|
كيف هزمت الثورة الروسية الأوبئة؟
محمد محروس
الحوار المتمدن-العدد: 6586 - 2020 / 6 / 7 - 10:30
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ترجمة محمد محروس
تعجز الحكومات حول العالم عن حماية الناس من فيروس كورونا المستجد. لكن هناك طرقًا أفضل لمقاومة الأمراض. بعد ثورة 1917 في روسيا، ظهرت حمى التيفويد وبدت أنها تهديدٌ كبير، لكن الإجراءات الثورية التي قادها الناس العاديون أوقفت انتشارها.
كيف لمجتمعٍ حظى بثورة لتوه أن يتعامل مع الأوبئة؟ لنلقي نظرةً سريعة على روسيا 1917. استحوذت الطبقة العاملة بقيادة الحزب البلشفي على السلطة خلال ثورة أكتوبر من ذلك العام. وقد كان عليهم أن يتعاملوا على الفور مع موجاتٍ من الأمراض تجتاح مناطق واسعة من أوروبا.
في أربعة سنوات، خلَّفت الكوليرا والطاعون والإنفلونزا الإسبانية تأثيراتٍ مدمِّرة. لكن التهديد الأخطر كان من التيفويد، فقبل اختراع المضادات الحيوية، كانت حمى التيفود مميتةً لثلث المصابين بالعدوى.
تنتشر حمى التيفويد عبر بكتيريا تعيش في أمعاء القمل. هذه الحشرة تعيش داخل ملابس مضيفها وتنمو في ظروف الاتساخ والتكدُّس والمرض وسوء التطهير. وكانت الحرب العالمية الأولى بمثابة تربةٍ خصبة لترعرع هذه الآفة. تفشَّت حشرات القمل في ملابس الجنود، وسافرت معهم حيث تقدَّموا أو تراجعوا. وانتقلت الحشرة بذلك لجماهير المدن والمناطق الريفية المدمَّرة، وللأسرى في معسكرات الحرب. وأصابت العدوى الملايين من الناس عبر أرجاء أوروبا الشرقية.
بعد الثورة في روسيا، عزمت الجيوش “البيضاء” على سحق مجتمع العمال الجديد. تحالفوا مع القوات الغازية من 14 دولة لشن حرب أهلية. فرَّت أعداد كبيرة من الجوعى للهروب من الجيوش المغيرة، لتتكدَّس داخل مدنٍ مكتظَّة بالفعل، حيث لم يكن هناك ما يكفي من المساكن اللائقة. وصارت الحشرات تتنامى بينهم.
في عام 1919، ورد أن الزعيم الثوري فلاديمير لينين قال في اجتماعٍ للعاملين بقطاع الصحة: “أيها الرفاق، ينبغي أن نولي كلَّ تركيزنا لهذه المشكلة. فإما أن ينتصر القمل على الثورة، وإما تنتصر الثورة على القمل”. لم يكن ذلك سهلًا، إذ كانت روسيا متأخِّرةً اقتصاديًا عام 1914، وقد قضت الحرب العالمية ثم الحرب الأهلية على الجزء الأكبر من الصناعة الحديثة.
واجَهَ المجتمع الروسي، الذي تديره مجالس العمال الديمقراطية (السوفييتات)، التحدي مباشرةً. أُمِّمَت الخدمات الصحية تحت سيطرة العمال، ومُركِزَت وأُتيحَت بالمجان للجميع. كان ذلك جوهريًا في تطوير خطةٍ لعلاج التيفويد والوقاية منه. وتمثَّلَت المهمة الأولى في زيادة توفير الصحة على نطاق واسع.
ظروفٌ سيئة في خضم الجائحة، سافر الصحفي جاكوب فرييس إلى روسيا لمقابلة الدكتور بيرفوكين من المنظمة المسئولة عن الأدوية. أخبره الطبيب: “نظرًا لتأميم مخازن الأدوية، تُوزَّع الإمدادات الهزيلة من العقاقير بشكلٍ عادل. وعلى الرغم من كلِّ الصعوبات الخارجية، تحسَّنت الظروف الصحية خلال العام الماضي”. وأضاف: “شُيِّدَت مصانع جديدة للدواء، وصودِرَت مخزوناتٌ كبيرة من المضاربين. كان من المستحيل على أيِّ حكومةٍ رأسمالية أن تحمي الصحة العامة بهذا الشكل”.
وقال الطبيب أيضًا: “لقد تجاوزنا الإنفلونزا الإسبانية بشكلٍ أفضل مِمَّا فعل العالم الغربي. ونحن الآن أقدر على مقاومة الأوبئة بقوةٍ أكبر من أيِّ وقتٍ مضى”.
كان فرييس عضوًا في حزب العمال النرويجي، الذي انضم بعد 1917 إلى الكومنترن، تلك المنظمة العالمية التي ضمَّت الأحزاب الثورية سويًا. فربما من المُتوقَّع أن يروي، هو والدكتور بيرفوكين، سرديةً ورديةً لما حدث. لكن الكثير من شهادته أُكِّدَت في مقالٍ كتبه أستاذٌ أمريكي في عام 1993. كتب ديفيد باترسون: “بُذِلَت جهودٌ مكثَّفة لتوعية الجمهور. قامت قطارات السكك الحديدية المزوَّدة بمعارض خاصة بجولةٍ في المناطق الخاضعة للسيطرة السوفييتية”.
وأضاف: “بحلول نوفمبر 1919، كانت فرق التطهير تعالج 40 إلى 50 ألف راكب يوميًا في محطات قطار موسكو. وفي النهاية، أعدت الحكومة السوفييتية 250 ألف سرير لمرضى التيفويد وأنشأت حوالي 300 محطة للتطهير والعزل بطول السكك الحديدية والممرات المائية. أُنشِأت المئات من مفارز الاستحمام والتطهير في الجيش لإبراء القوات من الحشرات والعدوى. وأُقيمَت مختبراتٌ للبحث وتعميم التدابير الفعَّالة”.
يتابع باترسون: “قضت عملية الإبراء على كمياتٍ هائلةٍ من القمل. إذ غطت طبقة من القمل الميت بارتفاع 2 بوصة أرضية غرفة تطهير تابعة للجيش الأحمر. لا شك أن عمليات الإبراء والعزل والتوعية ساهمت في الانحسار النهائي للوباء”.
وبالإضافة إلى توسعة المرافق الصحية، عكف البلاشفة على تحسين أبعاد أخرى من حياة الطبقة العاملة، مثل الإسكان والتعليم المدرسي، وقد استغرق ذلك وقتًا ليس قليلًا. في عام 1919 كتبت إحدى الصحف السوفييتية، “لا يزال مئات الآلاف من العمال يعيشون في الأقبية والمخازن تحت الأرض. لا يزال ملك الموت يتجوَّل في أحياء المدينة، يلقي بظلاله الكريهة على مساكن العمال”.
الفحص لم تكن إجراءات مكافحة التيفويد مفروضة من أعلى فحسب، بل اعتمدت على شبكةٍ من منظمات العمال وطُبِّقَت من خلالها. في وقتٍ سابق من العام 1918، تأسَّسَت اللجان العمالية لمكافحة الأوبئة في المدن والقرى الأكبر. تمثَّلَت مهمتهم في فحص المساكن والهيئات العامة، وتوعية الناس بشأن النظافة، وتوزيع الصابون للقضاء على الحشرات وملحقاتها. انضمَّ الحزب البلشفي والنقابات والمنظمات النسائية والمجموعات الشبابية في الكفاح ضد المرض.كان ممثلو هذه اللجان -من العمال والفلاحين أنفسهم- يتبادلون المعلومات العلمية وينقلونها إلى عددٍ أكبر من السكان.
كانت مشاركة الطبقة العمالية مركزية في هزيمة الوباء. في عام 1920، كتب نيكول ساماشكو، المسؤول الأعلى عن الصحة: “نستطيع القول بلا مبالغة أن أوبئة التيفويد والكوليرا أُوقِفَت بصورةٍ رئيسية على يد لجان العمال والفلاحين. لا يمكن للمفوضية الشعبية للصحة أن تتغلَّب على المصاعب العديدة القائمة في هذا البلد الفقير والمُدمَّر إلا من خلال التأكيد على دعم ومساعدة الشعب”.
جاءت بعض المساعدات الإغاثية من الدول الغربية إلى روسيا -لكن فقط لأعداء البلاشفة. وقام الصليب الأحمر الأمريكي ببذل جهود كبيرة لدعم الجيوش البيضاء الغازية. كتبت المؤرخة جوليا إروين، المتخصصة في التدخُّلات الإنسانية للولايات المتحدة: “كانت الجهود الإغاثية لأعضاء الصليب الأحمر الأمريكي، رغم إنكارهم ذلك -الموجهة للجنود والمواطنين المعارضين للبلاشفة- سياسيةً من الدرجة الأولى من حيث التخطيط والتنفيذ. وكما هو الحال اليوم، فقد مثَّلَت الإغاثة الخارجية الأمريكية منذ بدايات القرن العشرين محورًا مركزيًا في العلاقات الخارجية الأمريكية”.
ربما تجاوز عدد القتلى الروس من التيفويد بين 1918 و1922 المليونين. شمل الموت والد القائد الثوري للجيش الأحمر ليون تروتسكي. لكن دولة العمال سرعان ما دفعت عجلة الموت إلى التراجع. كتب باترسون: “تحت حصارٍ عنيف من السلطات الصحية، انحسر التيفويد بشكل ملحوظ بعد عام 1922”.
ومع ذلك، فقد عاد تفشي القمل -والتيفويد- بعد أن خَنَقَت الثورة المضادة البيروقراطية بقيادة جوزيف ستالين سلطة العمال.
معسكرات الستالينية جاء تفشي التيفود من جديد، وبشكلٍ أساسي في معسكرات الاعتقال، على خلفية الاستغلال المُكثَّف للعمال والفلاحين، الممزوج بإبادة كل أشكال الديمقراطية العمالية. قتل التيفويد حسب التقارير عشرات الآلاف من المعتقلين في معسكر واحد في حي كوليما عام 1938. وككل مناحي الحياة، قلبت الستالينة جوهر الثورة رأسًا على عقب.
لا يقلِّل ذلك مما أُنجِزَ في السنوات المبكرة بعد 1917. كتب جون ريد، الصحفي الأمريكي الثوري، قبل أيامٍ من موته بالتيفويد في 1920، مقالًا لخَّص فيه الموقف، قائلًا إن سلطة العمال “لا تعني أن كل شيء على ما يرام في روسيا السوفييتية، وأن الشعب لا يجوع، وأنه لا يوجد بؤسٌ ومرضٌ ونضال يائس لا نهاية له. الشتاء كان مروعًا بشكلٍ يفوق الخيال. أمراض التيفويد والحمى المتقطعة والإنفلونزا تعصف بأوساط العمال”.
وأضاف: “مؤسسات الشعب، التي تعرَّضت لشبه مجاعة لما يزيد عن عامين، لم تستطع المقاومة. أدت السياسة الواعية للحلفاء بحصار روسيا ومنع الدواء عنها إلى مقتل آلافٍ لا حصر لهم. ومع ذلك، أطلقت مفوضية الشعب للصحة العامة خدمات صحية هائلة؛ شبكة من الأقسام الطبية تحت نظام المجالس المحلية في جميع أنحاء روسيا، وفي أماكن لم تطأها أقدام الأطباء من قبل. تفتخر كلُّ بلدةٍ بمستشفى جديد واحد على الأقل، إن لم يكن اثنين أو ثلاثة”.
وأضاف: “انتشرت مئات الآلاف من الملصقات الزاهية في كل مكان، لتخبر الناس بالصور كيف يتجنَّبون المرض، وتحثهم على تنظيف أنفسهم ومنازلهم باستمرار. في كلِّ قرية ومدينة كانت هناك مستشفيات ولادة مجانية للنساء العاملات”.
في خضم الحرب والمجاعة، استطاع البلاشفة تنفيذ سياسات علمية ومؤثرة وديمقراطية لمكافحة الأوبئة أكثر من أغنى الدول منذ قرنٍ مضى. لهذا، ومن داخل مجتمع رأسمالية الفقر والأمراض، نناضل من أجل الاشتراكية.
– المقال بقلم تشارلي كيمبر – صحيفة العامل الاشتراكي البريطانية
#محمد_محروس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نعوم تشومسكي: العالم يتغير، وهذه مهمتنا، فهل نحن مستعدون؟
-
السعودية من الأمر بالمعروف إلى رعاية حقوق المرأة
-
مشروع ترامب للاستيلاء على ثروة العراق مقابل إعمارها
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|