية الاصلية لهؤلاء الصعاليك مازالت فاعلة وتحرك الافكار والممارسات من خلف الستار , بجكم الاجترار والعادة التي استمرت الاف السنين , ولايمكن - بالتالي - تجاوزها او التسامي عنها ضمن سنوات قليلة . واعتقد ان اولادهم واحفادهم الذين لم يخضعوا كليا الى نسق الصعلكة , يمكن لهم ان يتجاوزوا تلك التوجهات الثورية والايديولوجية , اذا تحرروا من هيمنة الاب الميت , وكما قال فرويد (لن ينال الانسان حريته الا اذا قتل اباه) .
6 . الارتهان للافكار الغيبية والدينية : ان الارتباط بين الصعاليك والغيب والدين والطقوس هو ارتباط تاريخي ووجداني استمر الاف السنين , ومنذ العصور السومرية الاولى وحتى الان , لان الصعاليك في حاجة ماسة للدين والتدين لمواجهة اعباء وصعوبات الحياة – وخاصة في بلد كالعراق – الذي يعيش التراجيديا الغامضة في احلك صورها واجلى مظاهرها حتى قيل (ان الدين فيتامين الضعفاء) . الا انه وبعد تحول الصعاليك في العراق الى الطبقة الوسطى البرجوازية وجدنا عندهم استمرارية لنسق التدين والدين والارتهان للغيب والطقوس الشعبوية والعصابية , فيما ان المفترض ان يتحولوا تدريجيا الى قيم العقلانية والحداثة والتنوير والعلمانية , والسبب الرئيسي في استمرارية هذا النسق هو الخوف الداخلي من الغيب والمصائب ومفاجئات الحياة وتحولاتها الغريبة في هذه البلاد الملعونة , لذا ليس من المستغرب ان تجد صعلوكا عراقيا يقود سيارة حديثة جدا وهو يضع في داخلها خيطا اخضر لسيد معين او مقام محدد يسمى شعبيا (العلك) . والمفارقة ان اغلبها من المقامات الشعبية الوهمية في وسط وجنوب العراق من قبيل شريفة بنت الحسن او الاخضر او ابو الماش والسيد الميهول والحمزة ابو حزامين والعريس والعباس ابو كله والخضر في السماوة وغيرها , وليس من المراقد الرئيسية لاهل البيت في النجف وكربلاء وبغداد , لان الصعاليك اعتادوا – ضمن لاوعيهم الطفولي والعائلي - الخوف من هذه المقامات الغامضة والمزارات الشعبية ومراجعتها دون المراقد الكبيرة التي يعتبرون في بعض مساراتها مجالا للرحمة والغفران .
وختاما يجب الاشارة الى بعض النقاط المهمة وهى :
1 . ان بعض الصعاليك لايهتمون بهذا التحول او يعترفون به كمسار ايجابي في حياتهم الشخصية والعائلية , لانهم مندرجون ضمن خانة (الوعي الدنيء) الذي يعاني منه اغلبية المجتمع الشيعي العراقي . فسبق ان ذكر هيغل ان من ضمن تحولات الوعي والهوية عبر التاريخ هو المرور بمرحلة الوعي الدنيء او (المتمرد الوضيع) (الذي هو مظهرا للوعي الساخط الذي لا ينسجم مع ذاته مطلقا ، ولا يرضى عن وضعه القائم باي حال من الاحوال ، فهو وعي سالب يلقى كلا من السلطة والثروة بروح السخرية والاستهزاء ، لانه يضمر في طوايا شعوره احساسا دفينا بالثورة والتمرد . لذا فهو لم يستطع ان يحقق الهوية او التطابق مع الذات ابدا ، بسبب الحركة المستمرة التي ملئوها التمزق والتناقض والتوتر) . وهذا الوعي الدنيء الذي يعيشه المجتمع الشيعي العراقي لم يولد من فراغ ابدا , وليس قدر محتوم لايمكن تجاوزه , وانما هو احد اهم افرازات واخلاقيات طبائع الاستبداد , وماصنعته الانظمة الديكتاتورية – الطائفية والقومية - في بلورة عقلية التبعية او ذهنية الخضوع للسيد الوهمي عند الشيعي العراقي .
2 . ان الكثير من الصعاليك يرفض الاعتراف بالتحول الايجابي الاقتصادي الذي يعيشه والانضمام للطبقة الوسطى البرجوازية لدوافع سياسية وايديولوجية عدة لامجال لذكرها , الا ان الدافع النفسي والاجتماعي هو الفاعل الحقيقي وراء ذلك الرفض , وهو استحكام النزعة (الجوعية) والشعور الدائم بالعوز والفقر والحرمان عند اغلب اولئك الصعاليك , الامر يجعلهم في حالة دائمة من الجوع الشديد والتوق المستمر لجمع الاموال والمطالبة بالكثير منها . وقد صورت الامثال الشعبية في منطقة الغراف تلك الظاهرة او اولئك الناس الذين يعانون من النهم الشديد والبخل والحرص بالقول (الجوع بحلكه) (اي مازال الجوع الذي يحركه بفمه) . وقد لايمكن ذكر جميع الامثلة عن هذه الظاهرة المنتشرة في المجتمع العراقي والتي نشاهدها يوميا في السلوك الشعبي لاؤلئك الصعاليك في الاسواق والشارع . فتجد في بعض الاحيان ان الكثير من الموظفين في الدوائر الحكومية , ورغم التحول الاقتصادي الايجابي الذي حصل له بعد السقوط عام 2003 من حيث اقتناء الاموال والارصدة بالمصارف وبناء بيتا جديدا او شراء سيارة حديثة وقطعة ارض سكنية , فضلا عن السفر للخارج لاكمال الدراسة او العلاج او السياحة , بعد ان كان صعلوكا اصيلا مثل (عروة ابن الورد) يعيش على هامش التاريخ والاحياء الفقيرة والمظلمة , الا انه حتى الان يرفض الاعتراف بهذا التحول الايجابي , ليس من منطلق سياسي وايديولوجي فحسب , وانما من منطلق (جوعي) فهو لايعترف بتلك التحولات ويعتبرها شحيحة جدا جدا , ويريد المزيد المزيد من الاموال والمخصصات والامتيازات , لان الجوع في داخله مثل (الثقب الاسود) يبتلع كل فكرة من القناعة والارتواء والشبع , رغم انه بالاصل لايصرف تلك الاموال او يتمتع بها في حياته الشخصية .
3 . ان هناك نوعا من الازدواجية عند البرجوازيين الصعاليك في التعامل مع الدولة والموقف السياسي منها . فهم من جانب لايهتمون بالدولة ويهاجمونها ليل نهار ,ويسخرون منها ويعتبرونها مجرد وسيلة للراتب والمغنم والمكسب , ولايحترمون القانون والتبعات العرفية والتعاقدية له , الا انهم من جانب اخر يخشون انهيارها او سقوطها وفقدان وظيفتها , والسبب ليس مبدئي او وطني فالصعاليك ابعد الناس عن الوطنية والمبادىء , وانما الخشية من فقدان الراتب والاستقرار والسلم الاهلي . وهذه المواقف المضحكة والمخجلة وجدناها بقوة في مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) فهم - كما قلنا - يهاجمون الدولة ويسخرون منها ويحرضون على التظاهر ضدها - كما حصل في تظاهرات نهاية عام 2019 - حتى ان الكثير منهم اراد ركوب الموجه عسى ان يحصل على مكسب معين او منصب محدد من خلال هؤلاء المتظاهرين المراهقين الذين يفتقدون للقيادة والزعامة , الا انه وبعد ان اخذت التظاهرات منحى اكثر خطورة واصبحت تشكل تحديا وجوديا على الدولة ومقدراتها ووظيفتها وجدنا - للاسف - انسحابات مخجلة عند هؤلاء الصعاليك ودعوات للتهدئة وضرورة حماية الدولة وبقائها حتى لايحصل الامر مثل سوريا , وهذا السلوك يشكل اكثر من 90% من توجهات الداعمين للتظاهرات من الصعاليك البرجوازيين . بمعنى انهم يعيشون الازدواجية الاجتماعية والسياسية والنفسية باجلى مظاهرها , فالشخصية الصعلوكية عندهم تريد مهاجمة الدولة واسقاطها والنيل منها , الا ان شخصيتهم البرجوازية الثانية تريد الدولة وحمايتها وراتبها ومغانمها ومكاسبها .
4 . ان بعض الصعاليك (محدثي النعمة) لايريد الاعتراف بالتحول نحو الطبقة الوسطى البرجوازية بسبب الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الكبيرة التي تتبعها او تنتج عنها , فهم يريدون ان يبقوا صعاليك حتى يكون الانفاق المالي عندهم محدود جدا - كما في مرحلة الصعلكة - أي يريدون ان يكون (واردهم المالي برجوازي وانفاقهم المالي صعلوكي)!!! .
5 . ان بعض الصعاليك لايريدون الاعتراف بالتحول الايجابي عندهم للطبقة الوسطى البرجوازية , لانهم يعتبرون ذلك نقطة في صالح الحكومات العراقية والاحزاب الحاكمة بعد السقوط عام 2003 التي يشكل الشيعة جانبا كبيرا ومهما . وهو مالم يتحملونه لدوافع سياسية او ايديولوجية او اعلامية , فيما ان الواقع غير ذلك كليا , لان هذا التحول هو بصالح الدولة وليس بصالح الحكومات والسلطات المتعاقبة , (فالدولة باقية والسلطة متغيرة ومتحولة) والايجابيات يجب ان تحتسب للدولة والسلبيات على السلطة والحكومة .
6 . ان هذه الدراسة هى تدخل ضمن مسار العلوم الاجتماعية والنفسية , وهى بالتالي لاتشكل قاعدة عند اصحاب الطبقة الوسطى في العراق , وانما تشكل ظاهرة عامة قد تشمل اكثر من ثلاث ارباع الصعاليك الذين تحولوا للطبقة البرجوازية الوسطى بعد السقوط عام 2003 . فيما ان بعض الافراد الذين اصبحوا برجوازيين حقيقيين اخذوا يتصرفون كمدنيين ومتحضرين وداعمين للدولة والنظام العام , ولايستندون على العشيرة او يعتمدون عليها , وتركوا مظاهر البؤس والاستبداد والشقاء وراء ظهرورهم , ويعترفون بهذا التحول الايجابي ويشكرون الله عليه , ويتصرفون وفق نمط القناعة والاكتفاء .
#سلمان_رشيد_محمد_الهلالي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟