أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير الخويلدي - جماليّات البيت العتيق















المزيد.....


جماليّات البيت العتيق


زهير الخويلدي

الحوار المتمدن-العدد: 6573 - 2020 / 5 / 25 - 20:46
المحور: الادب والفن
    


استهلال:

"البيت العتيق أُحِسّ بدفئه الخمري اللّون يتسرّب من الحواس إلى العقل"1

"كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل" - أبو تمام

إذا كانت الميتافيزيقا تنطلق من الإنسان كما هو ملقى به خارج العالم بعد أن مرّ عليه الدّهر وجعله نسيا منسيّا وكان الفكر الصناعيّ يبدأ بمعرفة الكون قبل الاهتمام بالداخل الذاتيّ ويعامل الأبعاد الشخصيّة والأمور المعنويّة تماما مثلما يعامل المصنوعات والأشياء الماديّة، فإنّ الفكر الحاذق ينطلق من وضع الإنسان داخل البيت ويهتمّ بكونه الأصليّ، مكان راحته وأمنه ومركز تكثّف أحلام يقظته طالما أنّ موقعه في العالم يتحدّد انطلاقا من موقفه من بيت الطفولة. وعندما يفقد الإنسان ذكرى بيته الأوّل فإنّه يصبح كائنا مفتّتا لا هويّة له ولا أصل. ومن لم يكن له ماضٍ لن يكون له مستقبل. لكن كيف يكون البيت أكثر من مجرّد شكل هندسيّ ويتجاوز درجة البناية التي تتكوّن من كومة من الأحجار ومجموعة من الأعمدة الحديديّة؟ فما الفرق بين منظر البيت من الداخل وبين أيّ منظر طبيعيّ في الخارج؟ هل يمكن اعتبار البيت كون الإنسان الأوّل وصَدَفته الأصليّة أم أنّه الكهف الذي يحتمي به وينعزل عن الناس؟ إلى أيّ مدى يمثّل البيت كيانا نفسيّا يقوم بوظيفة الحماية ويرمز إلى جماليّات المكان؟ لماذا قرن الفلاسفة، مثل باشلار وليفناس، بينه وبين المأوى أين يجد الخيال مملكة دافئة يترعرع فيها ويغتني بقيم الألفة والحميميّة؟ لكن الذي يطرح مشكلة ويدعو إلى التفكير هو الاختلاف بين البيوت وتنوّع قاطنيها. فهل يمتلك البيت قيمة في حدّ ذاته بمعزل عن قاطنيه أم أنّ نوعيّة السكّان هي التي تعطي للبيوت مجدها ووقارها؟ أليس هناك فرق بين البيوت في المدن والبيوت في الأرياف؟ ماهو موقع البيت من العالم؟ كيف يساعد البيت الإنسان على الوجود في العالم؟
1- في الهُنَا:
" البيوت في المدن تشبه الأنابيب التي تشفط البشر داخلها بواسطة تفريغ الهواء"2
ينتاب الناس القرف من المدينة والبيوت التي يسكنونها. بل حتى مصطلح "بيت" لا يصلح للاستعمال هنا. إذ يجوز الحديث عن حجرات أو شقق أو فيلات أو عمارات أو ناطحات سحاب أو مساكن شعبيّة في الأحياء الفقيرة والأحزمة العشوائيّة ذات البناء الفوضويّ المحيطة بالأحياء الراقية. ولا يمكن الحديث عن بيوت بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. هذا القرف ناتج عن الضجيج والاكتظاظ في الشوارع والأزقّة والأسواق وطوابير المستهلكين المصطفّين أمام المغازات العامّة. ويصدر عن التلوّث الذي أصاب الماء والهواء بسبب ما ينبعث من المزابل التي تلقى فيها الفضلات من روائح كريهة تكاد تعمي الأبصار وتسدّ منافذ الهواء النقيّ على الرئتين. وسببه أيضا ما يتسرّب من محرّكات السيّارات والمصانع من غازات ودخان كثيف وما يتصاعد من أبواق العربات والحافلات من أصوات فتسمع جلبة ولا ترى إلاّ طحينا، إضافة إلى ازدحام المارّة والتسارع مع الزمن واللهث وراء الفرص النادرة والتكالب على السلع المهرّبة. إنّ المدن بحور صاخبة تفتقد فيها الأشياء شيئيّتها ويخسر فيها الكائن البشريّ كينونته ويحسّ بالغثيان والدوار. فهي مكان تموت فيه كلّ فكرة فريدة وتتهرّأ كل عاطفة نبيلة. إذ في المدن لا يسمح إلاّ للعواطف الجافّة بأن تعلن عن نفسها وتلوح الأجساد معروضة معلّقة كأنّها خرق بالية استولى عليها البرد ومالت إلى مقاومته عن طريق الجري وراء الربح الماديّ واقتناء الملابس الفاخرة وكرع الخمور في الحانات بغزارة وعلى طول اليوم واصطياد فريسة بشريّة لتبادل تجارب الحبّ الرخيص.
إنّ المدن مقام لانتعاش الرّغبات واشتهاء المعروضات وتنوّع المغريات. وبالتالي فهي مسطّح للتمتّع بجميع المحظورات خارج دائرة الفضيلة والرذيلة. وهي صحراء مقفرة مفقَّرَة من روح التكافل والتعاون. وتعمرها ميولات نحو الانفراد والتفرّد وحبّ الذات أين تتضخّم المنفعة الشخصيّة والنزعات الأنانيّة لأنّها قاحلة عارية من قيم الودّ والتسامح ولأنّ الناس يبقون غرباء بعضهم عن بعض ومستعدّين للعدوان أكثر من استعدادهم للتضحية. فهم يخشون الآخرين وينزعون صفة الإنسانيّة عن الغرباء لا لشيء إلاّ لكونهم يجهلونهم ويرونهم للمرة الأولى ويتكلّمون لهجة غير تلك التي يتكلّمونها.
في هذه المدن لا توجد بيوت حقيقيّة ولا مآوٍ بل مجرّد ثقوب لا نحتفظ منها إلاّ برقم البناية والطابق. فهي ملاجئ مصطنعة وعلب ليليّة حيث يعيش السكان في صناديق ضيّقة مفروضة عليهم وفي حجرات وشقق مكدّسة فوق بعضها البعض. وهي مجرّد امتداد هندسيّ خال من أيّ نبضة حياة. فهذه الحجرات تتكوّن من ناطحات سحاب ليس لها جذور وتمتدّ بطريقة عموديّة هرميّة. وليس لها فضاء أفقيّ وتفتقد للخصوصيّة والتميّز. بل سرقت منها التهيئة العمرانيّة وظيفة السكنى والتعمير. وأعطتها وظيفة اللجوء والاحتماء. وبات فيها العيش جحيما لا يطاق في القر والحر على السواء.
يصف باشلار بيوت المدينة بأنّها مساكن ناقصة حلميّا بقوله: "في باريس لا توجد بيوت والسكان يعيشون في صناديق مفروضة عليهم... بيوت ليس لها جذور وناطحات السحاب التي لا تمتلك أقبية أمر لا يستطيع تصوّره الحالم بالبيوت. من الشارع وحتى السقف تتكدّس الحجرات واحدة فوق الأخرى بينما خيمة السماء التي لا أفق لها تحتوي المدينة بكاملها. إنّ علوّ مباني المدينة هو منظر خارجيّ فقط. فالمصاعد تلغي بطولة صعود السّلالم فلم يعد هناك معنى للعيش عاليا قرب السماء."3
مساكن المدينة تقطع العلاقة الطبيعيّة بين الإنسان والعالم. ولا تعيد تأصيلها بطريقة أخرى بل تجعلها فارغة من كلّ معنى. فهي علاقة اصطناعيّة مفبركة وليست علاقة مباشرة ومتصالبة. إنّها مبرمجة بطريقة آليّة. ويؤسّسها الفراغ. ولم يخترها العقل. وتصمّم عليها الإرادة. ولم ينتقيها الذوق. ويميل إليها الوجدان. بل وجدت جاهزة. ووقع تشييدها وفق معايير الحدّ الأقصى من الرّبح بالنّسبة إلى الباعث العقاريّ. ولم يراع فيها مقوّمات الصحّة وشروط الحياة. ولم تحترم البيئة. ولم يشترط، قبل بنائها، التمتّع بالهواء النقيّ والإضاءة الكافية عن طريق أشعّة الشمس.
هنا، في المدن يجهل الناس أبعادا الكونيّة واللانهائيّ والمطلق والكامل والانفتاح. ويفقدون، يوما بعد يوم، الإحساس بجغرافيّة المساحات وبجماليّات المكان. ولا يعرفون سوى الخاص والجزء والنهائيّ والناقص والنسبيّ لأنّ كلّ شيء عندهم ضيّق ومختزل وصغير وحادّ ومغلق. والغريب أنّ الناس، في بيوتهم المدينيّة، يخافون من الشتاء والصيف. ويرتابون من عدوانيّة الأعاصير وموجات الحرّ. ويبالغون في الخشية من قدراتها التدميريّة، إذ لا تكفي المدفآت العصريّة ووسائل التكييف الآليّة لتجعلهم يقاومون البرد في الشتاء والحرّ في الصيف. وذلك نتيجة إحساسهم بالضجر والعادة والملل ونظرا لتحرّكهم في مجال ضيّق ولشعورهم بالفتور والوهن من القعود أمام مواقدهم وعلى كراسيهم المريحة.
عندما يعيش المرء في هذه الأبنية العالية والقصور الفخمة، يحسّ بالضّيق والأسر لأنّها خالية من الجلبة والصراع. بل يلازمها السكون والفقر. وهي لا تصلح لكي تكون مكانا للرّاحة والهدوء والدفء الأصليّ. إنّها تثير الضحك والسخرية بفعل وطأة الصمت الذي يخيّم على أجوائها وبفعل طرافة هندستها العمرانيّة الغريبة عن تقاليد فنّ التعمير عند الساكن الأصليّ وبفعل خلوّها من القيمة الأصليّة للوجود: ألا وهو الإنسان. فكيف نفسّر الغياب المفاجئ للكائن الحيّ الوحيد المتعدّد الأبعاد عن هذه القبور والأقبية؟
2- في الهُنَاك:
" السبب الرئيسيّ الذي جعلني أبني قصرا هو كي أرى الكوخ على حقيقته"
توجد في البيت الريفيّ البسيط أريحيّة لا توصف وحميميّة بين ساكنيه كبيرة. فالحياة الإنسانيّة تبدأ بداية جيّدة محميّة دافئة في صدر البيت الذي يحمل ساكنه الطفولة بين ذراعيه. هذا البيت المتواضع ليس مجرّد كيان ماديّ جامد له شكل هندسيّ فارغ. بل هو صورة حيّة للملجإ المطلق والجذر الأصليّ لوظيفة الحماية ومكان تجلّي فعل السكنى.إنّه ليس مكانا للعزلة المكثّفة والتعبّد والنسك. بل هو فرصة للانخراط في الحياة الاجتماعيّة المشاركة فيها والتمتّع بها في أرقى مضامينها ولتقاسم المنافع بشكل عادل مع الآخر.
البيت، هناك، نافذة لتأمّل الكون ولرؤية العالم. وهو كذلك عين مفتوحة على الجميع تتفرّج على كلّ كبيرة وصغيرة. وترصد الشاردة والواردة. إنّه كائن حيّ وموجود يقظ يقاتل باحتراف أثناء موجات الحرّ ويقاوم بمهارة عواصف الشتاء. ولا يترنّح تحت المطر والمياه الجارفة. فهو منذ تشييده يمثّل قلعة حصينة ترفض التراخي والتداعي. وتقدُّمه في الزمان لم يزده إلاّ ثباتا ورسوخا في الأرض. لذلك تغنّى الشعراء بهذا النمط من البيوت. واستلهم الفلاسفة والعلماء نظريّاتهم من ذكريات الطفولة فيه. وقد ذكر لنا غاستون باشلار واحدة من القصائد العجيبة عبر نبرة فينومينولوجيّة رائعة بقوله:" هل يعجز أيّ قارئ على أن يستوعب شمول قصيدة كهذه:
بيت يقف في قلبي
كنيسة صمتي
أستعيده كلّ صباح خلال الحلم
وأهجره كلّ مساء
بيت يجلّله الفجر
مشرّع لرياح شبابي
هذا البيت يبدو وكأنّ له نوعين من الكيان الهوائيّ. هو كيان يتحرّك على أنفاس الزمن. إنّه فعلا مفتوح لرياح زمان آخر وكأنّه قادر على أن يرسل تحيّته لنا كلّ يوم من أيّام حياتنا ليمنحنا الثقة في الحياة."4
جميعنا نتعلّم من جدران بيوت الطفولة. جميعنا تدرّبنا الكتابة عليها. وخربشاتنا الأولى فوقها شاهدة على ذلك. جميعنا أتقنّا فنّ القراءة للرّسوم المتشكّلة بشكل طبيعيّ في السقف والحيطان والواجهات. لقد تعلّمنا من البيوت فضائل الشجاعة والسيطرة على العزلة وتجاوز الخوف. وساعدتنا هذه القلاع على بناء شخصيّة صبورة وجريئة. ألا تدعونا صورة البيت في الرّيف المعزول إلى الانخراط بعمق في الحروب المصيريّة للرّوح والمشاركة من الباب الكبير في الأحداث والتوتّرات الصاخبة للتاريخ من أجل قهر القدر، وتحدّي غضب السماء، والانتصار على قسوة الظروف، والحلم بحياة أفضل. إنّ هذا البيت العتيق هو الهناءة الأولى لوجودنا والبذرة الجوهريّة لحياتنا. وهو المكان الأوّل الذي انتشرت فيه شخصيّتنا وتكوّنت. بل هو المكان الذي أطلقنا فيه ملكة خيالنا خارج حدود المكان والزمان وخارج دائرة مقولات المنطق ومبادئ الأخلاق. وهو الموضع الذي انتبهت فيه ذاكرتنا وشرعت في التخزين للأحداث التي نتعرّض إليها والأشخاص الذين نقابلهم. إنّ ذكريات الطفولة محفورة في البيت العتيق. وعاداتنا وطريقة تعاملنا مع ذواتنا ومع الآخرين وردود أفعالنا تحدّدت في ذلك الفناء المقدّس. كما أنّ بصمات أفعالنا وصدى أصواتنا وآثار أفكارنا مازلت عالقة بجدرانه ونوافذه وأبوابه وساحاته. ألم ترتبط أجسادنا ارتباطا وثيقا بذلك البيت بحيث إنّ انفعالاتنا وأهوائنا وتحرّكاتنا الحاضرة ماهي إلاّ معاودة لتلك الأهواء والانفعالات والتحرّكات التي كنّا نقوم بها في ذلك البيت ذات يوم من تلك الأيّام. يقول غاستون باشلار بهذا الصدد: "النار المحبوسة في المدفأة كانت بالنسبة إلى الإنسان أوّل موضوعات حلم اليقظة ورمزا للرّاحة، أي كانت دعوة إلى الرّاحة"5 . هذا البيت العزيز على القلوب يجعلنا نعيش المعنى السرمديّ ونفتخر بوجود رائحة الحقيقة الخالدة طالما أنّه الصَّدَفة الأولى والموقع الوحيد الذي يحسّ فيه الإنسان بالكرامة وبالثقل الوجوديّ. ويعترف له بالأهميّة تجاه ذاته. وطالما أنّه أيضا يتمتّع بقدرة جذب إلى الدّاخل عجيبة ومدهشة، فهو المجال الوحيد الذي لا يحسّ فه ساكنوه بالملل والضجر والقلق والتلاشي، لأنّه الموطن الوحيد الذي لا ننفر منه. ويعطينا التماسك والتوازن. ويجعلنا نعيش في ديمومة واستمراريّة مع أنفسها، وربّما لكونه مكان لهونا ومرحنا وحزننا وغضبنا والساحة التي انغرس فيها لاشعورنا الذي يحمل طفولتنا وشبابنا بين أذرعه. يقول باشلار حول هذا المعنى: "يخلق الكوجيتو الحالم كونه الخاص به كونه كلّه له وإنّ حلمه سينزع وسيضطرب إن تيقّن بأنّ حلم الآخر يكون عالما أمام العالم الخاص به"6 على هذا النحو يمثّل البيت العتيق بذرة الحريّة الوحيدة في المجتمع. وذلك للبون الشاسع بين الساكن والجار والزّائر والعابر والغريب ولكونه المكان الوحيد الذي يتخلّص المرء فيه من تبعيّته لغيره، وينجز خلاصه واستقلاليّته الذاتيّة. فهو يدفع زائريه إلى التنفّس من جديد.إنّه يعطينا إحساسا عميقا بالرّاحة. ويمكّننا من الانخراط بصمت في التدفّق المستمرّ لشلال الحياة الأعظم.إنّه مكان خلاّق ينعش القلب، ويطرد اليأس والقنوط، ويحقّق لنا الطمأنينة الهادئة، ويثير فينا لذّة الاستمتاع بجماليّة الطبيعة، ويعيدنا إلى لحظة الانبثاق الرّائعة أين فتحنا أعيننا على الوجود للمرّة الأولى.
بيت العائلة الأوّل يختلف عن بيت الحاضر لأنّه متجذّر في الأرض وعريق في التاريخ وركائزه ضاربة في القدم. يرسل إلينا في كلّ لحظة تحيّة وسلام الأجداد والآباء. ويتيح لنا فرصة تذكّرهم ولقائهم والتخاطب مع أطيافهم في اليقظة ومع أرواحهم في المنام. كما يتمتّع بديناميكيّة داخليّة تسمح للوجود بالإقبال علينا والسكن معنا. ويتيح لنا أن ننفتح على العالم وننخرط فيه. هذا البيت لا يمنح نفسه للوصف بسهولة. فهو تكييف لما هو سريّ. ويرمز إلى الحياة الليليّة. ولا نستطيع أن نوفيه حقّ قدره مهما حكينا عنه للآخرين. ولا نستكمل وصفه. ولا ننقل بصدق حقيقته للغير لأنّنا لا نستطيع أن نعبّر عنه بموضوعيّة، إذ فيه أقمنا مملكة ذاتيّتنا المطلقة. أمّا بيت الكهولة الحالي، رغم ما توفّر فيه من ضروريّات ووسائل ترفيه وراحة، ورغم تضمّنه جميع وسائل التكييف وكلّ الآلات العجيبة التي تجعله يستقطب كلّ ضيوفه ويستحثّهم على المكوث فيه طويلا، إلاّ أنّه لا يضاهي بأيّ شكل بيت الطفولة الأوّل. والسّبب في ذلك أنّ البيت الحالي هو بيت العقل والجسد والحاضر. بينما الثاني هو بيت الذاكرة والخيال واللاوعي. وشتّان بين الثرى والثريّا، وبين الياقوت الزمرّد ومعدن الحديد. ألم يقل غاستون باشلار في كتابه جماليّات المكان: "إنّ البيوت المتعاقبة التي سكنّاها جعلت إيماءاتنا عاديّة. ولكنّنا نندهش حين نعود إلى البيت القديم بعد تجوال سنين عديدة أن نجد أدقّ الإيماءات وأقدمها تعود إلى الحياة دون أدنى تغيير. وباختصار فإنّ البيت الذي ولدنا فيه قد حفر في داخلنا المجموعة الهرميّة لكلّ وظائف السكنى."7 أليس البيت العتيق يحمينا من العدم ويشعّنا على الحياة؟ لكن من أين تأتي أهميّة إرادة الحياة بالنسبة إلى العرب اليوم؟
يقول أبو القاسم الشابي:

إنّ الحياة صراع فيها الضعيف يداس
ما فاز في ماضيها إلاّ شديد المراس
للخبّ فيها شجون فكن فتى الاحتراس

الحياة هي المبدأ الذي يزوّد الكائن مهما كان نوعه بالإحساس والحركة والنشاط. ويعرّضه للزيادة والنقصان. والنفس هي جوهر الحياة في الحكمة العتيقة لأنّ الكون بأسره مزوّد بنفس واحدة. وثمّة مشاركة بين الوجود والحياة والعقل رغم أنّ الوجود يسبق الحياة والحياة تسبق العقل. وبالتالي تكون الحياة فعلا نفسيّا يعطي للكائن قدرة على الحركة الذاتيّة. وبعبارة أخرى الحياة هي القدرة على التحرّك بالذات وفقا للطبيعة الخاصّة بالكائن الحيّ. غير أنّ بعض العلماء يميّزون بين حياة الروح وحياة الجسم، والحياة العضويّة والحياة النفسيّة. ويرون أنّ النموّ والتغذّي والتناسل هي خصائص الحياة. وأنّها حسب أرسطو "ما به الموجود يتغذّى وينمو ويضمحلّ بذاته". وفي نفس المنحى، يرى لايبنتز أنّ الحياة مبدأ الإدراك الحسيّ. وهي عند اسبينوزا "قوّة يحافظ بها الكائن على بقائه". وقد تكوّنت فكريّة ميكانيكيّة تفسّر الحياة على أنّها جملة من التفاعلات الميكانيكيّة والنفسيّة. وترى أنّ المجموع الحيّ هو حاصل الأجزاء التي يتكوّن منها. وأنّ العضو في الجسم الحيّ هو بمثابة آلة مصنوعة ممّا ليس حيّا. وأن عمليّات النموّ والتطوّر تعود بالأساس إلى الرغبة في المحافظة على البقاء. وأنّ الجهاز العضويّ يتكوّن من موادّ وقوى حيّة وليس وعاء للعمليّات الحيويّة.
غير أنّ النظرة الميكانيكيّة وقعت في الاختزاليّة والماديّة. وكان لا بدّ أن تظهر على أعقابها النظرة الغائيّة التي تفسّر الحياة بمبدإ غير ماديّ، إذ يقول كانط: "الحياة هي القدرة الباطنة على التصرّف وفقا للإرادة الحرّة". ويقول أيضا: "هي قدرة الموجود على السلوك وفقا لقوانين القدرة على التشوّق". ونفس الشيء نجده عند فيخته عندما صرّح بأنّ "الحياة الفعّالة الحرّة هي قدرة لتكوين الذات وتشكيلها تنبع دائما من ذاتها". ويصف هيجل ببراعة كبيرة ما نسمّيه الحياة بأنّها محافظة على ذاته في أجزائه. بيد أنّ البعض من الفلاسفة يسمّيهم البعض فلاسفة الحياة يعرّفونها على أنّها إرادة القوّة ومسرح صراع وصيرورة دائمة تسعى إلى العلوّ على ذاتها وتجاوز كلّ شيء يوقف تقدّمها من أجل تحقيق المزيد من الحياة. العرب اليوم لا يفقهون ما يصنعون. فهم يعيشون الحياة الثكن ويجهلون الحياة الحقيقيّة بفعل سيطرة القوى الارتكاسيّة على القوى الفاعلة وانتصار غريزة التناتوس على غريزة الإيروس وبفعل تدافعهم نحو الموت وتعلّقهم بعالم الغيب والسماء وعزوفهم عن البناء في الأرض وبغضهم لأمّهم الدنيا واستعجالهم لقدوم الآخرة. فسيطرت الغيبيّات على أيّامهم. وتقليصُ المقدّسات والمدنّسات دائرةَ حلالهم ومباحهم قاد إلى الإكثار من التحليل والتحريم وانتشار ثقافة التخويف من الموت والتحذير من عذاب القبور. وصار تقديم الجسد قربانا هو خير آية للتمسّك بالفكرة والدفاع عن الرسالة. وبالتالي أصبح العرب قوما يعشقون العدم وينقمون على الحياة ويعلّلون ذلك بفشل المشاريع وتعرّضهم لمؤامرة خارجيّة ولويلات الاستعمار وتزايد قبضة الاستبداد والأنظمة الشموليّة، ممّا ضيّق أبواب الرزق. وأغلق نوافذ الأمل فصار الانسحاب من الوجود في حالة وقوف وصمود أفضل من مواصلة الحياة في حالة ذلّ وقعود. لكن لم الخوف من الصراع والحياة تولد من عمق الموت؟ ولم الجري وراء سراب نعيم الحياة الأخرويّة وسعادة الجنّة يظفر بها من على الأرض؟ كيف يتمسّك الجمهور بالعرض الزائل ويهملون الجوهر النفيس؟ كيف ندفن أجسادنا من أجل خلاص أرواحنا؟ ألا ينبغي أن نولي وجوهنا شطر مواطن قوتنا ومسطّح محايثتنا؟
من البيّن أنّ الحياة الحقيقيّة بالنسبة إلينا نحن العرب هي تلك التي تمنحنا القدرة الذاتيّة على خلق وجود خارج ذواتنا يكون أفضل من الوجود الأوّل. وهذا البعد الخلاّق هو مبدأ إرادة الحياة الذي ينبغي أن ينتصر على إرادة العدم لأنّ الحياة في جوهرها تعني العزم على الوجود بغير تحفّظ. وتعني كذلك السعي نحو التوسّع والانتشار والتحلّي بروح البذل والخصوبة والتوجّه نحو تحقيق مقصد معيّن ورفض الهامشيّة والعرضيّة. صحيح أنّنا نتعرّض لنكبة كينونيّة كبرى، وأنّنا فقدنا البوصلة، وتهنا عن قبلتنا، ودخلنا منذ مدّة غرفة الإنعاش، وطال احتضارنا، ولكنّ الاستفاقة ممكنة والخروج من النفق المظلم فرضيّة جائزة والعثور على النقطة الأرخميديسيّة أمر متيسّر شرط أن نهيّئ أنفسنا لذلك ونتسلّح بالأمل والتفاؤل ونعوّل على خيارات طويلة الأمد ونرسم استراتيجيّات فاعلة وألاّ نخبط خبط عشواء، بل نوحّد بنية فعلنا وقولنا وتفكيرنا في مقام وجوديّ متوازن.
أليست حكمة الفلسفة أنّها لا تعلّمنا فقط كيف نفكّر، بل تعلّمنا أيضا كيف نحيا. ألم يقل لنا أبو القاسم الشابي رسول إرادة الحياة:
و للشعوب حياة حينا وحينا فناء
واليأس موت ولكن موت يثير الشقاء
والجد للشعب روح توحي إليه الهناء
فإن تولّت تصدّت حياته للبلاء
العرب اليوم ليس مفروضا عليهم أن يكونوا ميكانيكيّين أو غائيّين. وليس مطلوبا منهم أن يكونوا من المدرسة الحيويّة في البيولوجيا ولا من فلاسفة الحياة. بل كلّ ما هو منشود منهم أن يفعلوه هو أن يقبلوا على الحياة وأن يتوقّفوا عن عشق ثقافة الموت لأنّ حبّ الخراب لن يجلب سوى الخراب، وإرادة المقاومة والانتصار لن تجلب سوى الفوز والانتصار. أليست الحياة هي مجموعة الوظائف المقاومة للموت بالنسبة إلى الفرد والاندثار بالنسبة إلى الشعب؛ فليستغلّ كلّ عربيّ كلّ يوم في الحياة ليعيشه من أجل الاستثبات وصنع المزيد من الحياة ،عوض الانسياق وراء الهدم والتخريب.
لكن، إذا كانت الحياة بائسة فإنّه يصعب تحمّلها. وإذا كانت سعيدة فإنّه يصعب فراقها. ولذلك يجد العرب أنفسهم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إذا أرادوا أن ينهضوا فلا بدّ أن تكون حياتهم مليئة بالعذاب، وإذا أرادوا أن تكون حياتهم خالية من العذاب فإنّهم لن يتطوّروا لأنّ غاية الحياة ليس التطوّر بل الرقيّ بالحياة. وفي هذا يقول ديكارت: "لا يزيد الفرق بين إنسان حيّ وإنسان ميّت على الفرق بين ساعة معبّأة وساعة نفذت عبوّتها". فمتى يسارع العرب إلى تعبئة ساعاتهم حتى يعود إليها نبض الحياة؟
خاتمة:
خلاصة الأمر أنّ البيت العتيق أكثر من ذكرى لماضٍ طفوليٍّ أو عودة إلى كيان هندسيّ معماريّ كنّا قد مكثنا فيه ردهة من الزمن. بل هو حالة نفسيّة وعالم مليء بالدفء والسكينة يشير إلى الجمال والطهارة من خلال بساطة أشيائه وتلقائيّة عتبته وإحالتها المباشرة على الدّاخل والخارج معا. فإذا كانت الميتافيزيقا تبدأ بمعرفة الكون قبل اكتشاف البيت الذاتيّ وتعرّف المدى البعيد قبل إدراك أفق الذات في حجرتها الأولى، فإنّ الفكر الحاذق يبدأ من معرفة الأنا داخل بيتها العتيق ويلامس نقطة انبجاسها للوجود. ومن ثمّة ينطلق لاكتشاف بقيّة أنحاء العالم مع درايته أنّ موقفه من العالم يتأثّر بموقفه من بيته العتيق. أليس الإنسان هو المكان الذي يكون فيه؟ ألا يؤثّر بيت الطفولة في علاقة الإنسان بالآخر؟ ماهو البيت المثاليّ الذي يحلم به الإنسان؟ هل هو استعادة لبيت الطفولة أم هو ذلك البيت الفسيح الذي يبنيه داخل نفسه؟ هل يشبه البيت المجهول الذي وصفه الشاعر كما يلي:
" ألغينا التناسق لنقدّمه علفا للرياح
أحبّ أن يكون بيتي شبيها بريح البحر تترجرج بالنوارس"8 ؟
ما رأيكم في هذه الصورة لبيت مجهول آخر:
بيت أنادي فيه وحيدا
اسما يعيده إليَّ الصمتُ والجدرانُ
بيت غريب متضمّن في صوتي
تسكنه الرياح
بيت أبتكره أنا وترسم يداي غيمة؟"9
إذا كان باشلار صادقا في قوله: كم سيتعلّم الفلاسفة لو وافقوا على قراءة الشعراء؟ فلنكن نحن صدّيقين مثله ونصدع بالحقيقة أمام الملإ: كم سيتعلم الشعراء لو وافقوا على قراءة الفلاسفة؟

الاحالات والهوامش:

[1] غاستون باشلار: جماليّات المكان، ترجمة: غالب هلسا، كتاب الأقلام، دار الحريّة للطباعة، بغداد، 1980، ص 83.
[2] غاستون باشلار: جماليّات المكان، ص64.
[3] غاستون باشلار: جماليّات المكان، ص 63.
[4] غاستون باشلار: جماليّات المكان، ص 87.
[5] غاستون باشلار: التحليل النفسي للنار، ترجمة: زينب الخضيري، دار شرقيّات القاهرة، 2003، ص 29.
[6] غاستون باشلار: لهب شمعة، ترجمة: مي عبد الكريم محمود، دار أزمنة، عمّان، الأردن، 2005، ص 106.
[7] غاستون باشلار: جماليّات المكان،ص 52.
[8] غاستون باشلار: جماليّات المكان، ص85.
[9] غاستون باشلار: جماليّات المكان، ص93.

كاتب فلسفي



#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة آلان باديو للوضع الوبائي الراهن
- أحاديث موريس مرلوبونتي وتجربة الحوار
- حوار مع رجيس دوبراي حول أزمة الكورونا
- مقابلة مع جان بول سارتر حول الأدب والفلسفة
- ساعة من اللقاء بين مارتن هيدجر وتيزوكا طوميو
- المثقفون والسلطة، مقابلة ميشيل فوكو مع جيل دولوز
- الحوار الهرمينوطيقي بين الأزمة البيشخصية والكتابة
- التعويل على التجربة في فيزياء آينشتاين
- مشكلة التجربة الفلسفية عند فرديناند أليكييه
- تطور الطب التجريبي عن طريق كلود برنار
- المعالجة النقدية للتجربة من طرف كانط
- تجريبية ديفيد هيوم بين الريبية والذاتية
- النزعة اللامادية ونقد الأفكار المجردة عند جورج بركلي
- درجات المعرفة والنزعة الاسمية عند جون لوك
- العقلنية العلمية بين التساوق الذاتي والمعايير الموضوعية
- منطق الحواس والعقل الحسابي عند توماس هوبز
- الحدث التاريخي بين القصص الأدبي والسرد الفلسفي
- سطوة الاستعارة الحية بعد المنعطف اللغوي ومولد الابتكار الدلا ...
- اسكاتولوجيا الأمل بين ميتافيزيقا الشهادة وأنطولوجيا الإقرار
- الخطاب الفلسفي عن الفعل بين فنومينولوجيا الكلام والتصور التح ...


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير الخويلدي - جماليّات البيت العتيق