|
الازمات محرك لتغيير النماذج الاقتصادية، ماذا عن جائحة كورونا؟
عبدالملك الحميدي
الحوار المتمدن-العدد: 6584 - 2020 / 6 / 5 - 02:44
المحور:
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
تقديم شهد العالم أزمات اقتصادية وصحية عميقة على مر العصور، ولكن أزمة الوباء الحالي Covid19، تختلف عن سابقاتها في حجمها وعالميتها والاضطرابات الثقيلة المحتمل ان تخلفها على كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية. في سياق العولمة، فإن هيمنة اقتصاد السوق مقرونة بنشوة انتصار الديمقراطية الليبرالية، نظر إليهما المفكر السياسي الامريكي فوكو ياما سنة 1992 على أنهما "نهاية التاريخ"، قد أخفقتا في تقييم جميع مخاطر الإصابة بالعدوى وقللتا من المشاكل الاجتماعية: الصحة، التعليم، الإسكان، البطالة، الضمان الاجتماعي…، ظلت هذه المشاكل كامنة بين أحضان شعوب الجنوب المتخلفة على الرغم من المستوى المتقدم على الصعيدين التقني والعلمي الذي شهدته بشكل خاص بلدان الشمال المتطورة. إن الأزمات الاقتصادية لنمط الإنتاج الرأسمالي واقع مألوف ومتكرر. حتى أنها تعتبر محرك اساسي وضروري احيانا لتتمكن الرأسمالية من تجديد نموذجها وتنبعث من جديد في شكل معدل. من 1973 إلى 2020، شهد العالم حوالي 400 أزمة، مقسمة ما بين مصرفية، نقدية وأزمات الديون السيادية. الأكثر وقعا منها اجتاحت جل دول المعمور وهمت مجالات النظم الاقتصادية، حيث أفرزت تطورات فكرية عميقة كلها تسعى وراء تراكم رأس المال وتحقيق أقصى حد من الربح مع نمو اقتصادي مستدام. في هذا المقال، سأحاول أن أذكر بالأزمات العالمية الثلاث الاكثر أهمية خلال قرن مضى، وتأثيرها على المبادئ النظرية للاقتصاد بالتناوب بين أيديولوجيتين: من ناحية، الاقتصاد الكلاسيكي الأرثوذكسي الذي يدافع ممثليه على اقتصاد السوق مع الحد الأدنى من الدولة واقتصار دورها على الوظائف السيادية، من ناحية أخرى، الاقتصاديون غير المنتسبين الذين يدافعون عن تدخل الدولة في الاقتصاد وتحديدا في كيفية توزيع الثروة وتنمية القطاعات الاجتماعية. من هذا المنطلق، يُطرح سؤال ما بعد أزمة كورونا، هل هو استمرار لهيمنة اقتصاد السوق الرأسمالي المالي؟ هل تشكل الازمات دورات اقتصادية تتأرجح بين اقتصاد السوق ودولة الرفاه؟ أم أن الأزمة ستعلن ميلاد نموذج جديد للاقتصاد العالمي؟ 1929 الركود العظيم وولادة دولة الرفاه في سنة 1929، شهد العالم أشهر وأشرس أزمة اقتصادية عالمية، خلفت ما أطلق عليه الركود العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم برزت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، تحت تأثير أفكار الاقتصادي الإنجليزي ج٠ م ٠كينز، دولة الرفاه. (Etat providence) يعتمد هذا النموذج من الدولة، القائم على الإنتاج الرأسمالي المنظم على النموذج الفوردي، (نسبة إلى هنري فورد) الربح في الإنتاجية والزيادة في الأجور، وكذا مجموعة من التدخلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتخذ من نظم الحماية والمساعدة الاجتماعية ركيزتها. استمر هذا النمط ما يناهز الثلاثين سنة (1973-1945)، تميزت بازدهار واسع ورفاهية نسبية شملت المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حيث تمكنت الطبقة الشغيلة من تحقيق جملة هامة من المكتسبات، انتعشت وتوسعت معها الطبقة الوسطى وتراجعت الفوارق الاجتماعية نسبيا. كان يفترض حسب منظريها أن تزيح بشكل نهائي الليبرالية الكلاسيكية والنيوو كلاسيكية وتحد من تطور وتوسع كل أشكال الدولة الاشتراكية والشيوعية. إلا أن الصدمة النفطية الأولى سنة 1973، مقرونة بالتخلي عن صرف عملة الدولار بالذهب عجلت بتراجع دولة الرفاه التي أصبحت غير قادرة على انتاج أرباح كافية للرأسمال. تلتها عشرية 1973-1982 التي تميزت بحالة الاستقرار/التضخم Stagflation. أي نمو ضعيف وارتفاع حاد في التضخم. صدمة النفط وهيمنة الرأسمال المالي أدت الازمتان النفطيتان العنيفتان سنتي 1973و 1979إلى تفكيك تدريجًي لشكل دولة الرفاه السابق وإعادة تشكيل النموذج الاصلي للاقتصاد الليبرالي الذي أسس قواعده أب الليبرالية آدم سميث سنة 1976، اشتهر هذا النظام " باليد الخفية" التي تعتبر آلية طبيعية وعفوية للتنظيم الذاتي لاقتصاد السوق حسب قانون العرض والطلب. اختلف الشكل المعدل للرأسمالية عن سابقيه بهيمنة الاقتصاد المالي على الاقتصاد الحقيقي، إنها الرأسمالية المالية ونموذج إمبريالي بغطاء جديد اسمه نيو ليبرالية، قائدها الابرز هو منظر المذهب النقدي ميلتون فريدمان، أهدافها الأساسية ترمي إلى السيطرة على التضخم، والتحكم في ميزانية المالية العامة في حدود عجز ناقص.3% أدت أزمة السبعينيات إلى زيادة اتساع الفجوة بين الدول الغنية في الشمال والدول الفقيرة في الجنوب التي أغرقت في الديون، المثقل منها أطل على شرفة الإفلاس. فشكل هذا الوضع فرصة سانحة لتدخل الجهات الدولية المانحة، خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين وصفا/ أوصيا باتخاذ تدابير جذرية لإعادة هيكلة وإحياء اقتصادات البلدان التي تواجه صعوبات اقتصادية. يتم تطبيق هذا الإجراء عبر ترجمته إلى برامج، أطلق عليها برامج التقويم الهيكلي (Programmes d’Ajustement Structurel PAS)، وهي عبارة عن وصفة سحرية مستمدة من اجماع واشنطن (Consensus de Washington)، تطبق على جميع الدول التي تتقدم بطلبات الحصول على قروض دون رعاية خصوصية البلد المعني. تركز برامج التقييم الهيكلي على تشجيع الدول الطالبة للقروض اعتماد سياسات مقيدة للميزانية من خلال العمل أولاً على الامتصاص والاستيعاب (Absorption)، أي الحد أو على الأقل خفض ميزانية الاستثمار العام (الطرق والموانئ، المدارس والجامعات، المستشفيات، مباني المؤسسات الإدارية، وما إلى ذلك)، ثم خفض الإنفاق الحكومي (تجميد الأجور، وخفض فاتورة كتلة الأجور عبر نهج سياسة المعاش التطوعي، حسابات التشغيل، وخصخصة القطاعات الاجتماعية ...) وأخيرًا تطبيق سياسة التقشف عن طريق الاقتصار على استهلاك الضروريات. رافقت برامج التقويم الهيكلي مجموعة من التدابير منها خصخصة واسعة للقطاعات الاقتصادية العمومية الأكثر ربحية مما مهد الطريق لتوسيع الرأسمال المالي الدولي الذي يعتبر الأكثر عولمة ويتميز بتقلبه البليغ. ولكي تستمر هيمنة الإمبريالية، يحتاج الرأسمال إلى العولمة والشركات المتعددة الجنسيات من خلال إزاحة الحواجز المحلية لتجارة دولية حرة غير مقيدة، تنقل الناس والبضائع بكل حرية ثم نظام نقدي دولي أكثر مرونة وشفاف. هكذا استطاع الرأسمال الدولي أن يسيطر على الشركات المخصخصة الأكثر إنتاجية، وأنشأ وحدات خاصة أو شركات فرعية ثم نقلت بعض الأنشطة المنتجة التي تحتاج يد عاملة أوفر الى دول في طريق النمو بحثًا عن مزايا نسبية أفضل في العمالة ووفرة المواد الخام، نتحدث هنا عن الاستثمار الأجنبي المباشر (IDE). لكن جشع الرأسمالية المالية، التي تجسدها اقتصادات الولايات المتحدة وحليفتها إنجلترا وعموم الدول الغربية الليبرالية، لا يتوقف عند هذا الحد، فالبحث عن المزيد من الربح والفائدة يدفع بمديري شركات المصارف المالية والمستثمرين، بحثا عن المكافئات وتلميع سيرتهم الذاتية، إلى المجازفة المالية القصوى ومنح قروض ذات سعر الفائدة المتحرك بمرونة غير مضمونة وتسهيلات يصعب السيطرة عليها. وهكذا، من خلال عملية تحويل قروض الرهن العقاري الى أسهم أو سندات وعجز المواطن الامريكي عن سداد أقساط ديونه، أصبحت جل البنوك الأمريكية على وشك الإفلاس سنة 2008 (أفلس بنك ليمان برادرز في 15 سبتمبر 2008)، فحصلت الأزمة المصرفية ا لأولى المسماة أزمة الرهن العقاري Les surprimes. أزمة الرهن العقاري 2008-2007، عودة تدخل الدولة تعتبر أزمة الرهن العقاري الاكثر انتشارا اعلاميا وفعليا، شملت مجمل المؤسسات المالية الأمريكية، مما أدى إلى إفلاس الشركات الأمريكية الكبرى مثل عملاق السيارات) جنرال موتورز كوربوريت(، امتد آثارها تقريبًا إلى جميع اقتصادات العالم خصوصا الاقتصادات الكبرى ولم تسلم من تداعيات الأزمة الا الصين وبعض الدول كإندونيسيا او إثيوبيا، غالبيتها لم تنصع الى توجيهات المؤسسات المالية العالمية٠ لقد وجد الأمريكي المتغطرس المدافع بشراسة عن اقتصاد السوق أن هاته السوق عاجزة عن التنظيم الذاتي. واضطر الاحتياطي الفيدرالي للولايات المتحدة للتدخل مباشرة في الوهلة الأولى عن طريق ضخ ما لا يقل عن 700 مليار دولار من دافعي الضرائب لانقاد الاقتصاد الوطني من الانهيار الكلي. في الوقت نفسه، خفض أسعار الفائدة لدعم التضخم والاستهلاك، اي الطلب الكلي. وهكذا طبقت الولايات المتحدة مقولة تأميم الخسائر وخصخصة الأرباح وعادت لتكتشف نظرية كينز لدولة الرفاه التي انتقدتها انتقادا لاذعا من قبل، وكذا نحى الاتحاد الاوروبي نفس المنحى. تداعيات الاقتصاد المالي الليبرالي 1. الجانب الاقتصادي لا يمكن إنكار الطفرة الهامة التي حصلت في تطور وسائل الاتصال والنقل خلال الأربعين سنة من هيمنة الرأسمالية المالية. حيث ساهمت في تكثف العلاقات التجارية بين الدول وأنشئت مناطق التجارة الحرة، كما ساهمت في إعادة تمركز بعض الصناعات التحويلية التي تتطلب مهارات بشرية أقل ونقلها إلى البلدان النامية وبالتالي الاستفادة من التقدم التكنلوجي والزيادة في فرص العمل. كذلك سمحت تسهيلات الاعتمادات المصرفية للعائلات من اقتناء اجهزة منزلية متطورة وكذا شقق منزلية اقتصادية مكنت من رفع المستوى المعيشي للسكان الخ. في المقابل، على الصعيد الماكرو-اقتصادي، أدت إدارة الدول على شكل مقاولات، اعتمادا على مبدأ أنانية وعقلانية الإنسان، أي القابلية للمنافسة الشرسة والمنافسة الحرة والشفافة بين الدول، إلى إفلاس بعضها، نذكر على سبيل المثل: اليونان، البرتغال، اسبانيا... هي الدول الغربية المتطورة التي استعصى على حكوماتها تطبيق توصيات برنامج التقويم الهيكلي نظرا لأنظمتها الديمقراطية. وأما الدول الاقل نموا والنامية، ولا سيما البلدان الأفريقية، إفريقيا جنوب الصحراء ثم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعروفة بمنطقة ميناMENA، فقد أجبرت للانصهار قصرا وبعمق في منظومة العولمة، حتى أن متوسط نسب الانفتاح التجاري: مؤشر التجارة على إجمالي الناتج الداخلي يقارب أحيانا 100٪، ترتكز صادرات هذه الدول على البترول والمعادن والمنتجات الزراعية والتحويلية والخدمات (السياحة)، أنشطة يهيمن عليها بشكل رئيسي الاستثمار الأجنبي المباشر والشركات المتعددة الجنسيات. بعد ركود أزمة 2008، تراجعت البنوك والمؤسسات المالية عن مرونة منح القروض، كما انخفضت الواردات لتراجع الطلب فكان الأثر المباشر هو زيادة البطالة واستنزاف الاحتياطيات من العملة. فتكرس عجز ميزانية هذه الدول، ثم اضطرت إلى القروض ودائما تحت ضغوط وشروط المؤسسات المانحة التي تضعها في حالة التبعية الأبدية. ورغم مقاومة بعض التكتلات الجهوية، إلا ان وقعها ظل منخفضا او منعدما لتضارب المصالح أو لأسباب سياسية وتدخلات أجنبية. افرزت الأزمات فوارق كبيرة بين الدول، فاذا كانت جل الدول الإفريقية قد كرست تبعيتها للدول الغربية المتقدمة وركنت في زاوية التخلف، بالمقابل استطاعت دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية وتكتل أسيان ASEAN من تطوير اقتصاداتها بالاعتماد على امكاناتها المحلية، خصوصا الاستثمار في العنصر البشري، وبرزت دول في مرحلة انتقالية نحو الرأسمالية كروسيا وخصوصا الصين التي أضحت كقوة منافسة لأمريكا بتحقيقها نموا مرتفعا ومستداما. 2. الجانب الاجتماعي أصبح تأثير الاقتصاد المالي ملموسًا أكثر على المستوى الاجتماعي. فوفقًا لتقرير منظمة أوكسفام OXFAM يناير 2020، يمتلك 1٪ من الأغنياء على كوكب الأرض ضعف ثروة 90٪ من سكان العالم ( 6,9مليار شخص) ، أغنى 8 رجال لديهم ثروة نصف سكان العالم. كما تدين المنظمة التملك غير المشروع للأثرياء والأساليب اللاشرعية للتملص من الضرائب من خلال الملاذات الضريبية. أكبر 10 شركات متعددة الجنسيات وصل دخلها سنة 2016 أكثر من 180 دولة. توزيع الثروة أقل عدالة، في بريطانيا على سبيل المثال، تم دفع 10 ٪ من الأرباح للمساهمين سنة 1970 بينما العتبة الحالية تصل 70 ٪. هذا الوضع يعمق أكثر الفوارق الاجتماعية، فالفقر المدقع ينتشر في جميع أنحاء العالم، سنة 2015، سجل736 مليون نسمة أو ما يناهز 10 ٪ من سكان العالم يعيشون تحت عتبة الفقر وفقًا لتقرير البنك الدولي لسنة 2018. وتمثل أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا (نيجيريا، إثيوبيا، جمهورية الكونغو الديمقراطية والهند) 85٪ من فقراء العالم. كما شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا زيادة مهولة في عدد الفقراء حيث انتقل من 9.5 مليون سنة 2011 إلى 18.7 مليون سنة.2015 تنحى الصحة العالمية نفس المنحى، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية سنة 2018، فإن الأمراض المعدية والأمراض المرتبطة بالحمل والأمومة أو نقص التغذية تشكل 93 ٪ من الوفيات في الدول المنخفضة أو المتوسطة الدخل وأما الأمراض غير المعدية فتمثل 78 ٪. فيما يتعلق بالتعليم، كشفت وكالة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم أن 18٪ من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 سنة لم يلتحقوا بالمدارس اي بتراجع مقارنة بالعشرية الاولى من هذا القرن، وسيزداد الوضع سوءًا سنة 2030 إذا لم يتم اتخاذ التدابير والحوافز اللازمة. وتحمل الوكالة مسؤولية هذا التراجع للوقف المفاجئ للمساعدة على التعليم الممنوحة للدول منخفضة الدخل بعد الأزمة المالية لسنة 2008. في دول أفريقيا جنوب الصحراء، 54٪ من الأطفال غير ملتحقين بالمدارس الابتدائية. بشكل عام، حتى داخليًا في بلد منخفض الدخل، " أطفال الأغنياء لهم حظوظ أكثر تسع مرات أن يتموا تعليمهم الثانوي مقارنة بالأطفال الأكثر فقراً". كما تفاقمت مشاكل السكن اللائق والحق في العمل مع تراجع تأثير النقابات وتمثيلية العمال. هذه المشاكل الاقتصادية-الاجتماعية تقوض التماسك الاجتماعي ومبادئ الديمقراطية، تقول منظمة أوكسفام: "إن عدم المساواة تعد أرضية خصبة لهيمنة ا الشعبويين واليمينيين وكل أعداء مجتمع موحد ومتماسك".
3. الجانب البيئي "الأرض واحدة، والعالم ليس كذلك" يقول تقرير بورتلاند لسنة 1987 عن لجنة الأمم المتحدة للبيئة والتنمية. تاريخ قضية البيئة طويل ومرير، سنة 1972، اشتهر نادي روما بتقريره "أوقفوا النمو"، الذي خلص إلى أن النمو الاقتصادي يولد نقصًا في المواد الخامة وزيادة التلوث. بحيث أن السباق اللامتناهي من أجل الربح يتطلب نموا مطردا، والنمو يحتاج إلى تصنيع متسارع الذي يستهلك بشكل كبير موارد طبيعية وطاقة غير متجددة، عنصران أساسيان لا يمكن الحصول عليهما دون تدهور البيئة. منذ أن أدرك العالم علاقة النمو بالمسألة البيئية، تم عقد العديد من القمم والندوات، أشهرها قمة الأرض في ريو عام 1992، والتي تمت ترجمة قراراتها بشكل ملموس في مؤتمر الأطراف بموجب بروتوكول كيوتو في عام 1987، حينها تمكنت الولايات المتحدة واليابان من فرض رأيهما من خلال اعتماد سوق لانبعاث غازات الاحتباس الحراري. لم يُحترم أبداً من طرف الولايات المتحدة، الممثلة بامتياز للاقتصاد المالي، بحجة أن البروتكول لا يشمل الدول النامية بما في ذلك الصين والهند، الدولتان اللتان تعتبران من كبار وأسوء الملوثين. توج هذا الصراع المستمر والدائم بانسحاب الولايات المتحدة في نوفمبر 2019 من اتفاقية باريس بدعوى عدم حالة الطوارئ المناخية. أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد، الحاضر والمستقبل لقد أوقع فيروس كورونا الكوكب بأكمله في واحدة من أكثر الأزمات فتكاً. أزمة صحية، اجتماعية بامتياز، مست كل جوانب الانشطة الانسانية، وأعادت سؤال تدبير السياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية إلى الواجهة. كان القطاع الصحي نظرا لمهامه وتدخله المباشر أول من كشف هول الكارثة الوبائية وأبان عن سوء تدبير المنظومة الصحية في جل دول العالم، موارد بشرية وأطر طبية غير كافية، نقص مهول في أسِرة الإنعاش، الأقنعة الواقية لا تكفي لإرضاء الطلب إلخ. انسحبت العيادات الخاصة وظلت الصحة العمومية وحدها تواجه تدفق المصابين بالفيروس، ملأت صور مرعبة ومؤثرة الشاشات لأطباء وممرضات وممرضين منهكين حتى أن البعض منهم أصيب بالعدوى وقضى. إنها حرب صحية أكدها العديد من رؤساء الدول ورؤساء الحكومات. حرب تملي قانونها الذي يُلزم الأطباء بالاختيار ما بين إنعاش مريض أو مريض جدًا. أمام تفاقم الوضع، اضطرت الدول المنكوبة إلى اتخاذ تدابير احتياطية غير مسبوقة في انتظار نتائج الأبحاث العلمية عن الإمكانات الوقائية، حيث وُضع نصف سكان العالم تحت الحجر الصحي مع تقييد حرية التنقل إلى أدنى مستوى حتى داخل الدول التي دافعت بشرارة عن الحصانة الجماعية. توقفت حركة الملاحة الجوية والبحرية الا نقل السلع جزئيا كما توقفت كل الأنشطة السياحية، مجالان اقتصاديان يُعتبران رمز العولمة والليبرالية. ولتجنب استيراد هذا الكائن الصغير الغير مرئي والمعدي للغاية، أغلقت كل دولة حدودها ومطاراتها تفاديا لاكتظاظ المستشفيات وتجاوز الطاقة الطبية. تحطم مفهوم وحلم القوى الغربية أن تحكم العالم، وهوت هيمنة أمريكا، كما أصبح اقتصاد السوق على منحى الاندحار. انبعث أمل الاشتراكيين فعادت بوادر الدولة القومية والسيادة الوطنية، كما تفاقمت الأنانية القومية حتى جسدت دول كبرى مبدأ "أنا وبعدي الطوفان" فاختطفت الطائرات لمصادرة الأقنعة الواقية نظرا لارتفاع الطلب وانخفاض عرض المنتوج. أضحى الاقتصاد العالمي في ورطة، فالركود مؤكد لامحالة ويبقى فقط تحديد شدته ووقعه المالي خصوصا على الدول النامية المثقلة بالديون سلفا.
انعكاس الأزمة على القطاعات الحيوية دوليا ووطنيا ينص الحظر الصحي، أو حالة الطوارئ الصحية كما يفضل البعض، على إجراءات تدبيرية عدة منها الحد من استعمال الأماكن العامة وأماكن التجمعات كالمدارس والجوامع والمصانع والاسواق وفضاءات الانشطة الثقافية والرياضية الخ، ثم الحد من استعمال وسائل النقل العمومية، الحفاظ على المسافة الاجتماعية...، مجموعة تدابير تمس قطاعات حيوية اجتماعية وتنهك كاهل الاقتصاد ات الوطنية. فيما يلي سأتطرق لبعض القطاعات المتضررة والتي من شأنها أن تدفع إلى البحث مستقبلا عن نهج جديد للاقتصاد السياسي دوليا ووطنيا. 1. قطاع التعليم أول قطاع بعد الصحة، تأثر بقيود الحجر المفروضة هو التعليم: حُجِز الأطفال الصغار والتلاميذ في المنازل، تقلص مجال حرية الطلبة، أُجبِر مدرسون ومدرسات غير مدربين كِفاية على استعمال الأرضيات المعلوماتية لإعطاء دروس عن بعد، اقتبس الآباء والأمهات دور المعلم مع أداء وظائفهم وتقسيم وقتهم بالتوازي بين التدريس والأشغال المنزلية…. عرت هذه السلوكيات الدخيلة عن الكثير من التمييز وعدم المساواة بين المواطنين، فقد سلطت الضوء على التفاوت الشاسع بين الطبقات الاجتماعية والمجالات الحضرية والريفية، شعر الآباء الأميين أو الذين لديهم مستوى تعليمي منخفض بحرج كبير عند مواجهة أسئلة أبنائهم التي لا تنتهي، ولم تستطع أسر فقيرة تحمل تكاليف الهواتف الذكية أو أجهزة الكمبيوتر لتلبية متطلبات التعليم عن بعد، كما ان بعض المناطق غير مرتبطة بشبكة الهاتف والانترنيت ثم سكن الأحياء الهامشية ودور الصفيح و تعدد افراد العائلة الواحدة تحت سقف ضيق كلها عوامل غير ملائمة لتعليم جيد عن بعد. في المغرب، انكشف أمر التعليم الخاص وأبان عن عجزه منذ الأيام الأولى من الحجر، حيث عبر أصحاب المدارس الخاصة عن جشع مفرط عندما تقدموا بطلب الدعم من الصندوق الخاص كوفيد 19 الذي أنشأته المملكة لمواجهة الجائحة. وأعلنوا عن توقف 48000 عامل جلهم أساتذة عن العمل مؤقتا حيث استفادوا من تعويض 1000 درهم قدمها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن شهر مارس. تبين أن معظم المدارس لا تتوفر حتى على منصة معلوماتية خاصة للتعلم عن بعد، اندهش أولياء التلاميذ من مستوى التعليم الخاص المنخفض مقارنة بالتعليم العمومي، شعروا بالمرارة إن لم نقل نوع من الخيانة، وعادت مسألة إصلاح التعليم العمومي والخصوصي لتطرح بإلحاح بعد فشل المخططات الاصلاحية السابقة لكن هذه المرة بحنين وتحيز أكبر للتعليم العمومي. 2. القطاع التجاري تكتسي التجارة اهمية قصوى وعنصر ضروري لتفعيل مبادئ العولمة، فقد وضعت التدابير الوقائية ضد كوفيد 19 التجارة العالمية في ضائقة لم يسبق لها مثيل. انخفض حجم التجارة العالمية بنسبة 13٪ وفقًا لتصريحات مدير منظمة التجارة العالمية في أبريل 2020، رقم قابل للارتفاع إلى 32٪ إذا لم تتبنى الحكومات سياسات ناجعة لتخطي الأزمة الصحية واعتبارها صدمة عابرة دون اللجوء إلى سياسة حماءيه. وقد مسّ هذا التراجع جميع مناطق العالم خصوصا أمريكا الشمالية وآسيا الأكثر تضررا لأنها تعتمد اقتصادا صناعيا موجه للتصدير. وأما بلدان الجنوب حتى وإن كان وقع الوباء أقل فتكا، فالتباطؤ الكبير في التجارة الدولية إثر انخفاض الطلب الدولي على المواد الخام والمواد الغذائية، وضعف التجارة الجهوية، وتقييد حركة ا لأشخاص ثم انخفاض التحويلات المالية، كلها عوامل ساهمت على تأجج الركود. وإذا عدنا الى المغرب الذي تربطه علاقة شراكة متقدمة مع الاتحاد الأوربي، حيث ان النشاط الاقتصادي للمملكة مع هذا الكيان يمثل 32٪ من الناتج المحلي الإجمالي حسب لجنة الاتحاد الأوروبي بالمغرب: 58٪ من الصادرات و70٪ من عائدات السياحة و69٪ من تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، لذا من المؤكد أنّ تراجع النشاط الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي يؤثر سلبًا على الاقتصاد المغربي، وفقًا لدراسة أجراها بنك CFG، سيعرف حجم المبادلات انخفضا بنسبة 20٪. أما التجارة الداخلية فكان ضروريا أن تعرف تراجعا مع تطبيق التدابير المصاحبة للحجر كالحد من حركة المرور بين المدن وصعوبات توزيع المواد الأساسية، وكذا إغلاق المقاهي والمطاعم والفنادق مع العلم أن تجارة القرب يسيطر عليها القطاع الغير المهيل وتجار صغار ذووا دخل ضعيف. 3. القطاع السياحي مع توقف حركة الملاحة الجوية وتقلص الملاحة البحرية والبرية، وتفعيل تدابير الحجر الصحي المتمثلة في إغلاق الفنادق والمطاعم والمقاهي، وكذا إلغاء جميع المهرجانات والحفلات وسد ابواب المتاحف والمعالم السياحية، أصيب القطاع السياحي وقطاع الصناعة التقليدية الملحق به بشلل تام هَمّ كل دول العالم، وكان أثرها وخيما على تلك التي يعتمد دخلها جزئيا على القطاع. في المغرب، تقدر مساهمة السياحة بحوالي 7 ٪ من الناتج الداخلي الإجمالي: 6.8٪ سنة 2017، 6.9 ٪ سنة 2018 وفقًا للمندوبية السامية للتخطيط في حساب الملحق السياحي لسنة 2018. ويعتبر القطاع كذلك كمصدر أساسي لجلب العملات الأجنبية ويشمل 5٪ من الوظائف في الاقتصاد ككل. وقد أدى إغلاق الحدود وتقييد حركة الأشخاص إلى انخفاض في عدد السياح بنسبة 98٪ وفقًا للكونفدرالية الوطنية للسياحة، هذا الانخفاض الحاد سيؤدي إلى خسارة مؤقتة لحوالي 500000 وظيفة و8.500 شركة. هذا مع ان بوادر عودة الوضع إلى مجراه الطبيعي لم تتجلى بعد. 4. قطاعي الفلاحة والصناعة وفقًا لقسم الاقتصاد بجامعة أكسفورد، سيؤدي انتشار الوباء إلى انخفاض الإنتاج الصناعي بشكل حاد يقدر بـ 4.6٪ في الولايات المتحدة و4.1٪ في الاتحاد الأوروبي. يهم تقريبًا جميع الفروع الصناعية، الأكثر تأثراً هي النقل الجوي، صناعة النسيج وصناعة السيارات التي ستشهد ركوداً يصل إلى ناقص15٪ سنة 2020 وانخفاضاً في الانتاج بنسبة 3٪. بالنسبة لقطاع الزراعة وصناعة المواد الغذائية، أدى الوباء الى صعوبة التسويق من خلال انخفاض الطلب وانخفاض حركة النقل وتسريح العمال بسبب الاكتظاظ في وحدات إنتاج الأغذية. نفس الملاحظة تنطبق على القطاع الصناعي بالمغرب، حيث أن قرار وقف الإنتاج في قطاع السيارات، المصدر الأساسي لتدفقات العملات الأجنبية قبل الفوسفاط، قد اتُخِذ بشكل عمودي ومستقل عن صانع القرار المغربي. أما القطاع الفلاحي، فقد تضررت بالأساس التعاونيات المشاركة في المعرض الدولي الزراعي بمكناس علما أن القطاع يعاني أصلا من نقص حاد في الانتاج بسبب الموسم الجاف الذي تعرفه البلاد. ماهي الإجراءات الدولية المتخذة لمواجهة كورونا؟ في مواجهة الوباء، أغلقت كل دولة حدودها في عودة مرغمة إلى الاقتصاد المغلق بحثًا عن الاكتفاء الذاتي قبل التصدير. فجأة، ارتفعت معدلات البطالة، وأقفلت الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية أبوابها فأصبح تدخل الدولة ضروري لدعم الاستهلاك والإنتاج. دعت الحكومات والبرلمانات بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي بصفتها كيانين يرفضان تدخل الدولة ويرفعان شعار الليبرالية "دعه يفعل دعه يمر". إلى سياسات الانتعاش الاقتصادي أي اعتماد سياسات إقلاعية مالية ونقدية طبقا لنظرية كينز. رصدت الولايات المتحدة، رأس حربة الامبريالية المالية، مبلغ ضخم قدره 2483 مليار دولار عبر دفعتين، مخصص للخدمات الصحية وبشكل خاص لضمان القروض للمقاولة الصغرى والمتوسطة كي تتمكن من الحفاظ على شريان الحياة للأسر ومؤسسات الأعمال حيث تم تسجيل خلال شهر ابريل ما يزيد عن 26 مليون شخص عاطلين إما توقفا عن العمل أو عن النشاط المقاولاتي، ارتفع معدل البطالة الى أكثر من 14.7 ٪، وهو أعلى معدل مسجل منذ سنة 1982 خلال فترة الركود العميق في الولايات المتحدة. أماعن الاتحاد الأوروبي، فإن الوضع ليس أقل دراماتيكية، حيث ارتفع معدل البطالة من 7.5٪ في 2019 إلى 9٪ في 2020، وانخفض مؤشر التضخم إلى 0.6٪ كما انتقل العجز العام من 0.6٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى 8.5٪ في 2020، مستوى المديونية وصل حدود 92٪ مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي. وقد تسبب التذبذب داخل الاتحاد في اتخاذ قرار مساعدة الدول المنكوبة خصوصا ايطاليا الى تصدع بين الدول الأعضاء، فعادت القومية للظهور، وبدأ صدى الميل نحو الصين وروسيا يسمع أكثر. لكن في النهاية، تم اعتماد تدابير هامة لتعزيز اقتصاد منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي. حيث خُصّص ما قيمته 500 مليار يورو أولا بهدف إنقاذ منطقة اليورو ومساعدة الشركات ودعم البطالة. وسيتم تعزيز هذا الظرف ب 3200 مليار يورو أخرى وُصفت حسب فرنسا 24 ب "أهم تعبئة في العالم" لإعادة إنعاش اقتصاد الاتحاد. ماهي الإجراءات الوطنية؟ اتخذ المغرب كغيره من الدول عدة تدابير في مواجهة جائحة كورونا، يغلب عليها الطابع الاجتماعي رغم وجهها الاقتصادي وذلك لخصوصية تركيبة المنظومة الاقتصادية للمملكة. فمنذ الاستقلال، اختار المغرب نهجا رأسماليا لإدارة اقتصاده رغم الصراعات السياسية ما بين تيارات ذات توجهات اشتراكية والقصر التي سادت في الستينات وبداية السبعينات والتي كانت قد تُوجت بإنشاء مجموعة من المؤسسات العامة، نَهْج سياسة التصنيع بدل الواردات ثم عملية التأميم والمغربة سنة 1973ـ1974. الا أنه لأسباب خارجية، نتجت عن أزمتي البترول الاولى والثانية، وأخرى داخلية لما فُرِضت على المغرب حرب الصحراء عند استرجاع اقاليمه الجنوبية، أدت الى إفلاس الدولة وفقد السيادة الاقتصادية سنة1983، فارتمى البلد في حضن الامبريالية عبر بوابة إعادة الهيكلة وخصخصة عدة شركات عمومية ثم التخلي تدريجيا عن المرافق العمومية كالتعليم والصحة. باعتماد المغرب، وهو تلميذ دؤوب على احترام تعاليم البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، آليات اقتصاد السوق والقطاع الخاص كمنتج للثروة والتشغيل ركز على سياسة التصدير وتشجيع الاستثمار الخارجي ثم الصناعة السياحية عبر تطوير مرافق الاستقبال والإيواء، وهذا ما نجح فيه نسبيا حيث فاق عائد انتاج قطاع السيارات من العملة عائد منتوج الفوسفاط وارتفع عدد السياح إلى 13 مليون سنة2019 . الا أن المستثمر المغربي لم يجاري الركب نظرا لضعف التدبير والتسيير، غياب التنافسية، اعتماد يد عاملة أقل كفاءة والاتكال على مِنح الدولة وامتيازات غير مستحقة، كلها عناصر مكونة لاقتصاد ريعي أدى إلى اتساع الفوارق الطبقية والمجالية، فهيمن الاقتصاد غير المهيكل الذي يشكل ما بين 75% و80% من مجموع مناصب الشغل) وفقًا لإحصائيات منظمة العمل العالمية سنة 2016(، وانتشر الفقر كما تراجع المستوى الدراسي وتقاعست الخدمات الصحية، عوامل جعلت المغرب يتقوقع في الرتبة 121عالميا حسب مؤشر التنمية البشرية. 2019 أمام استفحال، الوضع تساءل ملك البلاد في خطاب العرش 2014، عن تراكم الثروة» اين الثروة؟ « أي سوء توزيع الثروة المُنتجَة، وفي خطابه بتاريخ 12 أكتوبر2018 بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة، قرر تكليف لجنة خاصة لإعداد مشروع نموذج تنموي جديد » في إطار منظور استراتيجي شامل، مع تحديد الأهداف المرسومة له، وروافد التغيير المقترحة، وكذا سبل تنزيله «. إنه اعتراف بيِّن من أعلى سلطة في البلاد عن فشل الاختيارات والسياسات الاقتصادية المتبعة منذ عقدين رغم تطور ملموس للبنى التحتية والتي لم تنعكس إيجابا على مستوى عيش الساكنة. في خضم هذا الواقع العسير، حلت جائحة فيروس كورونا المستجد، وكان على الدولة أن تتخذ تدابير احترازية صلبة تفاديا لانتشار الوباء أخذا بعين الاعتبار الامكانيات الصحية المحدودة. ففرضت الحجر الصحي وواكبته بمجموعة تدابير اقتصادية مالية وجبائيه لتخفيف الوطء على المواطن والحفاظ على استمرار نشاط المقاولة ما بعد الحظر خصوصا المقاولة الصغرى والمتوسطة. من بين التدابير الاستباقية المتخذة نذكر: .1 احداث لجنة اليقظة الاقتصادية لتتبع الانعكاسات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للأزمة الصحية على الاقتصاد الوطني وتحديد التدابير والآليات المناسبة لدعم القطاعات المتضررة. .2إحداث صندوق خاص لدعم القطاع الصحي من أجل اقتناء المعدات والأجهزة الطبية اللازمة ودعم الاقتصاد من أجل استيعاب الصدمات السلبية فيما يتعلق بانخفاض أو توقف النشاط في قطاعات معينة. بلغ إجمالي موارد الصندوق الى غاية 24 أبريل 32 مليار درهم. .3 قرار بنك المغرب تخفيض سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أي من2،5 إلى 2٪ بهدف دعم النشاط الاقتصادي و ومواجهة تأثير الظروف الجوية السيئة هذه السنة .4 دعم القدرة الشرائية للمغاربة الاكثر تضررا بفضل تدابير اجتماعية وقد همت هذه المساعدات حسب تصريح وزير المالية يوم 19ماي ما يناهز 701.000 عامل توقف مؤقتا عن العمل شهر مارس و 950.000 في أبريل. وكذلك حوالي 4 ملايين أسرة عاملة في القطاع الغير مهيكل بإعانات مباشرة. .5 دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة والمهن الحرة عبر حزمة تحفيزات نذكر من بينها : تأجيل آجال سداد الاستحقاقات البنكية وتأجيل دفع الضرائب ، تفعيل خط ائتمان إضافي من قبل الصندوق المركزي للتأمين، منح قرض بدون فائدة قد يصل إلى 15000 درهم للمقاولين الذاتيين الخ. .6 منح البرلمان التفويض للحكومة امكانية تجاوز عتبة الدين الخارجي المحددة في إطار قانون المالية 2020. هذا بالإضافة إلى استخدام آلية خط الوقاية والسيولة، حيث سحب المغرب لأول مرة مبلغ 3 مليارات دولار وذلك للحد من آثار الأزمة على احتياطات العملة خصوصا بعد تراجع واردات السياحة والانخفاض المتوقع في قطاعات التصدير وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج ثم الاستثمار الأجنبي المباشر. كلها تدابير وإجراءات تهدف إلى مساعدة مواطنين وارباب أُسَر فقراء أو في وضعية هشة دخلهم يرتكز على عمل يوما بيوم بخلاف الدول ذات الاقتصادات الكبرى التي ارصدت أغلفة مالية لدعم الاستهلاك حتى يستمر الانتاج ولو ببطء، مع العلم أن الازمة خلفت وضعا استثنائيا ضد المفاهيم الاقتصادية الظرفية المألوفة: انخفاض متزامن للعرض والطلب عادة متعاكسان، ادى إلى تراجع مؤشر التضخم ونقص في المبادلات التجارية مع ارتفاع في مؤشر البطالة وحتما انكماش اقتصادي مس جل دول العالم. وطنيا، حسب تصريحات وزير المالية وإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، تراجعت الصادرات بنسبة 61.5٪ والواردات بنسبة 37.6٪، كما ازداد عدد العاطلين ب 208000 شخص ليرتفع معدل البطالة من 9،2% إلى 10،5% همت بشكل أكبر الساكنة الحضرية، وانخفض مؤشر التضخم إلى 0،9% كما سُجِّل نقص في موارد السياحة بنسبة 15% ونقص في تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بنسبة11% خلال الاشهر الاولى من السنة ، كلها معطيات تؤدي حتما إلى عجز في ميزان الأداءات وركود اقتصادي حيث تشير التوقعات الأكثر تفاؤلا الى نسبة نمو سلبية في 2020 بين 3،7 ـ % و 4،8 ـ في المئة. في ظل هذا الوضع، سيلجأ المغرب لا محالة الى الاقتراض من أجل تغطية نفقات المواد الاولية الاساسية كالحبوب والمواد الغذائية بالرغم من انخفاض اسعار البترول، وبالتالي ارتفاع الدين الخارجي الذي سيرهق كاهل أجيال الحاضر والمستقبل. ماهي إذا سبل الاقلاع الاقتصادي لتخطي الازمة؟ على المدى القصير، فإن المغرب كغيره من الدول، سيلجأ إلى رفع الحجر تدريجيا، وعليه، لابد من دعم الاستهلاك وتجنب سياسة التقشف بالاستمرار في توزيع المال (المروحية النقدية) لمساعدة الاسر المعوزة التي لا تتوفر على دخل قار وتغطية اجتماعية، ومساعدة الشركات المتضررة أيضا بتسهيل القروض، تخفيف العبء الضريبي مرحليا وتأجيل أداء الأعباء الاجتماعية. كما يمكن للدولة أن تلجأ إلى تطبيق سياسة نقدية عبر مطبعة الاوراق النقدية وذلك من أجل الرفع من الكتلة النقدية والزيادة في سرعة تداول النقد لكن مع التتبع والتحكم في مؤشر التضخم. على المدى الطويل، تشكل الازمة فرصة لا تعوض لإعادة هيكلة النموذج التنموي المغربي بنظرة جديدة تختلف عن تلك المسطرة ما قبل جائحة كورونا. إن الاقتصاد المغربي لا يمكن أن ينمو في عزلة عن العالم وبالتالي فأي سياسة اقتصادية للبلد لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار سياسات الدول التي تربطنا بها مصالح اقتصادية وسياسية. فإذا كانت تلك الدول قد حسمت في اختياراتها الاقتصادية الكلية الرئيسية: نهاية عقيدة الموازنة المالية والنقدية، إحياء الاقتصاد من خلال الإنفاق العام، ضخ سيولة ضخمة في الاقتصاد، اللجوء إلى المديونية، إعادة النظر في دور البنوك المركزية، وإعادة تأميم أو دعم بعض المؤسسات الإنتاجية الاستراتيجية معلنة عن عودة الدولة لتتدخل بقوة في إدارة الاقتصاد متخطية اعتاب العولمة المفرطة بتصحيح النيوو ليبرالية ومراجعة أساليب التجارة الحرة المفرطة. فعلى المغرب أن يحدد أهدافه الاستراتيجية بدقة يكون مدخلها الاستثمار في العنصر البشري والرأسمال اللامادي من أجل تنمية شاملة مستدامة ومنتجة للثروة. فإذا كان البعض يتكلم عن اجماع جديد من نوع اجماع واشنطن الذي من شأنه أن يُسطِّر الخطوط العريضة للسياسات الاقتصادية العمومية في ظل هيمنة الامبريالية والمؤسسات المالية، فإن أزمة كورونا أعطت إشارات واضحة للتفكير مليا في استقلالية الاقتصاد الوطني واستغلال امكاناته الذاتية عبر نموذج يتطور من المحلي الى الجهوي ثم العالمي مع المحافظة على المكتسبات المنجزة، ولكي يتحقق المبتغى يجب التركيز على المحاور التالية: • إعادة تأهيل الدولة كي تؤمن الادوار المنوطة بها كمُنظِّمة للسوق ومحافِظة على المنافسة و تشجيع المقاولة المواطنة عددا ونوعا بدل الاحتكار، إعادة النظر في دور البنك المركزي، خلق اقتصاد منتج للشغل، مساندة الضمان الاجتماعي، الحفاظ على البيئة وتهييئ الظروف للانتقال للرقمنة. • اصلاح قطاع التعليم والتربية مع التركيز على التعليم العمومي بصفته أداة لتسوية الفوارق الاجتماعية والمجالية ومنتج عوامل خارجية إيجابية يستفيد منها المواطن والاقتصاد والمجتمع. • تشجيع البحث العلمي بتخصيص ميزانية كافية من أجل البحث عن وسائل تقنية، اقتصادية واجتماعية تساهم في تطوير المنتوج المحلي كما وكيفا. • وضع سياسة صحية رشيدة ترتكز على مد القطاع العمومي بالموارد التقنية والكفاءات المهنية الضرورية، فلا يمكن لمجتمع أن ينمو بدون إنسان سليم صحيا. • رد الاعتبار لمكانة المرأة التي تشكل نصف قوة العنصر البشري وإزاحة كل المتاريس التي تقف حاجزا أمام تمكينها. • خلق مناخ ملائم للقطاع الصناعي بصفته منتج أساسي للشغل والقيمة المضافة وجعله قاطرة للا تمركز ومحور أساسي لتطوير الفلاحة المحلية. • إعادة النظر في جميع اتفاقات التجارة الحرة وجعلها تتلاءم مع تطلعات الدولة لكسب أسواق عالمية متنوعة تبدأ بالعلاقات الجهوية، إفريقية بالخصوص. • تشجيع الاستثمارات المباشرة الخارجية التي تساهم في تكوين العنصر البشري خلق فرص الشغل وخصوصا نقل التكنولوجيا مع المحافظة على المقاولة المحلية. • نهج سياسة استباقية ترتكز على مفهوم التنمية المستدامة في أبعادها الثلاث: الرأسمال الاقتصادي الاجتماعي والبيئي، هذا الاخير الذي ينذر بأزمة مستقبلية أكبر وقعا إن لم تُتخذ تدابير احترازية عالمية.
#عبدالملك_الحميدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الازمات محرك لتغيير النماذج الاقتصادية، ماذا عن جائحة كورونا
...
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
الآثار القانونية الناتجة عن تلقي اللقاحات التجريبية المضادة
...
/ محمد أوبالاك
-
جائحة الرأسمالية، فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية
/ اريك توسان
-
الرواسب الثقافية وأساليب التعامل مع المرض في صعيد مصر فيروس
...
/ الفنجري أحمد محمد محمد
-
التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19-
/ محمد أوبالاك
المزيد.....
|