أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-8















المزيد.....


من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-8


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1589 - 2006 / 6 / 22 - 09:33
المحور: القضية الكردية
    


5ـ لا تزال الأبعاد المكانية للحضارة الديمقراطية في أطوارها الأولى. ولكن يمكننا القول أن المرحلة الحضارية التي تخضع للظروف الجغرافية قد أصبحت في طيات الماضي لأول مرة، وتعني هذه الحقيقة أن تطور الحضارة الجديدة لا تجعل الظروف الجغرافية المعينة ضرورية، فجميع العصور الحضارية السابقة ومن خلال توسعها وتطورها خضعت للتأثير الشديد للجغرافيا، وانتهت هذه المرحلة مع عصر الرأسمالية، ولا تشعر الرأسمالية بالحاجة لقطعة ارض من أجل التطور والاتساع، رغم بقائها غير مستقرة في كافة بقاع العالم في الوضع الحالي، وتبحث لها عن ظروف خلق قانون مشابه وساري المفعول في جميع أنحاء العالم تحت اسم العولمة، فعوضاً عن الجغرافية الملائمة فإنها تبحث عن القانون، وبطبيعة الحال فهي تقصد بالقانون التخلص من البنى التي تشكل عائقاً أمام التمأسس السياسي والاقتصادي، وبهذا المعنى فان الرأسمالية المعاصرة لا تمارس النزعة القومية بل الكوزموبوليتيكية، فالرأسمالية القديمة كانت تفرض المفهوم القومي والدولة القومية، لكن الرأسمالية الكونية لا تضع المفهوم القومي أو الدولة القومية في الأولويات، إذا لم تقع في وضع اضطراري، بل حتى تراها عائقاً أمامها. وبالاستفادة من إمكانيات الثورة التقنية العلمية تسعى ولأول مرة إلى مأسسة العولمة وفق مصالحها، وباتت مقاييس العولمة سارية المفعول بدلاً عن المقاييس القومية، وأصبح كل شيء يقيّم ويثمّن حسب مقاييس العولمة، حتى أنها ترمي القيم القومية في متحف الآثار القديمة عندما لا تنسجم معها، هذه الحملة العصرية للرأسمالية ليست حلاً لتخلصها من الأزمة العميقة والمستمرة التي تعاني منها، إنما تهدف إلى إطالة عمرها والوصول إلى قوة حاسمة من جديد في الحضارة الديمقراطية من خلال إجراء التحول الضروري. من هذا المنطلق يجب علينا أن نؤكد أن الرأسمالية أدركت وشعرت بالحاجة للتحول على المستوى النظري والتطبيقي بشكل مبكر، وبالاستفادة من التجربة التاريخية أثبتت تفوقها على الاشتراكية المشيدة من ناحية التحرك المبكر حيال أجراء التغييرات التي فرضتها الثورة العلمية والتقنية، وإن ذلك سار المفعول بالنسبة لمراكز الرأسمالية المتطورة. ففي أواخر القرن العشرين عملت عل ضم جميع أنحاء العالم بما فيها الاشتراكية المشيدة إلى نفسها كالمحيط تحت اسم العولمة، وهنا شكلت علاقات المراكز والأطراف المشكلة الساخنة للعولمة الجديدة.
ستكون الأمم المتحدة مؤسسة دولية قيد التجاوز في حال عدم تجديد نفسها، كما تواجه الاتحادات والوحدات الإقليمية والقارية المشابهة الحاجة لتجديد نفسها، حيث غدت أشكال الاتحادات القديمة بين الدول في المجال السياسي في وضع لا تشكل جواباً لعولمة الرأسمالية ومقاييس الحضارة الديمقراطية للعصر، كان ذلك نتاجاً لتوازن الرأسمالية التقليدية والاشتراكية المشيدة، إذ يجب تجاوز هذه البنى السياسية طالما تم تجاوز هذه المرحلة.
يجب إنهاء حلف الناتو وحلف وارسو كمؤسسات عسكرية أساسية، حيث بات حلف الناتو في وضع غير وظيفي بانتهاء حلف وراسو منذ أمد، ولا تنجوا التعريفات للأدوار الجديدة من افتقاد مغزاها، لقد تم تجاوز مرحلة الأحلاف العسكرية هذه والمشابهة.
من الصعب على المؤسسات الاقتصادية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي " IMF " والبنك الدولي مواصلة كيانها دون تجديد، حيث يستند منطق هذه المؤسسات على تجريد دول الاشتراكية المشيدة من الناحية الاقتصادية، وربط اقتصاديات الدول النامية بالمراكز الاقتصادية القوية، لن يكون هناك مفر من ترتيبات اقتصادية جديدة طالما تم تجاوز دعائم هذا المنطق الفج في العالم، وان معارضة العولمة في الأساس لا تعني معارضة التحول العولمي، بل تكون ضد هذه الترتيبات القديمة غير العادلة.
أدركت الرأسمالية الحديثة التي تتحرك بوعي هذه الحقيقة على أساس الدروس التي تلقتها من خلال الحرب العالمية الثانية والعديدة من الحروب الإقليمية والمحلية، بأن الخيار الفاشي لن يكون السبيل الناجح للخروج من الأزمة، بالاستفادة من تجربة البرجوازية الديمقراطية القديمة، يبدو وكأن المركز والدول المحيطة قد اقتنعت بأن الانسجام مع التطور الحضاري الجديد هو الخيار الأمثل. ويعتبر ذلك من اكثر العوامل التي تزيد من فرص تطور الحضارة الديمقراطية. لقد تمسكت المراكز الرأسمالية التي كانت تتهرب من الديمقراطية وتحاول اللجوء إلى التخلف والفاشية، بالنظام الديمقراطي منذ النصف الثاني للقرن العشرين كخيار عام. ورغم عدم تخليها عن أولويات ومقاييس طبقتها، فهي طبقة وعت اكثر من غيرها ضرورة الالتزام بالمقاييس الديمقراطية العامة، لكي لا تفقد كل شيء.
إن الحضارة الديمقراطية ليست ظاهرة أو إبداع للرأسمالية على الإطلاق، بل أنها مرحلة تاريخية واجتماعية عامة من أجل الخروج من الأزمة كما بينّا ذلك في القسم المعني. فالأمر الذي نجحت الرأسمالية فيه هنا هو سرعة الإدراك والتأقلم. لكن الاشتراكية المشيدة التي لم تظهر هذا الوعي والانسجام، لم تنجوا من الانهيار. لأن منطق العصر وقوة جريانه هو العامل الأكثر مصيرية في النتيجة.
هبوط البعد المكاني للحضارة الديمقراطية إلى الدرجة الثانية يأخذنا إلى الاستفسار عن ماهية أولوياتها، وتعتبر الصفة الكونية للتطور التقني والعلمي عاملاً أساسياً في ذلك إذ يمكن تقييم العلم والتقنية على انهما قيم اجتماعية أساسية باعتبارها ملكاً مشتركاً لكل البشرية، حيث يملكان طابعاً جماعياُ لدرجة لا يمكن أن تكون ملكاً لأية حضارة أو طبقة أو قومية، فقد ساهمت كل البشرية في هذا التطور، وإن الخطوات الصغيرة التي خطتها المجموعات العشائرية الأولية في العصور المتوحشة، لا تقل أهمية عن الخطوات التي خطاها العلماء الأمريكيون أو الأوروبيون. هكذا يبين التاريخ بان التطور العلمي والتقني الذي ظهر في المرحلة الثانية اعتبارا من أعوام 1600م، قد توازن مع ما تحقق في الهلال الخصيب من تطور ما بين أعوام 6000 ـ 4000ق.م، وهناك إجماع عام في الرأي على أن علم وتقنية العصر النيوليثي يعتبر من اكثر التطورات التي خلقت وأحيت نتائج كونية بالنسبة للإنسان من الناحية المكانية والزمانية والشمولية.
يعد خروج النمط القديم لتقاسم العالم من جديد عن معناه ، بعد حمل العلم والتقنية خصائص كونية، وهذه الظاهرة تحققت لأول مرة من حيث الشمولية التي تحملها، وتبين بانها لن تعقد روابط وثيقة على النمط القديم بين الانتشار المكاني والتطور، وتؤكد هذه الحقيقة أنه لن يتم تقييم الحضارة الديمقراطية كنتاج خاص لمنطقة معينة، بل سيكون من الصواب إدراكها على انها إبداع كوني تماماً كالعلم والتقنية، وهي من اكثر النتائج الحضارية قيمة لأنها تتلخص في التجربة المشتركة للإنسانية والمصفاة عبر التاريخ، ولن نكرر الحديث عن تطورها وشموليتها وشكلها لأننا توقفنا عليها سابقاً على مستوى التعريف، بل سنسعى الى تقييمها بخطوطها العريضة من منطلق تمهيد السبيل لفائدة تعليمية مع الأخذ بعين الاعتبار تحقيقها على البعد الكوني.
تظهر المراكز القوية للرأسمالية قوة الوصول بشكل مبكر للحضارة الديمقراطية. وأثبتت هذه السمة على وجود الصلة بين الحضارة الديمقراطية والتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وبمعنى أصح هو تأثير الحضارة الديمقراطية المصيري على التطورات. فكل دولة ونظام اجتماعي يعايش هذا التطور يمكنه ان يجعل بنيته السياسية والاقتصادية اكثر حيوية وإنتاجاً. ونظراً ولأدراك المراكز المتطورة الرأسمالية المتطورة لذلك بشكل مبكر وشامل، فإنها حظيت بدور الطليعة لتطور المرحلة الجديدة، وخطت أشواطا متقدمة في البحث النظري والتطبيقي للديمقراطية تجسيداً وممارسة.
تلعب أوروبا الدور الطليعي في هذا الأمر، وتشعر جميع الدول الأوروبية بضرورة تجسيد النظام الديمقراطي وتطويره حتى لو كانت تتميز عن بعضها. فالنتائج الكبيرة والدامية، التي أدت إليها الصراعات الدينية والقومية التي استمرت مئات السنين، جعلت أوروبا متمسكة بحزم بالطابع الوفاقي والسلمي للديمقراطية فان حل مشاكل الحدود السياسية والإيديولوجية والدينية والأثنية والعرقية دون تحولها إلى صراعات مهما كانت المشاكل معقدة، يعتبر من أهم خصائص الثقافة السياسية الجديدة. فالتعبير الملموس لهذه التطورات مع مرور الزمن هو تطور ظاهرة الاتحاد الأوروبي، إذ ان الاتحاد الأوروبي ليس اتحاداً سياسياً وحسب بل قاعدةً حضاريةً عامة، حيث توجد مشاكل توسعية وتعميقية للاتحاد، والاحتمال الكبير أن يوحد الاتحاد جميع الدول الأوروبية تحت سقف فيدرالي، هنا لا يمكن التفكير بأن يؤدي ذلك إلى تراجع لأوروبا، بل من المتوقع أن يؤثر على العالم من خلال المشروع الحضاري الجديد، حيث يوطد الاتحاد الأوروبي موقعه الطليعي في العالم بدرجة ترسيخ وتوسيع الحضارة الديمقراطية، لكن موقعه المذكور لا يمتلك القوة الكامنة من أجل التقدم، وذلك بسبب ولادة وتجذر الرأسمالية فيها، إنما ستمثل القوى اليمينية لتطور الحضارة الجديدة. ولا يمكن تطور الدور المركزي الجديد إلا في موقع بعيد عنها ومتناقض معها كما شوهد ذلك في كثير من التطورات الحضارية، وإن الذي سيأخذ هذا الدور سيبدي موقفاً يتحدد من خلال الظروف الثقافية وليس الجغرافية.
لقد استخدمت الحضارة الأوروبية قواها الكامنة إلى حد كبير، ولم يبق الكثير من الأشياء لتخلقها. إذ أن الروح والذهنية الرأسمالية قد كونت نسيجها الصلب، ولذلك سيكون الانفتاح على الشخصية الحضارية الجديدة محدوداً، لكن الكثير من الأشخاص ومراكز القوى سيقومون بلعب دور مساهم في الحضارة الجديدة بسبب التناقضات الداخلية. لا يمكن إنكار جميع الخصائص الأوروبية إلا من قبيل التخلف وهذا ما لا يتيح إمكانية للتقدم، فما يجب القيام به هو أخذ ما يجب أخذه عن طريق موقف انتقادي وتحطيم القشرة المتعصبة والتخلص منها، إذ لا يمكن لأوروبا أن تلعب دوراً إلا على مستوى المساهمة، لأنها لا تمتلك القدرة لكي تصل إلى حضارة جديدة من خلال ردة فعلها. وإن الموقف الصحيح لا يكمن في انتظار دور المنقذ ولا إنكاره، بل يتطلب هذا الموقف إظهار قوة تستطيع تجاوزها من خلال تحليلها والهوية الأيديولوجية الجديدة. وستصل أوروبا إلى موقع مشابه للوضع الذي شهدته الحضارة السومرية والمصرية والإغريقية والرومانية في المراحل السابقة، وفي الحقيقة أنها تمر في المرحلة التي يجب أن تعيشها بعمق. منذ الآن تجاوزت الكثير من الأطراف أوروبا كمركز، فأوروبا تصبح مسنة في الوقت الذي ينضج فيه وليدها، وتعتبر أمريكا هي الابن الفظ لأوروبا والذي ولدته في قارة أخرى. حيث سمحت الجغرافيا العذراء والملائمة لأمريكا أن تنمو بشكل سريع في شمالها، والجغرافيا التي واجهت النزاعات المغامرة الأوروبية، قد شهدت في بدايتها مجازر بحق الهنود الحمر، وحققت استقلالها في القرنين الماضيين بعد انتفاضة معينة، كما أحرزت تفوقاً في الكثير من المجالات، وأظهرت القوة المتدفقة من جميع أطراف العالم نمط عالم الناشئين الجدد حيث تنبع فظاظته وعدم خبرته من خاصيته تلك. لقد كوّن السكان الذين تحركوا بحماسة ونفور من الخسارة في بلدهم بنية منطقية جامدة وعالماً روحانياً بلا ضمير ورحمة وحصروا دنياهم في المال، واستندوا إلى مقاييس المصلحة والذرائعية، وكأن جميع الذين لا جذور لهم قد توحدوا هنا وشكلوا عالماً مضاداً، وبذلك خلقوا الثنائي؛ الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والعالم من جهة أخرى.
القول بأن القرن العشرين هو قرن أمريكا قول صحيح إلى درجة ما، إذ تأتي مساهماتها في العلم والتقنية في المقدمة، كما لا يمكن التقليل من دورها في تطوير الحضارة الديمقراطية، حيث تقدم على خطوات سريعة وقوية في العولمة مع أنها ملحق ومتمم لأوروبا في كلا المجالين، وتعتبر نفسها في الذروة في أواخر القرن العشرين، لكن المؤكد هو أنها تعيش حالة تفسخ داخلي، ونرى مؤشرات الانهيار تتصاعد حتى وإن لم يشبه ذلك آخر أيام انهيار روما، فالاستعمار الجديد الذي أرادت تطويره في العالم قد تم تجاوزه في فيتنام، أما خطوات العولمة فإنها تواجه ردود فعل وتتجرد يوماً بعد يوم بخصائصها الموجودة، فالسيادة العالمية تعمل عبر الأمم المتحدة والناتو وصندوق النقد الدولي بشكل بطيء ومتثاقل، ويظهر أنه سيتم تجاوز هذه السيادة في القرن الواحد والعشرين وتراجعها الى دور ثانوي.
يمكن رؤية هذا الوضع كانعكاس لأوروبا، ولا يمكن التفكير بعدم عيش الأولاد لما يعيشه المركز الأم. ما من جديد تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لعصر الحضارة الديمقراطية، لكن الدور الذي ستلعبه في العالم حتى وان كان محدوداً يتطابق مع الاتحاد الأوروبي، ولم تعد تغذيتها للنزعات السلطوية والفاشية تخدم مصالحتها، إذ لا تملك قوة من أجل تسيير تدخلاتها العلنية، واتخذت من مواصلة نفسها عن طريق العولمة والتقنع بالديمقراطية بالاستناد على قوتها العلمية والتقنية، إستراتيجية أساسية لها. من المؤكد أنه سيتم تدريجياً الحد من تأثيرها واستجوابها داخلياً وخارجياً، نجد هنا الوضع الذي عاشه العالم الإغريقي أمام روما في الثنائي أمريكا وأوروبا وكأن التاريخ يعيد نفسه، فتشابه مصيرهما امرٌ طبيعي. ومثلما سارعت حملة البرابرة من انهيار روما، فإن التيارات التي تمتلك موقعاً مشابهاً وإن لم تكن ببرابرة العالم اجمع، ستلعب دوراً مشابهاً في أزمة وانحلال الولايات المتحدة الأمريكية. بهذا النمط الديالكتيكي للقرن الواحد والعشرين ستقع أمريكا في الوضع الذي وقعت فيه الاشتراكية المشيدة.
تشهد أم القارات آسيا تطوراً جزئياً، ففي الشمال والوسط هناك تحالف بقيادة روسيا، والصين في الشرق والمحيط الهادي، والهند في الجنوب. ولا يمكن التحدث عن الموقع الخاص لليابان واستراليا، حيث لا يوجد لهما أي دور سوى أنهما امتداد للحضارة الغربية.
يعيش الروس وروسيا تأرجحاً عميقاً بين الطابع الأوربي والآسيوي بعيداً عن الأصالة. إن محاولتهم في أن يكونوا رواد الاشتراكية المشيدة قد كلفهم وكلف العالم كثيراً، ولهم دور كبير في مضي القرن العشرين بشكل دموي ومأساوي، حيث حاولوا إلباس الأشكال الدوغمائية والطوباوية العديمة المعنى على الإنسانية كقميص المجانين باسم الاشتراكية، وعندما لم يفلحوا لجؤوا دون حياء إلى سياسة التملص وكأن هذه ليست مسؤوليتهم وهكذا أثبتوا انحطاطهم، وانتقلوا من الشيوعية المتطرفة إلى الطرف الآخر، فلم يترددوا في احياء ازدواجية الانحطاط والتفوق لدرجة السقوط في نمط المافيا الرأسمالية وأحياء طابعها. وباتوا في وضع مترنح لا يعلمون إلى أين يتوجهون، يبدوا أنه لا مفر من استمرارهم في الازدواجية الموجودة في طابعهم، فلم يتأخروا عن معايشة الوضع الذي يشبه الاشتراكية المشيدة في الوقت الذي يعمقون فيه الرأسمالية، وعندما يلمون شملهم سيحاولون أن يكونوا ذوي نفوذ في عدة مناطق من العالم وفي مقدمتها آسيا الوسطى والقوقاز، لكن لا يمكن أن نتوخى منهم وصول مستوى في القرن الحادي والعشرين كما كان عليه في القرن العشرين، ولا مفر من توطيد موقعها كمركز في الأطراف ومعايشة مرحلة الترويض، وسيحاولون تقليد أمريكا وأوروبا بالعلم والتقنية والحضارة الديمقراطية، ولا يمكن التفكير بمساهمة أصيلة من قبلهم.
يمكن أن تشهد الصين تطورات غريبة، حيث استطاعت حتى الآن النجاح في مواصلة الزواج البشع مع الرأسمالية في الاقتصاد ومع الاشتراكية المشيدة في السياسة، سيؤدي هذا الزواج غير المشروع إلى نمو تنيني من ناحية التكاثر السكاني والعاملين، ولم يتضح بعد إلى أي مدى ستكون حضارة أصيلة. لقد لوحظ بان دور الصين عبر التاريخ يكمن بتفوقها في القدرة على التقليد البارع للحضارات الكبيرة، ويمكن القول بان الصينيون مقلدون بارعون، كذلك يمكن اعتبار اليابانيين والشعوب الهند ـ الصينية ضمن هذه الموجة، إذ نجحوا في تقليد الاشتراكية المشيدة، حيث يقتبسون ما يفيدهم من جميع الأنظمة، وليس معروفاً ماذا سينشرون في العالم مقابل ذلك وكيف. إن احتمال نشر السلام والهدوء قوي، لكنها تأتي على رأس القوى التي ستطور الفاجعة في حال دخولها في حرب مع أية قوة في العالم، ويظهر أنه لا مفر من أن تكون قوة صاعدة في القرن الواحد والعشرين. إذ إن نتيجة الزواج البشع تثير الفضول، ويجب أن لا ننتظر أن تكون مركز انطلاقة لحضارة مميزة. أما الصينيون فيمثلون الرأسمالية أكثر من الرأسماليين والشيوعية أكثر من الشيوعيين بإبداء موهبة التنقل من مسار إلى آخر، ولكن تلك الموهبة لن تؤدي إلا إلى تطوير التقليد فقط، ولا علاقة لهم بأي تركيب جديد.
أما الهند فعلى ما يبدو أنها ستواصل تعميق ثقافات المحتلين التي شهدتها عبر التاريخ أكثر من أصالتها، لقد تطورت من خلال أصداء الثقافة الآرية في إحدى مراحل التاريخ، ووصلت البراهماتية وخلقت بوذا، وعاشت الثقافة الإسلامية أيضاً وتبنت الإقطاعية بعمق، فلم يبق أي احتلال إلا وتعرفت عليه وعاشته، بذلك تشبه المرأة التي تنام مع المحتل ومن ثم تتبناه، وكأنها استفادت من الزوج الإنكليزي من خلال زواجها الرأسمالي، وتستطيع تطبيق الديمقراطية الليبرالية، كما يمكن أن تصل إلى مستوى أمريكا في العلم والتقنية، وتمتلك موزاييكاً شعبياً يرجح جانبه السلمي، وستحافظ على مكانتها في الإرث الآسيوي كثقافة أكثر تلوناً، لكنها مازالت بعيدة عن الخطوة الحضارية، وستواصل تطورها الصادق في النهج الإنكليزي، وبالحفاظ على هويتها التاريخية ضمن هذا الإطار ستتمكن من التطور ومواصلة وجودها.
هناك الكثير من الثقافات الداجنة في الشرق الأوسط كالأتراك والإيرانيين والإندونيسيين، ولكنها ملائمة لاحتلال مكانتها في معادلة الشرق الأوسط. ولا يمكن انتظار توحد روسيا والصين والهند في البوتقة الآسيوية المشتركة، ويبدو أنه من غير الممكن وصولهم إلى مستوى أمريكا أو الاتحاد الأوروبي بجوهرهم الحالي، كما لا يظهر في الأفق أي موقف تحالفي عام. وستظل آسيا كما كانت في التاريخ وستواصل وجودها لتكون الجبهة الخلفية لجميع الحضارات، لكنها لن تتخلى عن موقعها الذي تظهر فيه كالمارد.
أما أمريكا اللاتينية، فهي مزيج من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وامتداد لهما. وقد أدت العلاقات التي بنتها معهما إلى تهجين خارق، وكم هو مذهل تهجين الأعراق والثقافات والأنظمة وجوانبها الجميلة الأخرى..؟ من الصعب خروج أصالات منها لكنها ثقافة حافلة ببطولات وأصالات فردية. فمن المكن ان يتواصل ظهور أمثال بوليفار، غيفارا،زباتا وكاسترو. ويجب ألا ننتظر منها أن تقلد أخاها الأكبر مثلما تفعل الهند أو الصين. لديهم طابع التمرد، لكن يصعب خلقهم لخطوات حضارية جديدة بشخصيتهم المطعمة. ومن المنتظر أن يمثلوا قارة تحيي آمال التجديد من خلال الأنطلاقات الثورية الجديدة، وأن يمثلوا ثقافاتها أيضاً. فلم يتخلوا بسهولة عن أن يكونوا شخصيات الأمل الشريفة للذين يكونون في وضع صعب، لكن قوتهم لا تكفيهم لخلق نظام، ويجب اعتبار تحقيق تجسيدهم للحضارة الديمقراطية المعاصرة في القرن الواحد والعشرين نجاحاً بالنسبة لهم.
ستواصل أفريقيا السوداء لعب دورها في أدنى المستويات، وسيبقى العرق الأسود قضية كبيرة، أما مرض الإيدز فهو رمز هذه الحقيقة، علماً بأنها قادرة على ان تمتلك كل شيء كي تكون اماً مزدهرة. لكن لن تنجو بسهولة من السقوط في أسوأ الأوضاع على أيدي أزواجها السيئين المحليين منهم والأجانب. غير إن شروقها سيكون على شكل أم سوداء جميلة حتى ولو تأخر ذلك، وستكون من اكثر الساحات ملائمة لانتشار الحضارة التي ستخلق بطابع المرأة وليس الرجل. وستتبعها أمريكا اللاتينية والهند، حيث يمتلك الثلاثة إرث الأم والمرأة ويبشرون بالأمل. ستقاوم أفريقيا ـ حتى لو كان ذلك متأخراً وصعباً ـ كي تصل إلى شخصيتها الحقيقية بانتصار الحضارة الجديدة.
ان الدوغمائية المعتمدة على ترسيخ القديم في مواجهة التطور الحضاري، وقوة اليوتوبيا التي تعبر عن تصورات تحديد الجديد قد تعرضتا إلى هزيمة كبيرة. ويقابل قدرتها على السير بشكوك، ونشهد مراحل مشابهة لها في التاريخ. وتزداد الشكوك والشبهات حول الماضي في مراحل انهيار وتحول الحضارة السومرية في أواخر أعوام 2000 ق.م، وتفسخ وجهات النظر العبودية في الأعوام الميلادية، ومراحل ظهور حركة النهضة في أعوام 1500 م. فالبحث في المستقبل والتشاؤم منه أمران متداخلان، حيث يشهد عالم عام 2000 وضعاً مشابهاً، ففي الوقت الذي تحتضر فيه الدوغمائية تنهار الأحلام من خلال وقوعها في وضع يوتوبي، وتترك الذرائعية الضيقة تأثيرها على الناس بحيث يكونون بلا حول ولا قوة وبدون حماس. لا نرى في الرأسمالية إمكانية خلق أحلام جديدة، إذ يمكن لأمريكا خلق أحلام جديدة في عالم أفلام هوليود فقط، لكن ليس بإمكانها إشغال وتخدير الإنسانية لفترة طويلة بذلك. إن لتكوين المجتمع الاستهلاكي والذرائعية السارية المفعول إرثاً فلسفياً وخيالاً يتناقض مع جوهرها. سيكون العيش اليومي هو المبدأ الساري، ويعتبر ذلك جعل كل يوم من مراحل الأزمة من الأيام العادية. إن العلة الموجودة في اليوتوبيا الشيوعية هي إظهار واقع عملي يتناقض مع الأهداف التي تصبو إليها، لقد أدى ذلك إلى الشعور بالشك الكبير حيال جاذبية الاشتراكية في المثال السيئ للاشتراكية المشيدة وتحتاج الاشتراكية إلى جهود مضنية لتجديد نفسها والتحول الجذري.
يجب على إنسان هذا العصر أن يبدأ باستقصاءات كبيرة من جديد في واقع كهذا. ويمكن أن ينقذ يومه بما يمتلكه، لكنه لا يمكن أن يبني مستقبلاً متجذراً لنفسه. فقد وعى بأنه ليس في وضع يتوخى فيه نجدة من الدوغمائية. وكما اختبر ورأى أن الانجرار خلف اليوتوبيات التي لا تمتلك أسساً علمية أو تقنية كافية، لم تؤد إلى نتائج مختلفة عن الدوغمائية، ومع ذلك فإنه يحيا عصر أكبر الثورات العلمية والتقنية في التاريخ. لقد أحاطت الحضارة الديمقراطية التي قامت على هذه الأسس بالعالم كله. حيث لا تزال الحضارة الديمقراطية بحد ذاتها بعيدة عن تليين كيان القطبين المضادين اللذين تجاوزا مرحلتهما الوحشية، وعن وضع حلول جذرية بدلاً من تسهيلها عن طريق المحافل الوفاقية، وما زالت بعيدة عن تجاوز الضعف في جعل الديمومة ذات مرحلة طويلة وكاملة. في الحقيقة إن المرحلة الراهنة هي مرحلة تاريخية يجب معايشتها بترسيخ البحث والاستقصاء، وإيجاد الحل الجذري، والتي يتطلب استمرارها طويلاً، ولا يمكن تجاوزها، فبالحلول غير الناضجة لا يمكن الحيلولة دون ظهور نتائج وخيمة كما شوهد في أمثلة كومونة باريس والاشتراكية المشيدة.
إن النتائج المأساوية التي تعرضت لها الكثير من الممارسات الثورية ذات الأهداف السامية والمساعي المقدسة لها علاقة بذلك الواقع، وستخلق التركيبة الإنسانية الجديدة في مرحلة الحضارة الديمقراطية الكثير من الأطروحات والأطروحات المضادة المتشابكة ذات الاتجاهات المتعددة، كما وستخلق في النتيجة نضالا لا يعتمد على العنف، إنما على حق الدفاع المشروع عن الحقوق الكونية الأكثر إنسانية والمتعددة الألوان. ومازال عصرنا بعيداً عن خلق تركيبه رغم امتلاكه لرصيد من التطور في هذا الجانب، وهو ما يحدث في الكثير من المراكز الهامة في العالم. إن تحويل مفاهيمنا وقدرة ملاحظتنا إلى التراث الثقافي للشرق الأوسط الذي أصبح مهد الحضارة من جديد، وخلق شبابه وتقييم أفقه وقوته الكامنة، سيلعب دوراً في إظهار تركيبه المحتمل من اجل الحل.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث ...


المزيد.....




- آليات الاحتلال تطلق النار العشوائي على خيام النازحين في مواص ...
- الأونروا: نصف مليون شخص في غزة معرضون لخطر الفيضانات
- -هيومن رايتس ووتش-: استهداف إسرائيل الصحفيين في حاصبيا جريمة ...
- عدنان أبو حسنة: منظمات الأمم المتحدة ليست بديلا عن الأونروا ...
- تشديد أمني وحملة اعتقالات تستهدف مسيرة لأنصار عمران خان في ب ...
- منخفض جوي على غزة.. أمطار غزيرة وأمواج البحر تغرق خيام الناز ...
- قائد الثورة : اصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو غير كاف بل يجب ...
- قائد الثورة: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكيان الصهيون ...
- حملة اعتقالات بالضفة تطال 22 فلسطينيا بينهم صحفي وجريح
- هيومن رايتس:-إسرائيل- استهدفت صحافيين بلبنان بأسلحة أميركية ...


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-8