لقد طغت أخبار الغزوة الأمريكية البريطانية البربرية على العراق، على كل ما يواصله شارون في فلسطين من قتلٍ وذبحٍ وتدمير. فيبدو أن أغبرةَ هذه الغزوة المكثفة كانت بمثابةِ البلسم الذي مكَّنَ هذا الفاشي من رفع مقدار وجبته اليومية من الدم الفلسطيني إلى أقصى حد. ليس هذا فحسب، فالمكاسب الأهم بالنسبة إلى إسرائيل من هذه الحرب تكمن في تدمير وتفتيت وإزالة ما تعتبره تاريخياً "صداعها النصفي الدائم"، وهو العراق ككيان بما يشكل من تهديدٍ استراتيجي تاريخيٍ لها. وهذا ما أكده كولن باول أخيراً في خطابه أمام أحد المؤتمرات الصهيونية في أميركا حينما قال: من أولى نتائج حربنا الراهنة على العراق هو تحقيق الأمن لإسرائيل".وقد قال رئيس الوزراء الماليزي في هذا الصدد: من أحد الأسباب الأساسية للحرب على العراق هو تحقيق أمن إسرائيل والقضاء نهائياً على أية قوة يمكن أن تشكل خطر عليها".
كيسنجر وولفوويتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث ونتنياهو وصهاينة آخرون هم الذين كانوا قد وضعوا خارطة هذه الحرب التي تدور رحاها الآن على التراب العراقي، فهؤلاء يرون أن طيَّّ الملف الفلسطيني والسيطرة على القدس وقضم القسم الأكبر من الضفة الغربية، كل هذا لن ينجز إلا عبر بغدادٍ ذات سمات أمريكية إسرائيلية. فعالمنا العربي منذ القديم، كان يستند إلى جناحين كبيرين متمفصلين، مصر في الغرب في وادي النيل، والعراق في الشرق في وادي الرافدين، وسوريا بينهما المفصل الذي يوحد بينهما. وكان قد انهار أحد هذين الجناحين في عام 1977 حينما ذهب السادات إلى إسرائيل، والآن تبذل أميركا بقيادة المحافظين الجدد للإجهاز نهائياً على الجناح الاخر، لتتعوم إسرائيل كأهم وأقدر كيان في الشرق الأوسط، بين دويلات طوائف لا حول لها ولا قوة.
القابعون في البنتاغون يعرفون جيداً أن دولة فلسطين التي يحكى عن تشكيلها في المحافل الدولية، سوف تكون من القزامة بقدر ما تتقزم بغداد والقاهرة ودمشق وبقدر ما يتقزم العرب بشكل عام. هذا ما لا تكترث له معظم الأنظمة العربية وملوك طوائف العصر وما لم تعِهِ قيادات الثورة الفلسطينية التي لم تتمكن منذ حوالي أربعين عاماً وحتى هذه اللحظة من التوصل إلى استراتيجيةٍ سياسية موحدة للنضال الفلسطيني ضد الاحتلال.
لقد ترعرعت المسألة الفلسطينية في أحضان المسألة العربية، وفي اعتقادنا أي حلٍ للمسألة الأولى يبقى مرحلياً، وصيرورته مرتبطة بصيرورة المسألة الثانية أي المسألة العربية، التي تكمن أساساً في عجز الأقطار العربية عن إنجاز أي تقدم على طريق التوحد السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي، هذا العجز الناشئ في الأصل من عدم تمكن هذه الأقطار إنجاز أي إصلاح داخلي يهدف إلى بناء أنظمة ديموقراطية تتيح لشعوبها المشاركة السياسية الفعلية.
وبالنسبة إلى "خارطة الطريق" الذائعة الصيت، التي طرحتها الولايات المتحدة الأمريكية لحل القضية الفلسطينية، ووافقت عليها اللجنة الرباعية التي تتألف من الاتحاد الأوربي وروسيا والولايات المتحدة وهيئة الأمم المتحدة، فما يجب ملاحظته هو أن الولايات المتحدة قد ألقت بهذه الجزرة للدول العربية في الوقت الذي راحت تشرع في التهيئة لغزوها على العراق، فكانت تحمل منذ بدايات طرحها سمات تخديرية موجهة إلى الأنظمة العربية لحضّها على التحالف معها في غزوتها العتيدة. ولكن اشترطت لنشر هذه الخارطة تنفيذ إجراء إصلاحات داخل السلطة الفلسطينية وتعيين رئيس للوزراء. وأخيراً وبعد نقاش طويل عين السيد محمود عباس "أبو مازن" رئيساً للوزراء وهو منهمك الآن في تشكيل وزارته ولقد رحب عراب أميركا الحاذق طوني بلير بهذا التعيين وبدأ يصرح أن خارطة الطريق سوف تعلن رسميا بعد أن يقر المجلس الوطني الفلسطيني الحكومة الجديدة، ثم يثني على كلامه كولن باول، ولكن وزير الخارجية الأمريكي سرعان ما يبطل مفعول كلامه حول تطبيق هذه الخارطة في نهاية تصريحه حينما يقول: ولكن بلادي لاتستطيع أن تفرض على الإسرائيليين والفلسطينيين خطة خارطة الطريق". بطبيعة الحال هنا باول أضاف كلمة الفلسطينيين للتزويق وللحفاظ على ماء وجههم، فهو لم يكن يقصدهم في تصريحه وإنما يقصد الإسرائيليين الذين وضعوا مائة تعديل عل هذه الخارطة. فأميركا تمارس أعلى مستويات العهر السياسي في هذه الأيام، ولقد عبرت الجماهير المصرية الغاضبة عن هذا العهر أصدق تعبير في شعارها الذي رفعته: يا فرعون من فرعنك؟
فيبدو أن "خارطة الطريق" قد طرحت منذ الأساس كما قلنا لتقوم بوظيفة أفيونية وليس لكي تنفّذ، ويبدو أنها كانت جزرة بلاستيكية غير صالحة للأكل. ولقد شرع بعض المحللين في نعيها رسمياً، ومنهم الصحفي الإسرائيلي (عكيفا ألدار) في الهآرتس في مقالة له بعنوان"شهادة وفاة لخريطة الطريق" حينما أشار إلى الحرب الذي راح يشنها على هذه الخارطة عضو مجلس النواب الأمريكي(روي بلانتو) أحد رؤساء الكتلة الجمهورية والمقرب من الرئيس بوش، وأشار أيضاً إلى التحالف الذي نشأ مؤخراً بين بلانتو وزعيم الأقلية الديموقراطية في لجنة الخارجية في الكونغرس (توم لانتوس) من أجل إحباط هذه الخارطة.
على أية حال، ورغم أن خارطة الطريق ولدت لتدفن حينما تنته وظيفتها، فمع ذلك لا يملك الفلسطينيون خيار عدم التعامل معها، فظروف الانقسام الداخلي والعجز العربي الكامل والظروف الدولية بشكل عام لا تسمح بإدارة الظهر للدبلوماسية حتى لو كانت غير مجدية. ولا يمكن مطالبة الفلسطينيين بأكثر من طاقاتهم.
في هذه الظروف المأسوية التي تعيشها أمتنا العربية، وفي خضم هذه الهجمة الاستعمارية لابد من أن يضع الفلسطينيون استراتجية موحدة لنضالهم الطويل ضد الاحتلال، وفي اعتقادنا أن هذه الاستراتيجية يجب أن تأخذ في اعتبارها المسائل التالية:
1-عدم الذهاب بعيداً في الخصوصية الفلسطينية، فسوية النضال الفلسطيني في الأساس ليست معزولة عن سوية النضال العربي. وهذا يعني أن النضال الفلسطيني لا يمكن أن يتخطى بالنسبة إلى أهدافه المرحلية المطروحة أفاقا لا تنسجم مع الظروف العربية والإقليمية والدولية.
2-وهذا يعني أن الخطوط المستقيمة لا تفيد كثيراً في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، ففي أكثر الأحيان وبسبب تعقيد الواقع لابد من سلوك الخطوط المنحنية والمتعرجة، وهذا يحيلنا مباشرة إلى الانتفاضة التي هي قدر الشعب الفلسطيني للتخلص من الاحتلال، ولكن المقاومة لاتقتصر على شكل واحد ومستوى واحد، فلها أشكالها ومستوياتها المختلفة مع اختلاف الظروف والواقع. لذلك لا نرى أن الخلاف حول أساليب المقاومة يجب أن يؤخر التوصل إلى الاستراتيجية الفلسطينية الموحدة ضد الاحتلال. وفي هذه النقطة بالذات لابد من الفصل بين الإيديولوجية والسياسة من أجل الوصول إلى هذه الاستراتيجية. ولابد من العودة إلى أن الحرب والعسكرة وتخفيض مستواها أو رفعه،كل ذلك يبقى جزءاً من السياسة وضمنها، فالسياسة تبقى دائما أكبر وأوسع من الحرب.
3-على النضال الفلسطيني بأشكاله وأساليبه أن يلعب دائماً دوراً هاماً في كسب تأييد الرأي العام العالمي بما فيه الرأي العام اليهودي والإسرائيلي.
4- مواصلة الإصلاح الداخلي الفلسطيني والنظر إلى هذا الإصلاح على أنه مطلب شعبي فلسطيني قبل أن يأتي استجابة للضغوط الخارجية. وفي اعتقادنا أن التجربة الديموقراطية الفلسطينية ربما تلعب دوراً هاماً لدى المجتمعات العربية.
إن مكافحة الاحتلال لا يمكن أن تصل إلى النصر باستراتيجيات متعددة وهذا هو حجر الزاوية بالنسبة إلى النضال الفلسطينية أو أي نضال آخر ضد الاحتلال.
***********
الراي