شهدت الأيام القليلة الماضية ، والتي أعقبت انهيار النظام الشمولي ، صعود ظواهر وحالات اجتماعية وسياسية جديدة ، وتطور واتساع ظواهر وحالات أخرى . و لعل من أهم تلك الظواهر صعود الحركة الإسلامية "الصدرية " وتحولها الى رقم سياسي ومجتمعي ثقيل في المعادلة العراقية في مقابل ضمور وتشتت الحزب الإسلامي الآخر الطامح لاحتكار الميدان والمؤيد والممول من إيران التي فتحت له خزائن وزارة المالية الإيرانية على اتساعها بعد إفلاسه الجماهيري .
وقد صاحب هذه الظاهرة الجديدة حراك شديد ومتفاقم لإشكالات وصراعات مهمة ، ومنها ما كان على مساس مباشر بموضوع الحوزة العلمية العراقية (نسبة الى علماء الدين المسلمين الشيعة ). لقد انخفضت كثيرا الاحتمالات السلبية التي كانت تنذر بحدوث نزاعات وصراعات مسلحة داخل المجتمع العراقي ، وتحديدا داخل الطائفة الشيعية العراقية ، غير أن ذلك لا يعني زوال تلك الاحتمالات نهائيا، خصوصا إذا ما تأكدت بعض التيارات السياسية الإسلامية المدعومة والممولة من الخارج كحزب آل الحكيم من إفلاسها جماهيريا فإنها قد تصعد من نشاطاتها الاستفزازية اليائسة ، ولكن الأمل يظل معقودا على حنكة القيادات العراقية الشابة وتراكم تجربتها الميدانية و مبادرتها الى إقامة شكل من التحالف السياسي بينها وبين القوى غير الإسلامية المقاومة للاحتلال والدكتاتورية لتثمير المد الجماهيري الذي التف حولها معبرا عنه في المظاهرات الصاخبة والحماسية الداعية الى وحدة الحوزة العلمية وحمايتها ومناهضة الاحتلال وبقايا النظام المستبد ، وفي العبارة الصغيرة الأخيرة خلاصة مهمة تبشر بالخير .
واليوم ، الجمعة 18/4/ ، سجلت حركة الشارع العراقي المقاوم للاحتلال والداعي لتوحيد الصفوف ، ولكن على مستوى وحدة جماهير الطائفتين الكبيرتين الشيعية والسنية ، نقطة جوهرية لصالحها .فقد كانت خطبة الجمعة التي ألقاها أحمد الكبيسي والمظاهرة المشتركة بين جماهير الطائفتين ذات دلالات ومغاز في غاية الأهمية لناحيتين :
الأولى تذهب الى تأكيد رفض الاحتلال والاستعداد لمواجهته بشتى الأساليب من قبل جميع العراقيين .
والثانية تكرس وتغلب روح المصالحة والتآخي والتسامح على روح التنازع الطائفي وهذه اللمحة العراقية الأصيلة تعود بنا الى ذكريات قديمة باهرة من ذات النوع في سنوات الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في بدايات القرن الماضي .
ومن الطبيعي تماما ، أن يفرق المرء بين خصوصيات التنازع بين القيادات الدينية والسياسية الإسلامية الشيعية، وبين تلك الخاصة بنوع التنازع المجتمعي العام بين القوى الديموقراطية وغير الديموقراطية . فالعارف بخصوصيات الحركة الإسلامية الشيعية يمكنه الفرز بين الخطوط العامة لحركة تيار الشهيد الصدر الثاني التي اكتسحت الميدان جماهيريا، وبين الخطوط العامة للحركة المجتمعية العامة . فالأولى ، تعني بصريح القول أن الصدريين يخوضون كفاحا عميقا ضد ما يعتقدون بأنه هيمنة إيرانية فارسية على الحوزة العلمية لا يخلو من ميول قومية ، وهذه الهيمنة لا يقل عمرها عن الخمسة قرون هي كل عمر التشيع الإيراني المهيمن ، في يحين ينظر الشيعة العرب العراقيون و التيار الصدري تحديدا ، الى أنفسهم كرواد ومؤسسين لتشيع وتأسيس الطائفة الشيعية ، الأمر الذي بدأ قبل أكثر من عشرة قرون على أرض العراق . من هنا نفهم الطابع المتشنج والحساس لبعض الأحداث التي حدثت في وسط وجنوب العراق والباعث على الأمل هو أن الأزمة الرئيسية أو على الأقل المرحلة الأولى منها مرت بسلام نسبي ودون حدوث ما يطمح إليه السياسيون الانتهازيون الصاعدون الى المناصب على سلالم من الجثث . ثم جاءت حركة الشارع ابتداء من مظاهرة الناصرية الضخمة قبل عدة أيام والمساندة لوحدة وسلامة الحوزة العلمية والمناهضة للاحتلال الأمريكي بملء الفم ، لتضبط حسابات القيادات التي راغت الى العمل بهدوء ولجمت امتداداتها المتطرفة عن العمل العنيف . غير إننا نضع أيدينا حتى في هذا المجال ذي السمات الدينية على عناصر مجتمعية وطنية فهو ليس صراعا حوزويا محضا بين فئات متصارعة داخل قيادات الطائفة الشيعية بل إنه في عمقه صراع بين الخط الذي يتبنى مقاومة الاحتلال وتحرير العراق بين الخط الذي نسج العلاقات السرية والعلنية مع المحتلين طوال سنوات الأزمة . ويمكننا النظر بتفاؤل الى الدور الذي بدأ بممارسته التيار الإسلامي السني المقاوم للاحتلال وهذا أمر يصب في مصلحة قوى المقاومة التحررية عامة . ولكن كيف تنظر الأطراف السياسية غير الإسلامية الى هذه التطورات ؟ النظرة الأولى هي تلك ترفض جملة وتفصيلا هذه التطورات وترفض أي دور للمؤسسة الدينية والأحزاب السياسية الدينية وهذه وجهة نظر أقلية متشنجة يمثلها بعض اليساريين واللبراليين المتطرفين ممن ليس لهم وزن جماهيري يعتد به .ويخلط أصحاب هذه النظرة عن جهل أو تجاهل بين مؤسسة الحوزة وبين الحركة الإسلامية العراقية ويعتبرنهما أقنوما واحدا ، وهذا خطأ كبير على مستوى التحليل والوصف والاستنتاج . النظرة الثانية هي تلك التي ينظر أصحابها الى هذه الظواهر والتطورات كجزء من سيرورة التحول والانتقال بعد انهيار النظام وهي تعبر بالتالي عن رأي الشعب وأنها إيجابية تماما وخصوصا في ما يتعلق منها بممارسات ونشاطات التيار الصدري وينبغي التسليم بقيادتها والتعامل معها دون تحفظ وهذه وجهة نظر أغلب الإسلاميين الشيعة و التيار الصدري في المقدمة منها وأحزاب وقوى أخرى غير إسلامية . وهذه وجهة نظر متحزبة تشطب على المجموع الشعبي ونضالات عمرها أكثر من قرن من أجل الاستقلال الحقيقي ونضالات أخرى شارك فيها وقاد اليسار مراحلها الهامة خلال العهد الملكي العميل للاستعمار البريطاني وفيما بعد ضد الأنظمة القومية المستبدة وليس مجهولا للعراقيين إن أول من تصدى للحكم الشمولي القومي المستبد وبعد عدة أشهر على وصوله الى السلطة هم اليسار العراقي عبر انتفاضة الجنود في معسكر الرشيد في شهر تموز 1963 بقيادة العريف حسن السريع .إن هذه النظرة الداعية الى الاحتكار السياسي لهذا التيار الإسلامي أو ذاك تنطوي على مضامين استبدادية وشمولية خطيرة لا تختلف عن ظاهرة "التبعيث القسري" التي مارسها النظام المنهار طوال سنوات . النظرة الثالثة الى هذه الظواهر والتطورات هي تلك يطرحها من اصطلح على تسميتهم أهل الخيار الثالث الذين رفضوا خيار التعويل على المحتل الأجنبي والتحالف معه وخيار التعويل على النظام والتحالف والدفاع عنه واختاروا الخيار الثالث خيار التعويل على الشعب ومناوأة قوى العدوان الخارجي بقيادة الولايات المتحدة والنظام المستبد معا وناضلوا من اجل إنهاء الدكتاتورية دون حرب . خلاصة هذه النظرة يمكن تقنينها في النقاط التالية :
- إن التيار الصدري هو جزء مهم ومؤثر من الحركة المكافحة ضد النظام المستبد في حياة الشهيد الصدر الثاني عبر عملية الحشد والكفاح الجماهيري السلمي ، وهي جزء زاخر بالعطاء من الحركة الراهنة المناوئة للاحتلال وقواه العميلة وقد عبر السيد مقتدى الصدر عن برنامجه الذي ورثه عن أبيه الشهيد محمد الصادق وعمه محمد الباقر الصدر بتكرار شعار والده الموجه للعدو الأمريكي والذي كرره معه الجمهور الغفير في جامع الكوفة اليوم الجمعة والقائل :
- كلا ..كلا يا شيطان !
والشيطان أمريكي الاسم والهوية والمذاق في عرف أحرار العراق ، فالحركة الصدرية إذن ، وهي بهذه الحدود إيجابية وواعدة ومختلفة عن الحركات والأحزاب المدعومة من الخارج ولهذا ينبغي دعمها دعما نقديا ضمن شروط تكتيل القوى المكافحة والمقاومة للاحتلال الأمريكي البريطاني ، الأمر الذي طبقه بإبداع الفلاح الفيتنامي الشيوعي " هوشي منه " الذي مد يد المقاومة الى الحركات الدينية البوذية فكانت سندا ومادة حقيقية لعبت دورها في هزيمة المحتل الأمريكي الهمجي ضمن حركة وتشكيلات الفيثكونغ .
- إن هناك فرق كبير بين إشكالات الحوزة التي هي ذات طابع إيماني وظيفي ومعتقدي ،وهي بهذا المعنى من مشمولات جمهور المؤمنين ،على اعتبار إن الصدريين وحلفاءهم يخوضون ثورة خاصة ضد هيمنة فارسية عمرها خمسمائة عام كما قلنا وبين إشكالات الحركة الإسلامية العراقية " الشيعية " شديدة التعقيد " والتي تحاول طرح بديلها السياسي الإسلامي كأي حركة سياسية .ومن العجيب والطريف الذي قد لا يستوعبه غير العراقيين أن مؤسسة الحوزة العلمية في العراق ظلت طوال تاريخها بعيدة كل البعد عن الميول الطائفية والعداء للطوائف الأخرى وهذه حقيقة جلية موثقة في سجلات الأحداث التاريخية الفاصلة في تاريخ العراق الحديث والقديم ، ولعل ما حدث اليوم بين حيي الأعظمية السني والكاظمية الشيعي في بغداد أكبر دليل على ما نقول ، فبدلا من أن نرى شيعة الكاظمية يعبرون مسلحين الجسر الذي يفصل بين الحيين على نهر دجلة ليجزروا ويبيدوا سكان الأعظمية السنة وجدناهم يصلون سوية كما فعل أجدادهم أيام حرب التصدي للغزو البريطاني سنة 1914 ثم يخرجون في مظاهرة واحدة وأياديهم متشابكة ضد الاحتلال الأمريكي ، فهل سيفهم المحتل الأمريكي المتخم بدروس كوسوفو وأفغانستان وبورندي هذه الكيمياء المجتمعية العراقية الرائعة ؟ وباختصار فإن الموقف التحرري اليساري والعلماني من الحركة الإسلامية ينبغي أن يكون مؤيدا لحقها في النشاط السياسي السلمي القانوني كباقي الحركات والتيارات دون شطب أو احتكار أو استبداد ضدها أو من قبلها مثلما ينبغي أن يكون له موقفا نقديا إزاء مظاهر الاستبداد والقمع واحتكار الميدان والدفع باتجاه قيام دولة ثيوقراطية دينية إذا ما أطلت تلك المظاهر برأسها .
- باختصار شديد ، سيكون من واجب الاستقلاليين والوطنيين التحرريين العمل يدا بيد مع جماهير المؤمنين من جميع الطوائف والأديان في العراق و مع أحزابهم السياسية ومؤسساتهم الدينية كالحوزة ضمن برنامج يقاوم الاحتلال ويمنع عودة النظام المنهار الى السلطة ، والواجب الثاني للاستقلاليين الوطنيين هو التصدي لكل محاولات إقامة دولة الاستبداد الديني على اعتبار أن هذا الخيار خطير ومستحيل . فهو خطير، لأنه سيؤدي لا محالة الى حرب أهلية ذات طابع طائفي ، فلا السنة سيقبلون بقيام دولة إسلامية شيعية من نوع ولاية الفقيه الخمينية ولا الشيعية العراقيون يمثلون حزبا منضبطا ومنسجما واحدا وبالتالي فثمة خطورة لحدوث صراع حزبي بين الأحزاب الشيعية ذاتها مشابه لما حدث في لبنان بين "حركة أمل" الشيعية و "حزب الله" الشيعي هو الآخر .وهو مستحيل عمليا لسببين ، الأول يعود بجذوره الى التركيبة المجتمعية العراقية شديدة التعقيد ، والثاني لأن المحتل الأمريكي لن يقبل بنتيجة مفادها أسقطنا نظام صدام الشمولي لنربح جمهورية إسلامية في العراق !
- هامش :
يبدو أن الحلقة السابقة من هذه اليوميات ، والتي كانت بعنوان " الملف السري لرئيس الحكومة الجلبية محمد الزبيدي " كان لها تأثير "كفخة " بحذاء من الوزن الثقيل على رأس حزب الجلبي ، فقد انهالت عليَّ الرسائل الإلكترونية والمكالمات الهاتفية المهددة والمتوعدة والتي ألفتُ قماءتها وسخفها ، ولكنني أود التوقف عند مثال واحد تَذَرْوَنَ فانحدر في سقوطه : فقد كتب أحدهم ويدعي " عدنان فارس " مقالة على موقع "صوت العراق " وهو واحد من المواقع العراقية الشريفة والجريئة الى جانب "كتابات" و"الحوار المتمدن " و"عراق فور اول" و "رهك ميديا " التي رفضت ضغوطات والابتزاز وظلت تنشر مقالاتي ، في حين امتنعت مواقع "وطنجية و إسلامجية " أخرى عن ذلك وفي مقدمتها "موسوعة أبو الفرارات" و"برلمان المطيرجية " الشامت بجراحات شعبنا والذي تخصص مؤخرا في نشر كل الشتائم والتهجمات بحقي ورفض وبالمطلق نشر أي رد من ردودي وتلك هي الديموقراطية في برلمانات العبيد !
وأعود الى صلب الموضوع ، ففي مقالته تلك توعدني الكاتب بأنه سيستمر بالنضال من أجل إقامة قواعد أمريكية في العراق والتي لا أشك في أن الشعب العراقي سيدفنهم فيها ، ولكن الذي أضحكني هو أن الكاتب الجلباوي طائش الصواب تمادى في غيه و شكك في عروبتي أنا علاء اللامي ! ومع إنني لست قوميا أو شوفينيا أو عشائريا ، ولكنني أعتز بهويتي العراقية العربية الإسلامية الإنسانية و باسم القبيلة التي أنتمي لتراثها المقاوم وأعني القبيلة القحطانية العراقية المعروفة بني لام ! وحين يشكك شخص اسمه " عدنان فارس المدري شنو " بعروبة علاء اللامي فلابد من القول " هزلت والله حتى المهزلة !" كان عليك يا كويتب أن تعرف -لو كنت عراقيا حقا - أن هناك مقام عراقي مشهور اسمه " مقام لامي " وطور في الغناء الريفي اسمه " طور لامي " وحلية ذهبية يعرفها العراقيون تسمى "اللامية" .. الخ ، دع عنك أخبار عرب بني لام ضد الحكم العثماني ودورهم في معارك التصدي للاستعمار البريطاني تحت قيادة آل الخالصي على جبهة العمارة سنة 1914 وما بعدها .. نعم ، لقد هزلت والله يا "عدنان فارس المدري شنو " حتى المهزلة !وأعترف بأنك أخرجتني من حزني على أهلي المذبوحين برصاص أسيادك الهمج الأمريكان و أضحكتني .. ودمت أنت وجلبيك القميء ورديفه أبو حيدر الكرادي و رفاقكم المرتزقة من جيش أنطون لحد للقواعد العسكرية الأمريكية التي تهددنا بها مع إنها مستحيلة البقاء على ثرى الرافدين الذي أنجب الشيخ المقاوم غضبان البنية اللامي فهل سمعت بهذا الاسم ؟ نعم ، ستجعلون العراق شبكة من القواعد الأمريكية ولكن العراقيين سيدفنونكم فيها وسوف تثبت لك الأيام القادمة صحة ما أقول ..فالعراق ليس بورندي .. يا عدنان فارس المدري شنو !