|
في أن الغرب طائفي، وأن موقع العقل الكوني شاغر
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1587 - 2006 / 6 / 20 - 12:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تكاد علاقة أنظمة الشرق الأوسط بشعوبها تشكل نسخة طبق الأصل عن علاقة الغرب ببلدان المنطقة وكياناتها السياسية. علاقة تجمع بين الدكتاتورية والطائفية والمحاسيبية، وبين رفض السياسة والثقة المطلقة بنجوع القوة وجدواها. في فلسطين يقاطع الغرب شعبا واقعا تحت الاحتلال (واقعة فريدة في قسوتها وشذوذها). وحيال العراق استعاد وحدة تخلخلت قبيل وأثناء غزو البلد الآخذ اليوم بالتفكك. وحيال إيران تظهر وحدته المستعادة متانة لافتة. وفي الوقت نفسه يظهر الغرب المستعاد أعلى مستوى تفهم حيال إسرائيل وسياساتها منذ ربما ما يقارب 40 عاما. نعرف الغرب في هذا المقام بالرابطة الأطلسية والدور الأميركي القيادي ضمنها. استعاد التكتل الغربي وحدته على أرضية تنازلين: تنازل أميركي عن مشروع الهندسة الجيوسياسية الكبرى للشرق الأوسط (بطنته أحيانا أحلام جيوثقافية جامحة)، وتنازل أوربي عن أية أوهام حول تشكيل محور مستقل أو معارض للسيادة الأميركية. وراء تراجع "الثورية" الأميركية والاستقلالية الأوربية مقاومات واضطرابات دفع العراق وشعبه ثمنها الأكبر، وتمثلت أهم نتائجها في ارتفاع متجدد للطلب على الاستقرار، وتاليا إعادة الاعتبار إلى عارضيه غير الديمقراطيين من أنظمة المنطقة. على أن تغيرا حاسما وغير قابل للانعكاس قد جرى: خفض جديد لسيادة الدول المحلية واستبطان أعمق لـ"الخارج" الأميركي. في المنظومة الشرق أوسطية تدين السلطة السيادية للولايات المتحدة، وهي سلطة غير منتخبة وغير دستورية، سلطة دكتاتورية في حقيقة الأمر. يسعنا القول إن المنطقة الأكثر ابتلاء بالدكتاتوريات هي المنطقة التي تعاني أكثر من غيرها من دكتاتورية القوة القائدة لـ"العالم الحر". ورغم أن العلاقة بين الدكتاتوريتين قد لا تكون سببية فإن تفاعلهما المديد يشكل نظاما عميق مترابطا يتبادلان فيه التعزيز، هو على أية حال ما نسميه النظام الشرق أوسطي. على أن الولايات المتحدة، ليست القوة القائدة في الشرق الأوسط، وإن كانت القوة السيدة (في التحالف الغربي هي قوة قائدة). هذا بسبب تطرفها الشديد (انحيازها الأعمى لإسرائيل بالخصوص) وطائفيتها (عقدة التفوق الحضاري والتمركز حول الذات الغربية) ومحسوبيتها (التمييز بين الأنظمة على أسس أنانية خالصة، كما يثبت المثال الليبي). ويدرك الأميركيون أنهم يفتقرون إلى العنصر القيادي المتمثل بالاقتناع أو الانقياد الطوعي، عنصر القوة الناعمة حسب جوزف ناي أو الهيمنة حسب غرامشي، لكنهم يضللون أنفسهم بالاعتقاد أن سبب سوء سمعتهم في العالم العربي لا علاقة له بتكوين سياستهم بل بتسويقها وحده. هذا ما يرد حملاتهم لتحسين سمعتهم إلى مستوى عمليات علاقات عامة سطحية وعقيمة في الوقت ذاته، ويحكم بالفشل في مهدها. هذا أيضا ما يجعل من الدكتاتورية والإيغال في العنف الحل الوحيد للتناقض بين إرادة أميركا الحفاظ على سيادتها الشرق أوسطية (وتعزيزها كما جرى في السنوات الخمس الأخيرة) وامتناعها عن تغيير سياستها المتطرفة والطائفية (بل الإمعان فيها كما جرى في هذه السنوات نفسها). أما أوربا فتضحي بموقعها الموازن، المعتدل نسبيا، لمصلحة الرابطة الأطلسية. وإن كانت في ذلك لا تتعدى الاقتداء بسياسات لطالما مارستها الأنظمة العربية دون غيرها: عينها على أميركا، ولا تأخذ أوربا على محمل الجد. ولا ريب أن التداعي السياسي والمعنوي المفرط للموقف العربي بعد غزو العراق قد أضعف قوى الاستقلالية الأوربية، ودفعها إلى مواقع أكثر أميركية. بيد أن وراء ذلك كله مشكلة ثقافية قيمية، تتمثل في أن الغرب الأطلسي، بعد أقل من عقدين على انتهاء الحرب الباردة، ينحاز إلى قيم ومقاربات طائفية، ويمعن في المركزية الغربية وما يرتبط بها من سياسات امبريالية. هذا بعد أن كان عمل على مطابقة ذاته مع القيم الكونية للتنوير والحداثة أثناء الحرب الباردة. والحال إن التخلي عن تلك القيم بدا لحظة انتصارها المفترض. لقد كانت نظرية "صراع الحضارات" التي صيغت بعيد غروب شمس الحرب الباردة تعبيرا عن غلبة منطق الخصوصية الغربية على منطق الكونية. وسينعكس التخلي ذاك في "الحرب ضد الإرهاب". ففي سياق الحرب هذه لم يضيق الأميركيون، ثم لحقهم الأوربيون، على الحريات العامة بذريعة الأمن القومي فقط، ولم يفرضوا ما يشبه حالة طوارئ عالمية (سجون سرية وتعذيب واعتقالات دون محاكمات ..) فقط، ولم يتوسعوا في اللجوء إلى الحلول الأمنية والعسكرية فقط، لم يفعلوا ذلك كله إلا لأنهم رفضوا التفكير في وجود أسباب سياسية معقولة وراء الإرهاب غير المعقول. ما رفضوه في الجوهر هو فرضية تماثل الدوافع الإنسانية وقابليتها المبدئية لأن تعقل وفق مبدأ العلة الكافية. في الجوهر انصب رفضهم على فكرة العقل الكوني. الإرهاب شرير وبلا أسباب، إذن الأمن هو الحل. ويساورنا الظن بأنه ما كان للأميركيين والأوربيين أن يبلوروا هذه المقاربة العنيفة واللاعقلانية والأحادية الجانب للإرهاب لو كان موقفهما من الإسلام أقل سلبية، أو لولا طائفية متأصلة اختلطت على الدوام بمبادئ التنوير والحداثة الكونية، وتفاقمت بعد كسب الصراع ضد الشيوعية، وأكثر بعد 11 أيلول. يخيل لنا أيضا أن المعسكر الغربي لم يرفع راية الكونية ضد الشيوعية إلا لأن هذه كانت كونية بطريقتها، وأن لحظة الانتهاء من تلك المواجهة هي أيضا لحظة طي تلك الراية النافلة، والعودة إلى السياسيات الطائفية والامبريالية. كان من شأن موقف أكثر اعتدالا حيال الإسلام أن يدفع نحو معالجات اكثر سياسية واقل أمنية لمشكلات الإرهاب. ولا نرى اليوم كيف يمكن إعادة الاعتبار للقيم الكونية ومقاومة إغراءات الطائفية و"الحضارية" مع تخصيص الإسلام بموقف تمييزي. لا ريب هنا أيضا في أن الفراغ السياسي والأخلاقي الذي يسم دول الشرق الأوسط العربية والطابع الطائفي وغير العقلاني للمقاومات التي تصدر عن مجتمعاتها يتبادلان التعزيز مع الطائفية الغربية. والترابط البنيوي بين استبدادين طائفيين يحكم بالإخفاق الذريع على أية استراتيجية سياسية تعول على التخلص من إحدهما بالاستناد إلى الآخر: الاستناد إلى الأميركيين للتخلص من الدكتاتوريات المحلية، وهي السياسة التي زكاها نجاح الأميركيين في قلب نظام صدام حسين بسهولة قبل أن يبطلها السجل الطائفي والدامي للاحتلال الأميركي للعراق خلال السنوات الماضية؛ والاستناد إلى الدكتاتوريات المحلية لمقاومة الدكتاتورية الأميركية، وسجل هذه السياسة لا يقل طائفية ودموية، ويخلو من أي نجاح يذكر. يبقى شاغرا موقع اعتراض تحرري وكوني وغير طائفي على دكتاتوريتين طائفيتين، تتكاملان منظوميا حتى حين تتواجهان سياسيا وأمنيا. إنه موقع يتعين إنشاؤه إن لم نشأ الاستسلام للتشاؤم.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إطلاق سراح الماضي لقطع الطريق على ثمانينات جديدة...
-
احتلال الجولان وانتقاص مقومات الوطنية السورية
-
تحت ظلال العار..!
-
ميشيل كيلو وولادة المثقف السوري
-
من -العروبة أولا- و-سوريا أولا- إلى الوطنية الدستورية
-
-انغماس في العيب- حقاً!
-
أوربا ومخاطر انفجار قيامي للشرق الأوسط
-
خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي
-
تساؤلات بصدد الحرب الأهلية والحرب الطائفية
-
في أية شروط تغدو الطوائف فاعلين سياسيين؟
-
من سلطة غير دستورية إلى أخرى
-
إعادة تنشيط التمركز الأمني للسياسة السورية
-
هل يمكن للمقاومة الانتحارية أن تكون شرعية؟
-
مقاربتان حولاوان في التفكير السياسي العربي
-
العدو ذات تنقذ نفسها، ونحن ينقذنا التاريخ، لكن بأن نغدو موضو
...
-
ماذا يفعل السلاح في الشارع؟
-
التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة
-
لماذا يخسر الديمقراطيون العرب لعبتهم الديمقراطية، دائما؟
-
عيد الكراهية الوطني الثالث والأربعون
-
القوميون الجدد وسياسة الهوية
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|