أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - محمد نجيب زغلول - بناء الاداة الحزبية مابين دورة الاحتجاج والدورة السياسية















المزيد.....



بناء الاداة الحزبية مابين دورة الاحتجاج والدورة السياسية


محمد نجيب زغلول

الحوار المتمدن-العدد: 6583 - 2020 / 6 / 4 - 19:53
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    


السياق السياسي العام
يرتبط كل عمل سياسي أساسا بتدبير الشأن العام لتحقيق أهداف سياسية تروم الدفاع عن مصالح عموم المواطنين، لذا فان اللبنات الأولى للديمقراطية الحالية كانت لها تعبيرا تختلف حسب الاثنيات و تعتير الديمقراطية الأثينية هي أول ديمقراطية في العالم، ظهرت حوالي القرن الخامس قبل الميلاد و هو نظام ديمقراطية مباشرة في دولة المدينة (مثل سويسرا اليوم) مفتوحة أمام الرجل البالغ ومن المواطنين الأثينيين الأحرار المالكين و لا يحق للمقيمين الأجانب، العبيد أو النساء المشاركة والتصويت. وربما لو كان العرب والأمازيغ لهم الصولة التقنية لشرحوا للعالم أن تقسيم المهام داخل مكة بمؤسسات مجلس الحكماء يجتمع في شكل البرلمان/دار الندوة في دورات والوزارات الراية والسقاية والرفادة و والمهرجان الاقتصادي السنوي سوق عكاظ والحروب – أيام العرب و ايضا عرف الامازيغ مجلس العشرة ومجلس الاربعين ونظام توزيع ثروة الماء والري. ان الديمقراطية التي أطرت المجتمعات السابقة الاغريقي كانت ادوات لتحقيق تطلعات الشعب ولتبنى مطالبه وممارسة الحكم لتحقيق مصالح ومطالب الشعب.
وعودة الى مجتمعنا المغربي يبرز جليا عدم تجانس مكوناته إذ يضم طبقات مختلفة تتوزع ما بين من يتمكن من الثروة عبر التحكم في وسائل الإنتاج ومن يخلق الثروة لكنه لا ينال حظه منها سوى ما لحقه من فتات، ويتم تفقيره لتسخيره الدائم وتحويله الى أداة من أدوات الإنتاج. وما بينهما طبقة وسطى تضم غالبية المواطنين تعيش تقهقرا مزريا وانحدارا الى أسفل طبقات المجتمع. تتضارب مصالح الطبقات الانفة الذكر حد التناقض لذا من الطبيعي أن تتعدد التعبيرات والمشارب الايديولوجية والفكرية التي تعبر عن مختلف الطبقات وتتغيا الترافع وتحقيق مصالحها رغم هشاشة الاحزاب السياسة بسبب عودة الرأسمالية العالمية على الطريقة الامريكية الى جعل قوة المال هي المحور فتقلص انتاج الثروة الى المضاربات في البورصة ودفعت قوة العمل الى الهشاشة البنيوية فتم ضرب الأسس القانونية للمنافسة بين الطبقتين الوسطى والعليا التي تعيش احتضارا سياسيا الناتج عما سبق ذكره إذ أصيب الصراع الطبقي بالشلل النصفي وأصيبت الاحزاب بالعته بينما أرادت لها الطبقة العليا أن تتحول إلى "وسطاء" بينما مفترض أن تكون ممثلة لشرائح وطبقات وعندما تقبل الاحزاب أن تبقى مجرد وسيطة ومستخدمي إطفاء الحرائق يتيه المواطنون وينبذون السياسة والسياسيين لتطابق ما تفرزه مؤسساتهم وقياداتهم من سلوك ريعي لا يتعدى سقفه "حكومة الدمى" حسب تعبير نبيلة منيب.
يمكن مقاربة الفعل السياسي من زاويتين متكاملتين الزاوية النظرية المسنودة بأرضية فكرية تبني أسسها على إيديولوجيا متجانسة قابلة للتطور ومواكبة لتاطير الفعل السياسي الذي يتحدد بها ومنها، ولا يحيد عن المنطلقات النظرية والفكرية المحددة له. ولا يمكن ممارسة أي فعل سياسي مجرد من الإطار النظري المؤطر له والا اعتبر نشاطا مدنيا. و سواء اعتبرنا النشاط المدني و السياسي منفصلين اومتصلين فمن البديهي ان يعكسا جزءا من حركية المجتمع وتعبيراته التي تتدافع في ما بينها من اجل تحقيق اهداف تختلف حسب طبيعة مصالح كل طبقة ومن يقوم بتمثيلها. ومعلوم ان المجتمع يعرف تدافعا مستمر ما بين مجتمع مدني ومجتمع سياسي يترافعان فيه كل من منطلقه وحسب موقعه الطبقي كقطبين حد النقيض احيانا او كحلفاء استراتيجيين حسب طبيعة المصالح المتبناة والأهداف المتوخاة. و في خضم التفاعل والصراع القائم في ما بين الأطراف المتناقضة يدافع كل عن مشروعه المجتمعي والسياسي، كل من موقعه من داخل موازين قوى مختلة يتم تغليبها لفائدة الطبقة الحاكمة. تستعمل ديمقراطية الواجهة كأداة لتصريف سياستها عبر افساد الحقل السياسي والمدني و محاصرة كل التعبيرات اليسارية الحقيقية خلال المحطات الانتخابية كي لا تتبوأ مراكز القرار السياسي ولتستمر أقلية نشازا في المجتمع لا يعتد بها مما يخدم استدامة النظام الريعي والفساد الاداري والمؤسساتي الذي يهدر الزمن السياسي ويعرقل الاقلاع الاقتصادي.
ومعلوم ان الاحزاب السياسية الادارية تستمد نفوذها وتمثيليتها من طبيعة المصالح المشتركة بينها وبين المربع الاول لصنع القرار السياسي في الدولة ومن يدور في فلكه عبر تمييع العمل السياسي وتشتيت الكتل الناخبة. وهكذا فان التحكم في القرار السياسي و طبيعة التحالفات الفاسدة والمفسدة للحقل السياسي و الاقتصادي عبر دعم المافيات المتغلغلة في النسيج الاقتصادي والصناعي والفلاحي و استحواذ اوليغارشية متحكمة في الدولة على خيرات البلاد وثرواتها. ان هذه الخيارات اللاديمقراطية ستقود البلد حتما الى كارثة اجتماعية قد يأخذ فيها الصراع مناحي لن يمكن التحكم فيها مما قد ينتج عنه دوامة لا متناهية من العنف والعنف المضاد ما بين الشعب الحانق والدولة المنخورة بالفساد في غياب تام للأحزاب السياسية بعدما ساهمت الدولة في اعدام السياسة عبر التحكم في الاحزاب السياسية المترهلة والمخترقة بكل اشكال الريع والتي تمارس العمل السياسي للاسترزاق بأطر رديئة دون اية رؤية سياسية في ما يتعلق بصنع القرار السياسي الذي ينفرد به المربع الضيق للحكم. اذ تتحكم كل من الدولة العميقة والاوليغارشيات المافيوزية من رجال المال والاعمال النافذين في الجهاز الحكومي والدولة في صنع القرار السياسي فارضة اجندتها على الدولة وحكومتها دفاعا عن مصالحها الاستراتيجية باستصدار قوانين لصالحها تكرس الفوارق الاجتماعية والهشاشة الاقتصادية و تساهم في تغول الراسمالية المتوحشة مما سيدفع البلد رأسا نحو انفجار شعبي عارم ولنا في التاريخ المعاصر عبر. ان هذا السياق السياسي العام يؤكد على الضرورة الملحة لاعادة التوازن المجتمعي بشقيه المدني والسياسي من خلال حركية مجتمعية مزدوجة ومتوازية لخلق صيرورة تأسس لاعادة بناء الدولة في افق الوصول الى الدولة المتكاملة « Etat Intégrale» حسب غرامشي وتحديدا يبدأ المجهول في الحياة السياسية، عندما يصبح الترافع بلا طائل فتتحول الأحزاب فعلا الى مجرد دكاكين. فتفقد الحياة السياسية مناعتها السلمية. هذه المناعة كان الخط السياسي للاتحاد الاشتراكي قبل الدخول الى الحكومة. أو لنقل عندما لم "يعرف" كيف يخرج منها.

الاحزاب اليسارية الراديكالية وسياقات ما بعد ازمة 2008
ان انطلاق أي دينامية مجتمعية تروم تغيير الاوضاع تستوجب ارضية ديمقراطية كصمام الامان لضبط العلاقة القائمة ما بين الدولة والمجتمع حتى لا تتغول الدولة ولا ينفرط العقد الاجتماعي الذي يعتبر الركيزة الاساسية لضمان الاستقرار السياسي والمتيح لتطور الاقتصاد والتنمية. ان تحقيق هامش واسع للديمقراطية يؤمن امكانية تدبير ديمقراطي سلس للصراع الطبقي ، ويمكن من احتواء التناقضات الاساسية لمختلف التعبيرات السياسية والمدنية كما يعتبر ضمانة مستدامة للحقوق الأساسية وتجويدها، ويساهم في توسيع هامش الحريات العامة بما فيها حرية الاعلام كمكيف للتوترات المجتمعية حسب تعبير دايفد هيومDavid Hume .
عودة الى قراءة الحركية المجتمعية بالمغرب في الآونة الأخيرة بعد انحسار دستور 1996 وما تلاه من ازمات اقتصادية كانت ابرزها ازمة 2008 عرف المجتمع المغربي كباقي المجتمعات الاورومتوسطية حركية اجتماعية واحتجاجات شاركت فيه الاطراف الاكثر تضررا لتحقيق مطالبها الاساسية مما يستوجب من المثقفين والسياسيين بالموازاة ايجاد اجوبة مهيكلة ومنظمة لإعادة تشكيل الحقل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي انطلاقا من التشكلات السابقة او ما يسميه غرامشي بتوليد الجديد من القديم عبر ثورة هادئة ، ويشير لوك مارش (Luke March (2011 أن"أحزاب اليسار الراديكالي" في أوروبا قد عرفت منذ 2011 مع حركة 15 مايو الاسبانية صعوبات جمة في تعزيز الروابط مع الحركات الاجتماعية ، كما تبين عدم قدرتها على التغلغل سياسيا على المستوى القاعدي الافقي ، فأوقات الأزمات- حسب Luke March & Daniel Keith (2016) - لا تكون عادة في صالح اليسار، لأن الناخبين يختارون الأمان والاستقرار المنسوب بطريقة تلقائية إلى الأحزاب اليمينية ، الذين يتجنبون كل اشكال التعبير "الراديكالية". علاوة على ذلك ،غالبا ما يميل اليسار إلى التأكيد على المحتوى والبرامج الأيديولوجية ولا يكترث بالخطاب الهوياتي كما لا يلجئ للباطوس لدغدغة عواطف الناس ، وهي التضاريس السياسية للأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة. وعلى سبيل المثال يمكن الاستشهاد بالنتائج السلبية التي حصل عليها حزبي Razem و Livre في البرتغال ، الذين كان متأثرًين كثيرا بتجربة Podemos الاسبانية. ومع ذلك وفي جو مشترك من النضال ضد النيوليبرالية المتوحشة ساهمت النضالات الجماهيرية اليسارية الأوروبية في تطوير أرضية مشتركة للفعل السياسي والتي يمكن اختزالها في أربع لحظات حددت الممارسات اليسارية في أوروبا ونطاق تاثيرها الواسع ما بين 2011 و 2019 حسب
Oscar Garcia A. (2020).
• التوسع والنمو المذهلين لـ Podemos في إسبانيا سنة 2014 كحزب سياسي جديد مرتبط بالحركات الاجتماعية المناهضة للتقشف والداعي إلى ديمقراطية راديكالية؛
• حزب سيريزا Syryza، الذي فاز بالانتخابات العامة مرتين في اليونان في 2015 ؛
• النتائج الانتخابية الجيدة التي حصلت عليها (France Insoumise) في 2017 بعد منافسة شديدة من طرف حزب إيمانويل ماكرون الجديد En Marche والحزب اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان ؛
• صعود جيريمي كوربين كزعيم جديد لحزب العمال بانكلترا في عام 2015 ؛
إن المخرجات السياسية لحراكات 2011 تجعلنا نعيد النظر في طرح March Luke & Daniel Keith 2016))، حيث نلاحظ عكس ذلك تقاربا أقوى بين احزاب اليسار الراديكالي وفئات عريضة من المجتمع وعلى سبيل المثال فحزب سيريزا الذي حقق استكمال الانتقال من حزب يساري رديكالي هامشي إلى حزب شعبي جماهيري ورغم انه فاز في 2015 رغم انه مؤخرا سقط في الانتخابات السابقة سنة 2019 نظرا للازمات الاقتصادية المتوالية التي عرفتها اليونان منذ 2010؛ كما إن إنشاء كتلة يسارية قوية استطاعت المشاركة في الحكومة الائتلافية بالبرتغال؛ وظهور أحزاب جديدة مثل Podemos الذي عرف توسعا ملحوظا ومضطردا في إسبانيا كحزب سياسي جديد مرتبط بالحركات الاجتماعية والذي شارك مؤخرا في حكومة تآلف اليسار أو المبادرة الاشتراكية الديمقراطية في سلوفينيا ؛ ومن الأحزاب التي عرفت زيادة تمثيليتها البرلمانية ، على سبيل المثال، التحالف الأحمر والأخضر في الدنمارك (RGA)، كما تم تشكيل حركات تصحيحية داخل بعض الاحزاب السياسية لوسط اليسار كالحركة التصحيحية للحزب الديمقراطي الايطالي في 2013 وذلك بارسال هاشتاغ "لنحتل الحزب الديمقراطي" اذ أنجزت احتلال عدة فروع من طرف المحتجين بما فيه المقر المركزي كتعبير عن رفض القواعد لتحالفات الحزب مع يمين برلسكوني وانحرافه عن الخط السياسي الأصلي للحزب...
وعموما فإن الأحزاب الأربعة : سيريزا ، بوديموس ، فرانس إنسوميز ، الحزب العمالي تحت قيادة كوربين، اضافة الى بعض الحركات اليسارية كحركة الديمقراطية DIEM 25 في مجموعة من الدول الأوروبية، اضافة الى تواجد عدد من الاحزاب اليسارية الراديكالية على مستوى البلديات كبلدية برشلونة (مثل Ada Colau) وعلى المستويات الإقليمية كحزب Madrid Más ، الحزب الذي أنشأه مؤسس بوديموس Iñigo Errejón ، في مدريد (Oscar Garcia A., 2020) مؤشرات لصعود اليسار الراديكالي وبسرعة في شمال الأبيض المتوسط كرد فعل شعبي تجاه السياسات النيوليبيرالية المتوحشة وفي جنوب المتوسط، مغاربيا فإن ثورة الياسمين التونسية التي اندلعت أحداثها في 17 ديسمبر 2010 . وبالمغرب استطاعت حركة 20 فبراير الضغط الذي افضى تغيير دستور 1996 بدستور2011 الذي يعتبر اكثر انفتاحا إلا أن التفاف النخبة السياسية المحافظة وقياداتها في صفقة مع الدولة والانسحاب الغامض للعدل و الاحسان كأحد أهم الفاعليين في حركة 20 فبراير تمهيدا لحكومة الاسلاميين اضعف جذوة احزاب اليسار الرديكالي المتسمة بهشاشة بنياتها الداخلية و انعدام اذرع مدنية تحقق التوسع القاعدي لمنظماتها الموازية وغياب جمعيات ذات توجه تضامني اجتماعي وجمعيات الاحياء والوداديات وغيرها مما جعل الاحزاب السياسية تتميز بخطاب سياسي راديكالي لا امتداد افقي له لخلق قاعدة شعبية داعمة ومساندة لليسار ابان المحطات الانتخابية. ولتقريب فهم الوضع اجتماعيا وسياسيا يلزمنا استكشاف العلاقة بين دورة الاحتجاج و الدورة السياسية حسب مفهوم (Luke March (2013.

صنع القرار السياسي ما بين الدورة الاحتجاجية و الدورة السياسية أية إمكانية؟.
في هذا السياق ، من المناسب استكشاف العلاقة بين دورة الاحتجاج التي بدأت في 2011 وإمكانيات الدورة السياسية الجديدة. في تطويره لمفهوم "دورة الاحتجاج" ، يشير سيدني تارو(1993) Sidney Tarrow إلى فكرة "لحظات السقف العالي للاحتجاج" " و ما سماه Aristid Zolberg أريستيد زولبرج في الأصل "Madnesse moments "( واللذي تصعب ترجمته اذ لايمكن هنا اللجوء للترجمة الحرفية للمفهوم اولا لعدم تناسبه وخصوصيات السياق المحلي و ثالنيا كي لا يتم استغلاله سياسيا واستعماله بطريقة تجانب الصواب...) والتي تعني اساسا لحظات يستحيل فيها أي استقرار وتصبح الدورة الاحتجاجية مقبلة على الانفجار و يمكن اختزاله لدينا "بالاحتقان". إن مثل هذه اللحظات ضرورية للتحولات السياسية للمجتمعات وللأطراف الفاعلة في التغيير لتخفيف القيود السياسية القائمة. ويحدد تارو هذه اللحظات مع بداية دورة الاحتجاج، والذي يتزامن مع إرهاصات بداية بناء العمل الجماعي وبالموازاة يتناقض انفجار الإبداع مع التطور التاريخي البطيء لمخزون الاختلاف، وبهذا المعنى، فإن "لحظات الجنون " تساهم في تطور مخزون الاحتجاج المجتمعي.
ظهرت دورة الاحتجاج منذ 2011، في جنوب أوروبا و في المحيط المتوسطي عموما، في سياق مخلفات الازمة الاقتصادية 2007-2008، التي اتسمت بانحسار النظام العالمي وتفاقم ديون الدول سواء المتخلفة منها أو حتى المنتجة للنفط و فرضت المؤسسات الدولية على دول الجنوب سياسات تقشفية مقابل قروض طويلة الأمد وعالية الفوائد لتكريس الفوارق الكونية واستدامة التبعية في إطار نظام نيوليبرالي متوحش. وكما هو الحال في كل دورة احتجاج ، هناك إمكانية فتح نافذة فرصة سياسية حسب طرح Donatella Della Porta (2015)، وعندما تركز الحراكات الشعبية على الحاجة إلى المزيد من "الديمقراطية" وتتساءل الجماهير عن دور الأحزاب السياسية والنظام الاقتصادي، لتضع الاصبع مباشرة على جرح وعطب الديمقراطية التمثيلية كمشكلة رئيسية.وربما يمكن اعتبار تعميم سحب الثقة من كل الطبقة السياسية في لبنان تحت شعار "كلن يعني كلن" بؤرة انفجار الاوضاع سنة 2011 . إن زخم هذه المعارضة الشعبية الطليعية ضد المؤسسات غالبا ما تحجب عن قياديها امكانية التفكير في الفرص السياسية التي يمكن أن تعزز الروابط بين الاحزاب التي تتقاسم والحركات الاجتماعية قضايا أساسية سواء من ناحية المبدأ او الاهداف المشتركة التي يمكن الاشتغال عليها معا إلا أن إغلاق قنوات التواصل خلال "لحظات السقف العالي للاحتجاج" تلك قد يضيع فرصة التواصل و الانفتاح على الأحزاب اليسارية الحقيقية رغم عدم وضوح كيفية التأثير على الدوائر النافذة لإحداث التغيير واستصدار القرار السياسي المنشود لان عملية التجسير إبان تلك اللحظات تمهد لإمكانية فعل حقيقية تتوخى تغييرا اجتماعيا وسياسيا أكثر جذرية. وهكذا ، يمكن تفسير تمظهرات الأحزاب السياسية اليسارية وتجديدها في سياق تطور دائرة الاحتجاج وكيف تتفاعل بدورها مع الدورة السياسية في أفق صنع القرار السياسي تحت ضغط الاحتجاج. عموما يفهم من تمفصل الدورة الاحتجاجية مع الدورة السياسية عبر العلاقة بين الطاقة الاعتراضية لحظات الاحتجاج والطاقة الاقتراحية كعرض للتفاوض (لائحة المطالب في الحدين الاقصى والادنى)....يتضمن الشق السياسي، الاعلان المبدئي والشق الاجرائي الفوري والشق المؤسساتي...
إن الأزمة المزدوجة الاقتصادية وانغلاق النظام السياسي وانكفاءه نحو المقاربة الامنية والتراجع عن الحريات العامة والانفراد بصنع القرار السياسي خارج مسوغات القانون ومصادرة حرية التعبير والعودة الى سنوات الرصاص والاعتقال السياسي يجعل الأحزاب السياسية ملزمة بتحيين مشاريعها السياسية والتنموية وتطوير اديولوجيتها اليسارية ، وإعادة بناء ذواتها ورص صفوفها ومراجعة تحالفاتها لتكون العقل المدبر والبوصلة السياسية للحراكات الجماهيرية حاضر واستقبالا وذلك من خلال التواصل المتين معها وتاطيرها ومساندتها كقوة قاعدية للتغيير تتقاطع مصالحهم ويتبنون نفس المطالب والأهداف. لذلك فإن الاشتغال على التعبئة الجماهيرية أفقيا وعموديا في عدة مواقع باليات سياسية ومدنية تجعل تنامي قبول الأحزاب اليسارية الحقيقية وتبنيها من طرف الجماهير كونها الناطق والممثل الشرعي للمطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تترافع من اجلها الحراكات الجماهيرية كجزء من الدينامية الداخلية العامة للتحولات المجتمعية خلال دورة الاحتجاج. ويمكن فهم هذا التطور كتحول أساسي في صيرورة النضال الجماهيري مرورا من "لحظة الجنون" إلى "لحظة المأسسة" حيث تتبنى المؤسسة الحزبية الحاضنة كل النضالات الجماهيرية كممثل سياسي يرتبط عضويا بالطبقات الواسعة يلعب دورا سياسيا يصنع من كيمياء الاحتجاج خلال الدورة الاحتجاجية الإكسير السياسي للدورة السياسية خلال "لحظة المأسسة" لدمجها في إطار سياسي مؤسساتي قادر على صنع القرار السياسي المنشود. علاوة على ذلك ، فإن "لحظة المأسسة " يمكن ان تكون ايضا لحظة مسائلة وتغيير مؤسسات قائمة ، و احيانا نشوء مؤسسات جديدة خلال نفس مسار الدورتين. وهكذا فإن الاعتماد على شيء ما من عبقرية الإبداع الاجتماعي خلال محطات الخصوبة السياسية للحراكات الجماهيرية وخصوصا ابان " لحظة الجنون" قد يكون رائزا ومحفزا لإصلاح الأحزاب السياسية المقيدة احيانا بقوانين وقواعد صارمة لتساير الزخم الشعبي ويمكن اعتبار هذه المحطات ايضا "نوافذ للفرص السياسية" حسب تعبير Donatella Della Porta (2015) ، تركز على التحركات السياسية الحزبية عندما تتراجع الدورة الاحتجاجية الناشئة عن الحركات الاجتماعية والحراكات الجماهيرية والتي غالبا ما تهدف الى تغيير قواعد اللعبة السياسية وإرساء أنماط جديدة لممارستها وأيضا المطالبة بنظام اقتصادي عادل ومندمج يحافظ على الحقوق الأساسية للمواطنين ويحمي البيئة من النظام النيوليبرالي المتوحش الذي يستنزف الموارد الطبيعية.
ان الحراكات الجماهيرية غالبا ما تصيب الدول الهشة واللاديمقراطية بالرعب وتتم مواجهتها بعنف دموي احيانا كلحظات سعار امني محموم كتعبير أو ادوات لحفظ الأمن...إلا انه وحسب طرح جان هوبي Jean Hoby (2013) فمن الخطأ اعتبار الحراكات والاحتجاجات الاجتماعية من جراء الازمات كرد فعل على تنفيذ سياسات التقشف خطرا، بل يجب اعتبارها ضرورة وأن ما يميز كلا التقديرين (خطرا أو ضرورة) هو الطريقة التي يتم بها التعامل مع تلك الثورات والحراكات الاجتماعية سياسيًا إذ بالامكان خلال التفاوض اقناع الرأي العام عدم امكان تجنب الاحتجاجات بسبب الحقل السياسي المغلق تمهيدا للحظة القوة الاقتراحية... إذ تتم محاصرة السياسة الرسمية بالطوق التفاوضي الجذاب والمقنع بعدما طوقتها الجموع بالاحتجاجات... القوة الاقتراحية في تجربة حركة 20 فبراير كانت منعدمة تماما. ومع حراك الريف لا زلنا نراوح نفس المكان...
ولا نختلف ان من مهام اليسار والاحزاب السياسية اليسارية تولي التنشئة الاجتماعية المطلوبة لترسيخ حرية الفعل السياسي من داخل المؤسسات ومن خارجها و ضمان تمثيلية تمر عبر مؤسسات ديمقراطية يتصارع من خلالها كل الفرقاء السياسيين في إطار تعددية سياسية حقيقية من اجل تحقيق أقطاب سياسية حقيقية تعكس توجهات ومطالب المجتمع تتبناها وتدافع عنها . كما يمكن اعتبار أن من مهام اليسار تطوير عقل سياسي مدبر سابق على الدورة الاحتجاجية لان "لحظة الجنون" تتطلب الحكمة السياسية اللازمة لتحويل زخم الدورة الاحتجاجية وتوجيهها عبر النافذة السياسية المتاحة من اجل الضغط لتحقيق "الثورة الهادئة"- حسب تعبير غرامشي (1971) - في اللحظة المناسبة كمقدمات أساسية استشرافا لمناخ سياسي يضمن تمثيلية سياسية حقيقية تساهم في صنع القرار السياسي من داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية التي افرزتها دينامية الدورة الاحتجاجية المجتمعية بعد تغليب ميزان قوى يعكس إرادة المجتمع ويبني المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي تترافع من اجله مكوناته المدنية والحقوقية والسياسية في أفق بناء الدولة الديمقراطية المتكاملة والراعية في إطار نظام حكم برلماني تقوم فيه الدولة بممارسة حقها التاريخي والشرعي في السيادة وممارسة التحكيم بين المؤسسات وضمان توازنها بينما تقوم المؤسسات التشريعية والتنفيذية بممارسة الحكم عبر تسطير البرامج السياسية والاقتصادية بحكامة دمقراطية كمؤسسات منبثقة من صناديق الاقتراع وكنتاج طبيعي لممارسة سياسية حقيقية بعيدا عن منطق اللعبة السياسية المفبركة والمغشوشة.

سؤال إعادة بناء الذات الحزبية ومأسستها لمواكبة تطور مجتمع المعرفة والرقمنة
وفي خضم التدافع المجتمعي وتقاطباته دفاعا عن مصالحه كان من البديهي إن يتم تدبير الشأن العام عبر المؤسسات القائمة بقوة القانون داخل دولة مدنية ينظمها القانون وتحتكم إليه. وهكذا فان تنظيم المجتمع في شقيه السياسي والمدني يعرف تدافعا مستمرا ومشروعا من اجل تحقيق مصالح متقاطعة وأحيانا متضاربة باليات ديمقراطية تشاركية و/او تمثيلية .وعموما يبدو ان الاختلاف في كيفية تدبير الشان العام وممارسة الحكم واليات الحكامة المرتبطة به تحكمها مرجعيات فكرية وايديولوجية مختلفة مما يجعل مجال الحكم ما بين السائس والمسوس عموما مجال صراع حول المصالح من اجل الولوج و/او التحكم في مواقع القرار و الفعل السياسي. كما ان تدبير الشان العام يمر عبر تحقيق التوازن الضروري و المطلوب بين الدولة والمجتمع والذي لن يمكن تحقيقه الا بدمقرطتهما معا أي دمقرطة الدولة والمجتمع، مما يؤمن للدولة استمراريتها التاريخية ويوفر للشعب اليسار والرفاه والديموقراطية المنشودة في ظل الدولة بمنطق رابح/رابح.
وطبيعي في ظل العلاقة الجدلية والمتقلبة ما بين الدولة والمجتمع مدا وجزرا ان يطفو الصراع السياسي من خلال دينامية المجتمع وحركيته المتعلقة بالقرار السياسي وانعكاسه و تبعاته على الوضعية المعيشية لعموم المواطنين. وتعرف هذه العلاقة خلال بعض المحطات التاريخية حالات قد يأخذ فيها الصراع منحى عنيفا مابين المجتمع والدولة حسب السياقات الإقليمية والدولية وغالبا ما تدافع فيها الاحزاب عن الطبقات الاجتماعية التي تتقاطع واياها نفس المصالح الطبقية وتتصارع مع الدولة لايجاد مخارج سياسية من اجل خلق اجواء انفراج سياسي لتفادي تازم الصراع. ومادمنا بصدد الحديث عن دور الاحزاب السياسية كفاعل يمثل المجتمع السياسي و يحمل هموم وقضايا الطبقات المتضررة من المجتمع لتحقيق الديمقراطية ليس فقط للمجتمع بل يصارع ايضا من اجل دمقرطة الدولة وبالأساس فهذا يقتضي ايضا ارساء الديموقراطية في الشق المرتبط بعلاقة الاحزاب بعامة المواطنين سواء كانوا اعضاء متحزبين او لا. وهذا يحيلنا على سؤال طبيعة الآلية الديمقراطية التي من المفروض أن تخول للأحزاب القبول لدى العامة للعب دور الترافع عن قضايا الطبقات المتضررة وانتزاعها عبر الضغط على الدولة. قد يبدو الجواب بديهيا على أساس أن أمثل صيغة هي الديموقراطية بشقيها التشاركية و التمثيلية و التي تمر عبر قنوات المجتمع المدني و الأحزاب السياسية. وقد اعتبرت هذه الاخيرة الى عهد قريب ابان الثمانينيات قبل الطفرة الرقمية القناة الاساسية إضافة إلى الهيئات النقابية لتأطير المجتمع وتصريف الفعل السياسي عبر الولوج الى المؤسسات التشريعية و التنفيذية لصنع القرار السياسي. إلا اننا اليوم ومع التطور الرقمي و نظرا لدوره الطليعي في التطوير الذاتي واكتساب المهارات وتسهيل تعلم اللغات وامكانية ممارسة السياسة والتعبئة الجماهيرية من خلال استعمال الكم الهائل من المعلومات و تزايد مواقع الدفاع عن الحق في المعلومة وعن المجانية مما سهل سبل التعلم والاطلاع على المعارف مما خلق تطورا نوعيا في المخزون المعرفي ومهارات الفئات المستهدفة من طرف الاحزاب السياسية والتي اصبح عرضها متقادما من ناحية التكوين الفكري والسياسي والذي لا يواكب المد المعرفي المتطور مع رقمنة أمهات الكتب وترجمتها الى لغات العالم. كما أن الصيغ الكلاسيكية العتيقة في توزيع المعلومة وتداولها عبر التعميمات الورقية اصبحت من مستحثات القرن الماضي، لا تعني الشباب اليوم الذي يتداول المعلومة بالصوت والصورة عبر آليات التكنولوجيا الرقمية من هواتف ولوحات... ومن الملاحظ أن ارتفاع منسوب المتعلمين يتنامى وعزوف الشباب ليس عن ممارسة السياسة لكن على ما يبدو يتنامى إحساسهم بلا جدوى الديمقراطية التمثيلية مادامت أغلبية الأحزاب التقليدية لم تتطور بما يستلزمه عصر الرقمنة ولازال من بين ممثليها في المؤسسات التشريعية أميين أو ذوي مستوى تعليمي جد متدن بينما تغلق منافذ الولوج الى مواقع القرار السياسي لمن هم اكثر معرفة وحنكة واختصاصا من الاطر الحزبية.
إن هذه التحولات المجتمعية السريعة تتطلب من الاحزاب اليسارية الحقيقية التي تدافع عن قيم الحداثة والعصرنة أن تقف مليا لتراجع بناء الذات الحزبية بمقومات اشتركية القرن الواحد والعشرين مع طرح سؤال الديمقراطية التمثيلية في ظل المتغيرات الرقمية الحالية وبابتكار آليات رقمية عصرية تجيب على سؤال المرحلة من قبيل استعمال الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم الآلي Artificiel Intelligence & Machine Learning للاستقطاب والتأطير السياسي خصوصا في أوساط الشباب مواكبة للتواصل السياسي الرقمي او ما يمك الاصطلاح عليه التواصل التقنو-سياسي " Technopolitics communication" على شاكلة مجموعة من احزاب اليسار الشابة والحديثة في الحقل السياسي الأوروبي وعبرها تجديد المفاهيم السياسية والمرجعيات واليات الاشتغال في حقل السياسة بما يتماشى و استيعاب التكنولوجيا الحديثة للقرن الواحد والعشرين وترويضها من اجل التكوين المستمر وتطوير ومسائلة مستمرة للفكر الإنساني مع الحفاظ طبعا على وهج الجوهر النبيل للقيم الإنسانية والمبادئ الكبرى التي تأطر الديمقراطية كفلسفة كونية قابلة للتعاطي العصري الحداثي مع متطلبات روح العصر في كل قضايا الشأن العام المعاصرة.
واخيرا لا يمكننا تصور بنيات حزبية عصرية تحاول فهم العالم من حولها وإيجاد موقع قدم دون الارتكاز الى أرضية فكرية عصرية لها بعد استشرافي للمستقبل وإجابة على المتغيرات المجتمعية والثقافية والبيئية والتكنلوجية لتمكنها من فهم الحاضر في علاقته بالمستقبل وتمكنها من تحليل وفهم التحولات المجتمعية المتسارعة في سياقين مختلفين للزمن السياسي الطبيعي والبطيء قياسا بالزمن التكنولوجي الفائق السرعة. ويبدو ان الرهان على الزمن السياسي لوحده في تحقيق التغير المنشود كالرهان الخاسر في انتظار فوز السلاحف في سباقها مع الارانب. لذا قد يكون عنوان التخلف السياسي الحالي لاحزاب اليسار مرآة تعكس درجة التخلف العام في كل تجلياته و تعبيراته التكنلوجية والعلمية والمجتمعية، لا يخلوا من كونه ايضاارثا تاريخيا للدولة المخزنية التقليدية وعلى مستوى اخر يمكن اعتبار اللحظة السياسية الحالية فشلا لليسار الذي لم يكن مستعدا تنظيميا وفكريا و لم يستطع تحويل "لحظة الجنون" ابان الحراكات الجماهيرية كلحظة خصوبة اجتماعية الى فرصة سياسية بين دورتي الاحتجاج والدورة السياسية لتتفاعل فيه التحولات المجتمعية والتكنولوجية ربما لفرز مخاض انتقالي بتوجهات فكرية-سياسية جديدة تاطرها التكنلوجيا الحديثة والمستقبلية في اتجاه تشكيل اللبنات الاولى لمغرب الغد كمغرب المستقبل الذي سيعرف طفرة الذكاء الاصطناعي و تغيير مستقبل البشرية جمعاء من خلال اليات تدبير السيولة المعرفية المتراكمة بمتواليات هندسية فائقة السرعة والتحكم في المعلومة واستعمالها لصالح تطور البشرية عبر ثورة رقمية تتجه الى تطوير تقنيات عالية الدقة فيما يرتبط بتخزين ومعالجة المعطيات الرقمية الضخمة او ما يصطلح عليه اليوم بمجال "Big Data" تمهيدا لانطلاق الموجة التكنلوجية القادمة بدءا من عالم النانوتكنلوجيا مرورا الى عالم الذكاء الاصطناعي الذي يتحكم فيه الانسان والالة معا مما سيضفي على التحولات المجتمعية وتدبير الشأن العام تحولات جذرية من جراء تغلغل الرقمنة الى البنيات المؤسسات التشريعية والحكومية "e-government" والتي بدت ارهاصاتها الاولية لتضفي في المستقبل القريب طابعا خاصا على التدبير المؤسساتي يصعب تخمينه و استشرافه الا اننا لازلنا بين زمنين نراوح مكاننا و نعيش ازمة مخاض عسير تحكمه رداءة مستوى الحكامة الرقمية والورقية معا وهشاشة البنيات الحزبية والردة السياسية من جراء الازمات السياسية و تغول النيولبرالية المتوحشة التي أغرقت الدول النامية بالديون للتحكم في سياساتها لإعادة سيناريو الثمانينيات لفرض تقويمات هيكلية وسياسات التقشف مما سيرفع منسوب البطالة العالمة وغيرها وهجرة الادمغة الشابة والمزيد من تحكم الاوليغارشية السياسية الاقتصادية والتي تعتبر اليوم ارثا ثقيلا من مخلفات القرن الماضي و تشكل عبئا حقيقيا على كاهل الدولة كونها تستنزف كل إمكانيات الاقلاع السياسي والاقتصادي.، أما ما تبقى من الاحزاب على قلتها والتي تطالب بتحقيق الديمقراطية وتدافع عن الطبقات المسحوقة وما تبقى من طبقة وسطى تتعرض لحصار ممنهج ومستمر. اضافة الى تراجع دور الدولة في الحفاظ على القطاعات الحيوية و تامين الولوج الى الحقوق الأساسية كالتعليم والسكن والصحة مما يضع المجتمع في مواجه مباشرة مع الدولة مع غياب نخبة سياسية ببرنامج تنموي قادر على تحقيق الاقلاع الاقتصادي مما ينبئ بقدوم الأسوء على شكل دورات احتجاجية تبدو ملامحها في الافق وما سيليها من دورات وفرص سياسية يجب استغلالها من اجل بناء صرح الديمقراطية المنشود و سن سياسية حداثية اجتماعية بمقدورها حلحلة الوضع المحتقن وفتح افاق جديدة للشباب والمستقبل.

موازين القوى والية التدوير السياسي
لقراءة تطور ميزان القوى بين المؤسسة الملكية والاحزاب الوطنية نجد ان تاريخ الدولة المغربية وتحديدا دائرة المربع الاول، مركز القرار السياسي قد عرف ابان السياق الدولي للحرب الباردة صراعا مع الحركة الوطنية منذ عزل اول حكومة تقدمية برئاسة عبد الله ابراهيم كتعبير سياسي اشتراكي اضافة الى تنظيمات اليسار الماركسي اللينيني الراديكالي عبر الواجهتين السياسية والنقابية مما مكن المخزن لاحقا احتواء جل الاحزاب التي ولدت من رحم الحركة الوطنية بما فيها أحزاب اليسار وذلك عبر اختراق أحزاب الحركة الوطنية والتسبب في انشطاراتها المتوالية مرورا الى فصل ذراعها النقابي عن الذراع السياسي كما حدث للاتحاد الاشتراكي حيث اصبح حزبا بدون نقابة قوية وصارت الكنفدرالية نقابة بدون حزب قوي، اضافة الى تفريخ النقابات مع فصل ما هو نقابي عن ما هو سياسي لتحويلها مؤسسات متحكم في قرارها عبر اليات الريع النقابي لقيادييها بتمويلات هائلة خارج نطاق المحاسبة المالية على عكس المؤسسات الحزبية وباختزال دورها في ما هو مطلبي بعيدا عن كل اجندة حزبية للاستفراد بهما معا وبالموازاة تم إغراق الساحة السياسية بتنظيمات سياسية جلها ذيلية تخدم مصالحها ومصالح المخزن (33 حزبا) في إطار ما سمي آنذاك بالسياسة التعددية تحت مسمى الدمقراطية المفترى عليها لتقف سدا منيعا ضد تشكل اقطاب سياسية متجانسة تأسس لأي انتقال ديمقراطي محتمل وذلك تحت ذريعة قطع الطريق على تشكل ما سمي بالحزب الوحيد . كما تمت محاصرة المد الطلابي و الزج بمناضلي الحركة الطلابية من ذوي التوجه الماركسي اللينيني ابان سنوات الرصاص و السماح للمد الاسلامي المتطرف للتغلغل داخل الاوساط الجامعية وخارجها والتغاضي عن التصفيات والمجازر الدموية في صفوف الطلاب اليساريين. وظهور بوادر حزب سياسي بمرجعية اسلامية خرج من رحم الحركة الدستورية الشعبية بمباركة عرابها لدى القصر الدكتور الخطيب بعد رسالة الولاء المشهورة من بنكيران الى وزير الداخلية انذاك ليتبوأ لاحقا المشهد السياسي بعد إفشال حركة عشرين فبراير من طرف العدل والاحسان وعدم مشاركة العدالة والتنمية فيها وما شاب ذلك من احتمال عقد صفقة مع المخزن كبداية لإقفال مشروع التوافق التناوبي الذي تم تدريجيا التخلي عنه بعد اعتزال السياسة من طرف اليوسفي احتجاجا على خرق المنهجية الديمقراطية ليتم احتواء أحزاب الحركة الوطنية وأقصى ما يمكن القيام به لعب دور معارضة "جلالة الملك" لتصل الحضيض ضاربة عرض الحائط شهدائها و تاريخا نضاليا و سياسيا باذخا.
إن ما نلاحظه اليوم من رداءة التدبير السياسي داخل مفاصل الدولة وايضا داخل كل المرافق السياسية التنفيذية والتشريعية هي نتاج عملية تدوير سياسي " Political recycling " لتنظيمات سياسية قد تضم احزابا أنشئها المخزن أو تم احتواءها من طرفه اوتم الاستغناء عنها بعدما استنفذت ادوارها السياسية لفظتها الطاحونة السياسية خارج الدورة السياسية المخزنية. وتعكس هذه العملية غياب الارادة السياسية للانتقال الديموقراطي واستمرار خلق التشكيلات الحكومية الهجينة باحزاب سياسية ادارية ووسط يسار مطيع ويمين اسلاموي انتهازي يمثلون "البرجوازية الصغيرة الجديدة" حسب تعبير جيريمي جيلبير Jeremy Gilbert (2020) من اجل تدبير الشان العام عبر تمثيلية متحكم فيها سلفا باستعمال تكنلوجية التقطيع الرقمي الموجه عبر نظم المعلومات الجغرافية (Geographic Information System : GIS) باستعمال المعطيات الادارية والترابية دون اشراك الاحزاب او إشراكها صوريا في غياب لجنة مستقلة للاشراف على الانتخابات والتي طالما طالبت بها احزاب اليسار الا ان الرفض المنهجي للدولة كان ولا يزال جوابا ثابتا للمرحلة. إضافة إلى الحياد السلبي خلال الانتخابات الذي يساهم في إفساد الاستحقاقات أو إغراقها بالمال الحرام و تغاضي الادارة عن شراء الذمم بعيدا كل البعد عن القواعد الدمقراطية. وهكذا يتم تكريس اعادة انتاج مؤسسات "سياسوية" عبر بناء تحالفات هجينة لتنفيذ السياسة المملاة عليهم من طرف المخزن للتحكم في اليات وصيرورة التدافع بين مكونات المجتمع والدولة لاستدامة ميزان قوى تسود وتحكم فيه المؤسسة الملكية في ظل دمقراطية صورية. ربما تتقاطع الدولة والدولة العميقة في التصور ان استمرار المخزن قد يكون رهينا من الناحية التكتيكية بخلق هكذا بنيات حزبية وايضا بمحاولة استدراج ما تبقى من بنيات حزبية يسارية حقيقية تمارس سياسة نظيفة بعيدا عن اللعبة المغشوشة الى الطاحونة السياسية المخزنية ليتم تدويرها مع ما تبقى من الخردة الحزبية المتهالكة لتمديد عمر السياسة المغيبة في قاعة الانعاش بع التاكد من موتها السريري ان هذا التصور وان كان ظاهريا يوحي بامكانية التحكم في الاوضاع الا انه على المدى المتوسط فإن تغول اللوبيات السياسية والاقتصادية ومافيات المال والاعمال وحفاظا عن مصالحها تهدد استقرار الدولة وقد تكون سببا في اندثارها وانهيارها. وهكذا فان تدبير الشان العام خارج منطق وجوهر الدمقراطية يؤدي حتما الى انتفائها ويعيد الصراع الى مربعه الاول وفي غياب بنيات حزبية قادرة على تاطير المواطنين وكمفاوض خلال محطات الاحتقان تجد الدولة نفسها وجها لوجه امام الحراكات الجماهيرية المتواترة والمنتشرة على ربوع الوطن وخصوصا حراك الريف الاخير الذي أبان عن هشاشة سياسية مزدوجة داخل الاحزاب والدولة معا، وما تبع ذلك من اعتقالات سياسية تذكرنا بزمن الرصاص إضافة ومن اجل تهدئة الاوضاع تم عزل سياسيين من مواقع القرار السياسي وطنيا وجهويا واعلن رسميا عن فشل النموذج التنموي للدولة كباقي النماذج السابقة منذ إقالة أول وزير اول في تاريخ المغرب.
من خلال ما سبق يبدو ان اللعبة السياسية المفبركة بصيغتها الحالية قد استنفذت شروط استمرارها كنمط حكم تنفيذي وتقليدي متحكم في دواليب الحياة السياسية يهدد استمرارية الدولة مما يتطلب عملية مسح الطاولة وإرساء نقاش وطني ديمقراطي صريح ومسؤول حول بناء تعاقد سياسي واقتصادي واجتماعي جديد كأساس لمغرب اخر ممكن يستلزم قطائعا مع سياسات التفقير والريع ويعود الى تبني الديمقراطية الحقيقية كصمام امان لاستمرار الدولة وتقدم المجتمع وكضامن لعدم اعادة انتاج نفس الدورة السياسية المزيفة التي اوصلت الدولة والمجتمع الى النفق المسدود.
التحالفات السياسية و اليات صنع القرار السياسي الموجه
إن واقع التعددية الحزبية يلخص مراهنة الملكية على واقع سياسي ينسجم مع طبيعتها كمؤسسة تنفيذية تجسد الانتصار السياسي التاريخي "للقوة الثالثة" حسب تعبير الراحل عبد الرحمان اليوسفي -في رسالة بروكسيل الشهيرة- الذي حققته الملكية في صراعها مع الحركة الوطنية خصوصا في المرحلة الأولى للاستقلال إذ انفصل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي عن حزب الاستقلال وكان يتبنى خطاب تقدميا و حداثيا ويطمح نحو التغيير الديمقراطي و بعدها لاحقا في بداية تجربة التناوب التوافقي بعدما فشل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي في تدبير اختلافهما السياسي بعد انتخابات شتنبر 2002 رغم تصدرهما لنتائجها: فتم تعيين جطو وزير الداخلية السابق وزيرا أولا خارج المنهجية الديمقراطية بمثابة معاقبة لهما من الناحية السياسية على اعتبار أنهما لم يعطيا أي مدلول لما تحقق في هذه الانتخابات وايضا كفرصة للدولة العميقة لغلق القوس الذي ربما كان سيؤسس لمحطة الانتقال الديمقراطي باستمرار عبد الرحمان اليوسفي على راس الحكومة في ولاية ثانية.
واليوم يعتبر دسترة التعددية الحزبية في المغرب من خلال البند الثاني من الفصل الثالث من الدستور الذي ينص على عدم شرعية نظام الحزب الوحيد مثيرا في منطوقه لبعض الاحتمالات المتصلة به أساسا ويتعلق الامر في الالغاء الضمني لإحتمال بروز حزب ما قادر على اكتساح الساحة السياسية. وهو تصور يتناقض مع التنافس السياسي و لو افتراضيا، ولا يعني حظر نظام الحزب الوحيد عدم قبول تنظيم انتخابات بمشاركة حزب وحيد و تعتبر انتخابات 1970 التشريعية التي شارك فيها حزب الحركة الشعبية لوحده مع اللامنتمين فيما قاطعتها باقي الاحزاب السياسية مثالا على ذلك .مما يعني أن المنع يستهدف المشهد الحزبي وليس طبيعة المشهد البرلماني. وبناء على منطق الدستور لايستساغ سياسيا أيضا تشكيل تحالف حزبي استراتيجي ينصهر في شكل تنظيم موحد على شاكلة "كتلة تاريخية" قد تستطيع في مرحلة لاحقة جعل ما تبقى من الاحزاب السياسية في الساحة عاجزة عن المنافسة السياسية. ربما أن هذه الفلسفة التي يتبناها المخزن لاستدامة تشرذم المشهد السياسي بالمغرب للأسف غامضة ولا تبشر القرائن بقرب تبددها، ولا تدل الممارسات الحزبية على إرادة صادقة في إزالتها. ويضاف الى ذلك التعدد المفرط في الأحزاب السياسية في المغرب (أكثر من ثلاثين حزبا) مع تشابه الخطاب السياسي والجنوح إلى الكلام الفضفاض مما يحجب غالبا عن المواطن المغربي مكامن الاختلاف، ويكرس استدامة العزوف السياسي بحيث لا يستقيم الذهاب إلى الانتخابات بما يفوق ثلاثين حزبا لا تؤطر سوى نسبة 0.3% من المواطنين. أما الآن، في ضوء المقتضيات الجديدة التي يفرضها الدستور الجديد تطرح مسألة التكتلات السياسية في صيغة جديدة، على شاكلة تحالفات فدرالية تمكنها من تشكيل حكومة ان حازت على أغلبية مريحة على غرار الديمقراطيات الغربية. الا ان ما يحدث بالمغرب احيانا فالتحالفات السياسية اشبه ب " أكلة الماكدونالدز" حيث لانستغرب مثلا أن الاتحاد الاشتراكي و التقدم والاشتراكية شكلا حكومة مع حزب العدالة والتنمية الاسلاموي وحزب الاستقلال ضاربين بعرض الحائط المرجعية الإيديولوجية والبرامج السياسية المختلفة لأي حزب حد التناقض وقد يمكن ان تقوم التحالفات على أساس برنامج انتخابي أياما قبيل الانتخابات ونستذكر هنا تجربة التكتل السياسي (Political Cartelization) للاحزاب اليمينية حفاظا على مصالحها الاقتصادية والذي ولد ميتا ذات خريف 2011 و الذي كان عبارة عن تحالف سياسي لأحزاب مغربية مشكلة من ثمانية أحزاب أنشئ يوم 5 أكتوبر 2011، على بعد أقل من شهر ونصف من الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها والمقررة في 25 نوفمبر 2011 تحت مسمى التحالف من أجل الديمقراطية أو تحالف الثمانية أي G8 . ويعتبر هذا التكتل الحزبي الغريب بالنسبة للباحثين في مجال العلوم السياسية، تتشكل نواته الصلبة من (Cartel) رباعي: بحزبين في "المعارضة" (الاتحاد الدستوري، الأصالة والمعاصرة) وحزبين في الأغلبية (الحركة الشعبية، التجمع الوطني للأحرار). ومما يؤكد سريالية وعبث المشهد السياسي أن الأحزاب الأربعة الباقية التي التحقت بالنواة الصلبة ليغدو تكتلا ثمانيا هي أحزاب اشتراكية من وسط اليسار ، بل ومن يسار وسط اليسار (اليسار الأخضر، الحزب العمالي و الحزب الاشتراكي الذي انشق عن المؤتمر الاتحادي وتم تاسيسه 2006 وكان امينه بوزوبع امينا عاما سابقا لحزب المؤتمر الوطني) اضافة الى حزب إسلامي ( النهضة والفضيلة) انشق قبل سنوات قليلة عن حزب العدالة والتنمية. إلا أن اثر هذه الاحزاب متكتلة كان باهتا بالمؤسسات بحيث ان الأحزاب الأربعة التي التحقت بالتكتل الرباعي حازت على أقل من عشرة مقاعد نيابية في غرفة برلمانية يتجاوز أعضاؤها ثلاثمائة نائب برلماني. كما أن أحد الأحزاب الأربعة لم يحصل على أي تمثيلية بالبرلمان بينما مثل احدهم بنائب برلماني واحد.
نخلص إذن إلى مجموعة من الحقائق التي لا يمكن إغفالها والتي تتعلق بالزيف الإيديولوجي والعبث السياسي الذي صاحب وجود هذه التكتلات إذن كيف كيف سيتأتى لحزب يساري نظيف أن يكون أداة للديموقراطية و يطمح للوصول الى إلى الحكم في مجتمع تقليدي وانتخابات مزيفة ؟ وكيف يمكن في ظروف كهذه أن يستطيع الحزب السياسي اوالتكتلات السياسية الديمقراطية المنسجمة كممثل للإرادة الشعبية في تغليب ميزان القوى؟ وكيف يمكن خلق أداة حزبية قوية ومتجانسة تلتقط لحظة الخصوبة السياسية وتحويل "لحظة الجنون" من قلب الدورات الاحتجاجية القادمة الى لحظة مؤسساتية تفتح نافذة سياسية جديدة يمكن استثمارها لبناء ميزان قوى جديد من خلال تحالفات استراتيجية تضم كل الغيورين السياسيين والمدنيين والأكاديميين والمثقفين الذين تتقاطع مرجعيتهم الديمقراطية كنواة فكرية لتحقيق الاهداف السياسية المشتركة ؟

مرتكزات التحالف السياسي الاستراتيجي الفيديرالي لأحزاب اليسار في أفق صنع القرار السياسي البديل
إن الإطار النظري لكل سياسة تهدف تجميع قوى اليسار على شاكلة تحالف سياسي واسع لتغيير موازين القوى لا يعني حتمية تذويبه او صهره في تنظيم سياسي واحد موحد، سواء تحقق ام لم يتحقق، كما لا يعني ابدية التحالف السياسي وان توحدت الاهداف السياسية والحمولات الفكرية ففي السياسة ليس هناك حليف دائم كما انه ليس هناك خصم دائم، وكل تحالف سياسي استراتيجي يروم تغيير موازين القوى والولوج إلى المؤسسات يمكن بناءه على ثلاث مرتكزات اساسية: التقاطع، الافقية و الإعلام.
ان مفهوم التقاطع يرتكز اساسا على المشترك الايديولوجي لانه قد يستحيل الاتفاق ايديولوجيا بصفة كلية، لذا نعتبر التقاطع الفكري كارضية صلبة تضم المشترك الايديولوجي الممكن لبناء تحالفات صلبة لتحقيق قوة سياسية تساهم في تغيير ميزان القوى وتصنع الفارق السياسي . إذ لا يكفي البناء العمودي للاداة الحزبية كارادوية سياسية فوقية مركزية للقيادات دون اشراك القاعدة او تلبية لعرض سياسي ما من طرف الدولة خصوصا في لحظات الأزمة السياسية أو الاقتصادية أو هما معا تحت ذريعة إنقاذ الوطن كحق يراد به باطل خارج التعاقد المؤسس للمسؤليات حقوقا وواجبات. وعلى سبيل المثال فإن تجربة التناوب المجهضة والتي لم يتم التعاقد حولها بشكل واضح وصريح، كانت نتائجها وخيمة على الحقل السياسي الذي تم تفكيكه وفقد مصداقيته مع ما تلاه من تغول الدولة العميقة بالرجوع إلى السلطوية في غياب حكومات حقيقية تمارس على الأقل صلاحياتها الدستورية مما عزل الدولة والاحزاب سياسيا. في هذا السياق العام يبدو أن بناء أي تكتل سياسي أفقيا وعموديا انطلاقا من ارضية فكرية وايديولوجية متماسكة وصلبة متوافق عليها تتسم بالوضوح الفكري قادرة على إيجاد مخارج سياسية وتنظيمية ملائمة لبناء اداة تنظيمية للتمكن من صنع " الة حرب انتخابية" تساهم في الدفع بالاحزاب اليسارية الهامشية وتكتلاتها تدريجيا نحو المؤسسات التشريعية والتنفيذية لتصريف الفعل السياسي وتدبير الشان العام، لذا فإن البناء السياسي لخارطة الطريق الايديولوجية حيث تتقاطع الافكار المؤسسة لاي تكتل حقيقي يتوخى تغيير موازين القوى رهين بمدى القدرة على التفكير المستقل لاي اطار سياسي من داخل التحالف الفدرالي او خارجه قادر على تطوير جدلية الوحدة والاختلاف كتناقض منتج لفائض القيمة السياسية والتنظيمية وذلك باعتبار الاختلاف سواء كان سياسيا أوتنظيميا من خصوصيات التحالفات سواء كانت فدرالية ام لا وايضا اعتبار الاختلاف تناقضا اساسيا يخلق من الديموقراطية الداخلية على علتها نقيضها المهيمن والمتسلط عبر دمج ما لايمكن دمجه من فلسفة تنظيمية وفروع ايديولوجية خارج مجال التقاطع الفكري لكل مكون على حدة مهما توحد الجذرالمشترك لكافة المكونات المتحالفة.... وهذا الاختلاف المنتج في اطار يمكن اعتباره إن تقدمنا اطارا "اكثر من التحالف واقل من الاندماج" يتسم بالقدرة الموضوعية على تصريف الوحدة الفديرالية الغنية باختلافها التنظيمي والسياسي والضامنة للاستقلالية والحرية في التفكير الحر المبدع لكل مكون مع الانفتاح على العمل المشترك عبر تعاقدات تنظيمية وسياسية في كل المحطات النضالية افقيا وعموديا للتغلغل في القطاعات والنقابات والنسيج المدني لممارسة سياسة القرب ولبناء فدرالية أقوى ميدانيا و مصدرا للمناعة الفكرية المكتسبة من خلال تراكم العمل السياسي والتنظيمي المشترك والتمرس عليه حتى يشكل الدعامة الأساسية للاداة الحزبية لكل مكون من مكونات التحالف الفدرالي ضمانا للعمل المشترك الذي يبني افقية التحالف القاعدي من اجل بناء المؤسسات الحزبية التي ستخول لها قاعدتها الشعبية ليس فقط ولوج المؤسسات بل امكانية الحصول على كتلة برلمانية تشريعية موحدة كفريق برلماني فدرالي يدافع عن الشعب اضافة الى التمكن من تدبير مشترك للجماعات القروية والحضرية بتعبيرات سياسية وتنظيمية متحالفة تؤطرها الوحدة الفدرالية لليسار في افق انضاج الشروط الفعلية لتحقق اللحظة التاريخية استقبالا كتعبير حزبي مؤسساتي ناضج سياسيا وممتد افقيا في دواليب المجتمع بطبقاته المتوسطة وعماله وفلاحيه ولن يتحقق التوسع الافقي والعمودي المنشودين الا بالعودة الى المفهوم الغرامشي بالاشتغال الموازي على المجتمع السياسي والمدني لتحقق مشروع الدولة المتكاملة . لذا يمكن استنتاج أن كل ما يتعلق بالتقديرات الفكرية والسياسية المتفاوتة تحت غطاء الخط السياسي المشترك لاي اطار سياسي ينضوي في اطار تحالف ذو طابع فدرالي يعتبر جوهر الكيمياء السياسية الحاضنة لكل التقاطبات الايجابية والسلبية التي تشكل هوية المشروع السياسي نفسه وان كان ظاهره موحدا فلا يضر في شيء أن تتمتع كل مكوناته بالحق المكفول في التقاطبات المتدافعة التي تخلق تعبيرات سياسية متعددة داخل بنية فدرالية موحدة في اختلافها و منفتحة على المجتمع.
اما في ما يتعلق بالافقية فنحن واعون أن وضعنا الهامشي في الحياة السياسية والمدنية لا يعني انه قدرنا المحتوم بل عكس ذلك أن ما نروم بناءه هنا والآن أداة سياسية متعددة التعبيرات السياسية في اطار وحدة فدرالية يسارية منفتحة على القاعدة الشعبية وعلى القطاعات المهنية والحرفيين والتجار الصغار والطبقة العاملة والفلاحين والمأجورين والمقاولين الصغار كطبقات اجتماعية قمينة بتحقيق التغيير وتغليب ميزان القوى المختل لصالح النيوليبرالية المتوحشة ولتقليص العزوف السياسي الذي يعكس حقيقتنا أرقاما هزيلة في كل محطة انتخابية وتؤكد وضعنا الهامشي في الحياة السياسية و المجتمع المدني وخصوصا في عملية صنع القرار الذي لا زلنا بعيدين كل البعد عنه.
ان البناء القاعدي لتامين استمرارية المشروع اليساري القوي يرتكزعلى آلية الدمقراطية التشاركية والجمعيات والمنظمات الموازية لتحويل جوهر كيمياء السياسة القرب الى سيولة طبيعية يسهل تشربها من لدن سواد الشعب حيث تساهم مكونات ملح التعبيرات السياسية الفدرالية الذائب في محلول المجتمع المدني لتحقق نفاذ كيمياء سياسية القرب الى عمق انوية المجتمع مؤطرة جوهر الفعل السياسي بالتأسيس لأذرع مدنية للتضامن الاجتماعي تبني وتصرف برامجها أطر ومناضلي ومناضلات اليسار الحقيقي فدراليا كان ام لا مرتبطين عضويا بالمجتمع ويتغيون مصالح وحاجيات المواطنين المحتاجين وقادرين على احتواء التقاطبات الايجابية والسلبية والتي تجعل من الشحنات الكهربائية الذاتية للمكونات الحزبية مصدرا للطاقة التي تستديم جدلية التفاعل عند التماس مابين العمل السياسي والمدني، كما يساهم في تطوير بوصلة الخط السياسي المستقبلي الثابت على الارض با بداع آليات متنوعة من العمل الجماعي المشترك والمبادرات الفردية للبرامج والمخططات كفعل وحدوي تتحقق من خلاله مقولة الوحدة داخل الاختلاف بالية التفكير المستقل والعمل على البناء الجماعي للتجربة اليسارية الفدرالية.وبالمقابل ، ففي غياب تصريف تلك الطاقة الذاتية وتوجيهها نحو البناء الجماعي المنتج فسنحصل على شرارة إلحاق السالب بالموجب لتحرقهما معا ويليها انتشار الظلام في السياسة كما في المجتمع.
واما الشق الثالث والمتعلق بالالة الاعلامية والتي تعتبر حسب غرامشي من أقوى أجهزة الهيمنة. فسأسرد هنا تجربة بالغة الاهمية لحزب بودموس Podemos الاسباني، لأنه لا يمكن فهم توسعه الاستطرادي دون الانتباه إلى استعماله المكثف لوسائل الإعلام وخصوصا الرقمي، ولأن بناء قاعدة انتخابية تتطلب فيما تتطلب "آلة حرب انتخابية" للانتقال من الهامش إلى فضاء المؤسسات "وآلة حرب اعلامية" قوية لبناء جمهور متتبع . هكذا ظهرت فكرة لا تويركا ومضمون الفكرة هو ربط جسور التواصل بين بودموس وجمهوره من خلال قنوات تلفزيونية رقمية مثل La Tuerka و Fort Apache. والتي كانت تبث برنامجا حواريا سياسيا ناجحا (Tertulia politica ) وهذه التجربة الاعلامية الناجحة استندت على الاستراتيجيات الإعلامية التي تم اختبارها على نطاق واسع في أمريكا اللاتينية (Oscar Garcia A. 2020). وكان الخط التحريري الإعلامي يركز في عمومه على تعبئة جماهيره للانتقال من الهامش إلى عمق المؤسسات ، وخصوصا مناقشة وكشف التناقضات السياسية للخصوم السياسيين؛ وتسليط الضوء على التوترات الداخلية للقوى السياسية المعارضة بقدر ما لم تهتم القناة التعبير عن وجهات نظر حزب بودموس المستبعدة تقليديًا من المجال العام.
ومن ناحية اخرى تم الاشتغال على الشق "السياسي التقني" Techno-politique " ، بابتكار مميز لبوديموس عبر تأسيس "آلة تواصل سياسي"." Machine politique de communication " والاعتماد بشكل قوي على نشر وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الرقمية الجديدة من طرف الشباب. إذ اضافة الى تبني بوديموس هذه الآلية التقنو-السياسة، عزز المشاركة الرقمية بأدوات جديدة (Rubiño (2015؛ Pizarro and Labuske (2015) . فأسس الحزب منصاته الرقمية وتمكن من خلالها لاستقطاب آلاف الأعضاء الى "ممارسة السياسة" من خلال اقتراح سياسات الحزب ومناقشتها والتصويت عليها. وهكذا أنشأت " بوديموس منصة دائمة عبر الإنترنت ، تسمى "Plaza Podemos" ، وهي قناة رقمية يمكن لجميع أعضاء الحزب من خلالها المشاركة في الحياة الحزبية الداخلية ( (Pizarro and Labuske 2015.
وأخيرا، ليس آخرا ان التزامنا بالخط اليساري الرديكالي للحزب لا يعني البتة إن كنا اليوم حزبا هامشيا أننا سنبقى كذلك متقوقعين حول ذواتنا أو منغلقين تجاه من نتقاسم معهم نفس الهموم السياسية والاجتماعية، بل كنا وسنبقى دوما منفتحين تجاه كل القوى اليسارية الحقيقية واتجاه كل المثقفين والديمقراطيين المؤمنين بقضايا الشعب والوطن. حقيقة لم نصل بعد، لكن لا يعني أبدا أننا سنعود من حيث أتينا...بل بالعكس نحن سائرون بقوة وثبات وبتريث نبني صرح شبابنا ليبني مستقبل حزبنا، قادمون بحلم جميل لمغرب آخر ممكن و نتحمل مسؤولية إنجاحه.

طنجة 1 يونيو 2020
المراجع
Della Porta D. (2015) : Del 15M a Podemos resistencia en tempos di recesión. Encrusijadas 9, 1-11
Gramsci, A., (1971) : . in Hoare, Q. Selections from the prison notebooks (p. 350). London: Lawrence and Wishart.
Hoby, J. (2013) : Fagbevægelsen i lort til halsen. Modkraft, (in Oscar Garcia 2020).
Hume D. (1752): Essai sur la liberté de la presse.
Jeremy G. (2020) : Twenty-First Century Socialism. First published in 2020 by Polity Press. Uk
March, L. (2011): Radical Left Parties in Europe. (London: Routledge).
Marche L. (2013): The european radical left and the international economic crisis: Opportunity wasted ? in open democracy
March, L., & Keith, D. (2016): Introduction. In L. March & D. Keith (Eds.), Europe s radical left. From marginality to the mainstream? (pp. 1–23). London: Rowman & Littlefield International.
Óscar García A. (2020): Left-Wing Populism The Politics of the People. Emerald Publishing-limit-ed UK.
Pizarro, M. A. and Labuske, E. (2015) : El músculo deliberativo del algoritmo democrático: Podemos y la participación ciudadana’, Teknokultura 12(1): 93–109.
Rubiño, E. F. (2015) : Nuevas formas de cultura política: Podemos, un giro anómalo de las redes sociales’, Teknokultura 12 (1): 77–91
Tarrow S. (1993): Cycles of collective action between moments of madness, and the repertoire of contention. Social Sciences history 17 (2) 281-307



#محمد_نجيب_زغلول (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
- متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
- نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
- اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا ...
- الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
- اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
- مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع ...
- رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51 ...
- العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل ...
- أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع ...


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - محمد نجيب زغلول - بناء الاداة الحزبية مابين دورة الاحتجاج والدورة السياسية