عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1598 - 2006 / 7 / 1 - 11:06
المحور:
ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع
منذ بدء الخليقة والإنسان يكتشف , ويعمل من أجل أن يجد من عوامل الطبيعة لكي يخدم إنسانيته , فسخّر قدراته من أجل الوصول إلى ذلك , ومرّ بالعصور المختلفة التي نعرفها جميعاً , ودائماً كان المقدس عند الإنسان هو المجهول , وكلما كان المجهول أكثر بعداً عن النفس البشرية , يكون أكثر رهبة , ولكن المسألة الآن بدأت بالخوف من المعلوم عند بعض الشرائح الإنسانية , يا ترى هل الخوف من المعلوم أصبح واقعاً , وبالتالي استحضر هذا الإنسان , كل الماضي , ليصبه في لحظة الحاضر المعلوم ليخشاه أم أن ّ المسألة أبعد من ذلك بكثير , أي استحضار كل ما هو مقدس , أو متخيل أنه مقدس, لإحضاره في لحظة المواجهة , ومن هنا تكمن إشكالية خوف هذا الإنسان العادي , والمعقد في الحالة النكوصية , أقصد أن الإرث المتراكم والمليء بالخوف , ومن ثم العقاب والثواب جعل هذا الكائن أكثر ارتداداً في أغواره الداخلية , وبالتالي سيكون معادياً للقيم التي لم يتعود عليها , ولا تؤمن له ثواباً في الحياة الأخرى , فهي منافع مباشرة , وهو اعتاد على المنافع التي تعودُ بأسبابها إلى الذي يحلم , أي عالم الجنة ومغرياتها , ومن هنا نرى شعوب الشرق الإسلامي , أو المؤمنين بشكل عام , يكونون أكثر حذراً في التعامل مع العلمانية , لأنهم أصلاً حذرون وشكاكون من كل ما هو علمي , فالعادة تتطلب منهم أن يرتبط كل شيء بالمفهوم الإيماني , وخاصة عندما يكون الإيماني حالم , ويدغدغ المشاعر , ويترك النفس أكثر تخديراً , وأقرب إلى المتخيل , ومن هنا إشكالية المفهوم العلمي , بتصادمه مع المفهوم الديني , وخاصة في عالم الشرق , فأنت أحياناً يذهلك رجل علم تخصص في أرقى أشكال العلوم الحديثة , ويبدأ يوظف كل هذه المفاهيم لصالح المعتقد , وكأنه يخاف أن ينقطع الحبل بينه وبين معتقده , فهو على الرغم من أنه عرف أن هذه العلوم حقيقة مطلقة, لكنه في العقل الباطن يخشى أن هذه العلمانية المجردة تذهب بمعتقده الذي يتوازن معه نفسياً , ومن هنا ترى أن جماهير هكذا عالم هم بسطاء الناس وسذج القوم , لأنه يتوائم معهم , وهم يرون فيه المقدس البهلوان , الذي يأتي بأشياء تشبه السحر , وتعزز لهم رغباتهم العاطفية , وتخلق لهم رضاً يمثلهم تماماً , أن العلم كل العلم مسخر للإيمان , ومن هنا يخلق التوازن من جهة , والهروب نحو الماضي الذي يحتــّم الراحة النفسية من جهة أخرى , لذا فإن العلمانية, هي جوهر الفهم لأهم سببٍ يطرحُ نفسه الآن على البشرية وبإلحاح قوي , ألا وهو أن الظرف الموضوعي لنشوء الخرافة والأساطير قد انتهت, وأصبحت الآن ثمة أسطورة وحيدة على الجميع الإيمان بها لأنها حتمية موضوعية , هي العلمانية وحتى الذين يحاولون عدم الإيمان بها , تراهم من حيث يعلمون ولا يعلمون يتعاملون معها, بل هم في قلب أدواتها التي لم يعد لها محرمات سوى العلم , أي التعامل معها فالعلم فاجر لدرجة الوقاحة , وواضح لدرجة أنه أصبح حقيقة مسلم بها , أمّا الذين يتعامون عن ذلك فهم يقعون في النفاق , وسوف يكونون مجبرين إلى المجيء لبحيرة العلم ولو على استيحاء , والبعض الآخر سيكون معادياً لكل ما هو علماني أو ديمقراطي, وبالتالي يكون ليس معزولا ً فقط بل منضماً إلى الاتجاه الآخر الذي يحقد على الحضارة برمتها – يقول الدكتور طه حسين : ( فالخصومة في حقيقة الأمر ليست بين العلم والدين ولا بين الوثنية واليهودية والنصرانية والسلام , ولا هي بين دين ودين وإنما هي أعم من ذلك وأيسر , هي بين السكون والحركة , هي بين الجمود والتطور وإلا فكيف تستطيع أن تفهم أن سقراط والمسيح ومحمد عليهما السلام , اضطهدا من نوع واحد , وكيف أن تستطيع أن تفهم أن يتشابه موقف الوثنية والمسيحية واليهودية على اختلاف الأمكنة والأزمنة , وأجيال الناس , وطبائع سيادتهم ؟ كيف تستطيع أن تفهم تشابه هذه المواقف جميعاً , إذا لم تردها إلى أصل واحد , وهو الخصومة بين القديم والجديد , أو استغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد , أليس مصدر هذا في حقيقة الأمر , إنما هو استغلال السياسة لعواطف السواد ؟ بلى 0 ولولا أن السياسة تريد أن تتخذ ما تستطيع من الطرق والوسائل لتتسلط على نفوس الناس , وتتملق عواطف السواد كلما قتل الأثينيون , سقراط , ولما حاولوا اليهود صلب المسيح ولما سفك الرومان دماء اليهود والنصارى 0 ولما أخرجت قريش محمداً وأصحابه من ديارهم 0 ولما ُعذّبَ ابن رشد وغاليلي , ولما حرق من حرق وشرد من شرد من العلماء والمفكرين (000 ) وإذاً فلا بد من أمرين لتكون الخصومة بين العلم والدين أو بين الحرية عنيفة منكرة : أحدهما أن يُعنى السواد بهذه الخصوصية 0 والثاني أن تستغل السياسة ) والأمان , إن الذي يريد أن يتعامل مع المفاهيم العلمانية , وهو متسلح بعقل القرون الوسطى ومفاهيمها , ويحارب البشرية بسيف جده , أو بما أنجزه أجداده من تاريخ عظيم وما شابه ذلك من الخزعبلات فهو سيكون حتماً معادياً ليس فقط لما أنجزته البشرية من حضارة حديثة بل أيضاً , يعادي أسباب العيش المتمدن , فكل ما أوغل الإنسان قديماً في المفاهيم البدائية , يكون سلاحه الأوحد هو الجهل والتخلف , والنمط البدائي من التفكير , وإن الإيمان بالمعارف والقيم الحديثة , واتخاذ النمط العلمي للتفكير , هي أمور لا يستطيع المرء الوصول إليها بنصيحة أو برغبة , أو بالترجي , بل تحتاج إلى قدرة كبيرة في السير إلى الأمام , وعدم الالتفاف إلى الخلف , واجتياز النفق المظلم المليء بالألام , لأن قدرة التجاوز والتضحية والصبر والإصرار على التجاوز هي الأسلوب الوحيد , الذي ُينَجِّي الفئة المتخلفة , من التمسك بالعلم , متحلية بالرغبة وحب المعرفة , وإن الخلاص من المفاهيم المؤمن بها , عندما تكون هذه المفاهيم , متعارضة مع الحياة ومنطق التطور , هو شجاعة بحد ذاته , وقدرة كبيرة على الصدق مع الذات , فالمرء أو الشعوب الأكثر صدقاً مع ذاتها , هي الأكثر قرباً للمعرفة وللموضوعية وبالتالي إلى التجاوز , أما أن يستمر المرء مدعياً الحضارة وهو مأخوذ بالسحر السلفي , وُمَبارِك لكل ما هو مخِّدر , َوُمْطَمئِّنٌ لنفسه وعليها, من أن لا تقوده أو تقاد إلى الطرف الآخر , أي طرف العلمانية , فأنه حتماً وضع نفسه في المكان الذي لا يحسد عليه ولا ينافسه عليه أحد , فالدين والعلمانية هما على حدي نقيض , ولا يمكن التعايش بينهما , إلا في حالة يتحول الدين إلى دين عبادة , ويُجَرّدُ من أي مفهوم سياسي , ويكون ديناً خالصاً لوجه الله , وإلا سيكون ديناً يهدف إلى إلغاء بقية الأديان ومن هنا تكمن المأساة في الإلغاء , ويصبح الصراع هو صراع دين مع دين , ولحساسية هذه المسألة تكون الصراعات أكثر عنفاً وهمجية , ويتحول الدين من دين محبة وتسامح وعبادة إلى نهج يجب أن يطبق على الجميع ولو بالقوة , وبالتالي يكون معادياً للآخر الذي يختلف معه في الدين , بل أيضاً تتجذر المفاهيم الدينية المتناقضة وتصبح قانوناً مطلقاً للجميع , أي كل طرف ديني يصبح هو المرجع الوحيد , وتلغى الدساتير وأنظمة البلاد حتى لو كانت من أرقى الدساتير المدنية , وفي شعوب الشرق القائم على الاستبداد , يكون الحكم الديني مستبداً ومعاديا ً لكل تفكير علماني , ومثال ذلك نظام الأئئمة في إيران , ويصبح العلم حاجة ماسة لديهم , ليس من أجل التطور والرقي وترفيه الناس , بل من أجل القوة والسيطرة وإلغاء الآخر المعادي , فالعلم حاجة ماسة للأنظمة الديكتاتورية والطغيان , من أجل مزيد ٍ من الاضطهاد ومزيد من الجبروت والتسلط , وفرض القوة والهيمنة على الطرف المعادي , أو التي تناقضت مصالحه مع هيمنة الدولة , وخاصة عندما تكون الدولة ذات نمط شمولي في الحكم , في هذه الحالة سيكون الدين سلاح قوي بيد النظام , وبالتالي يصبح التدين شكل أساسي من أشكال الحكم , أي يصبح التدين عاملاً مؤسساً لاستمرار الدولة في الحكم , وتشجيعه قضية أساسية , إذ تشجيعه يعني إرضاءاً للناس البسطاء , وفي الوقت نفسه يتحول هؤلاء الناس مكون أساسي من مكونات الدولة , لأن هذا النمط من الحكم لا يهمه سوى الاستمرار في السلطة , وتشجيع رجال الدين , ومن ثم إعطاءهم نفوذ يعني جعلهم محرك أساسي من أجل استمرار الحكم , وتميل الدولة إلى بسطاء الناس , بدلاً من الاستفادة من العلم والعلماء فغالبية البلدان العربية والإسلامية دستور بلادها ينص على أن الإسلام هو دين الدولة , وبذلك تكون هذه الدولة التي دساتير بلادها جَعَل الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع , قد خالفت بحكم الدستور الذي سنته كل ما هو معارض أو متناقض , وحتى مختلف مع الإسلام , فيصبح الإسلام أداة حكم وتنتفي عنه صفة التدين المحض , وتصبح العلمانية كمنهج حياة , تحتاج إلى قيصرية مؤلمة وربما يستمر نزفها لزمن طويل , فشعوب الشرق الإسلامي والعربي منها بشكل خاص , بعيدة عن المفاهيم العلمانية , والمفاهيم عند الناس هي مفاهيم فضفاضة , وغالباً ما تكون نظرية , لأن الشعوب في هذه المنطقة لا تؤمن بالعلمانية , ولا تتجه لذلك , لايمكن تحقيق مجتمع مدني علماني وديمقراطي في ظل مثل هكذا دول , ليس لاستبداد الدولة , وحالة القهر التي تمارسها ضد مواطنيها , بل لأن الدين مصدر أساسي وحقيقي لإعاقة هكذا نظام , والإسلام بجوهره , كدين دين ودنيا , يتعارض مع مفهوم العلمانية بمفهومها الحديث , وكذلك مع الليبرالية والديمقراطية , عدا عن أن الشعوب مغلوب على أمرها وهي تعيش حالة من الخنوع يصل لدرجة الذل في أغلب بلدانها , وهم حولوا الدين كسلاح يشهرونه بوجه كل من يطرح المفاهيم الديمقراطية , وأيضاً استمدوا المفهوم الوطني , والمفهوم القومي , كمفاهيم مقدسة شعاراتية, وهي سلاح آخر يشبه الدين , في الوقوف بوجه المفاهيم العلمانية , فالعلمانية في بعض الفئات الشعبية تعني كافر – زنديق – ملحد – أو ُمخَوّن , وبذلك يستطيعون عزل المثقف العلماني , ويستقدمون الجاهل المتدين , لذا فهم يحتاجون إلى الرموز الدينية لإكمال المسرحية , وبما أن العلمانية لا تتناقض مع الدين بوصفه عبادة , لذا يجعلونها تتناقض معه بوصفه سياسة , ويطرحون شعاراً يدعي أن الإسلام هو الحل , وبذلك يكونون قد جعلوا الإسلام مصدر أساسي للخلاف والتناقض , وبدلاً من طرح شعار العلمانية هي الحل , والأديان أديان عبادة , لها كل الاحترام , واللذين يمارسون شعائرهم الدينية , في الأديان المختلفة أخوة متحابون , تراهم ينحدرون إلى مستوى ليس الدين فقط في إلغاء الآخر , بل جعل الطوائف والمذاهب تلغي بعضها بعضاً , فأنا أتصور أن العلمانية والديمقراطية في العالم العربي لايمكن أن تتحقق في الوقت الراهن , ومثال ذلك كل هذه البلدان في العالم العربي لم تستطع أن تحقق ولو نموذجاً واحداً يخدم هذا المثال , وكأنها بلدان مزروعة للتطرف والاستبداد , بل هي أهم مصادر التطرف والاستبداد في العالم الآن , ولا أتصور أن هناك جدية حقيقية عند الدول المتقدمة , لمساعدتها على التخلص من إرثها المستبد بشكل حقيقي , أما الترقيع في هذه المسألة , لا يزيد شعوب المنطقة إلا معاناة فوق معاناتها وتطويل أمد الظلام المخيم , وإن أكثر المناطق تطوراً في هذه البلدان هي ليست إلا محطات استراحة للترفيه , أو فنادق للنزلاء من معاناة السفر , لأن البنية الاقتصادية في هذه البلدان , ليست أكثر من بنى خدمية وبذلك تكون الحضارة لا تأخذ إلا أبأس أشكالها في بلداننا , كمساحيق تجميل لا أكثر , ومن المعلوم أن الذي يعادي العلمانية , هو كمن يحاول حجب الشمس بالغربال , لأن العلمانية هي جذر الحضارة , وهي المحرك الأساسي الذي تقوم عليه , لأن البشرية أتخمت بالخرافات عبر الأزمان المنصرمة , فالمجتمعات المدنية لايمكن أن تقوم إلا على أساس التفكير العلمي , واستخدام العلوم من أجل خدمة المجتمعات , ثم أن المجتمعات أي كان أسلوب عيشها لا تستطيع أن تتطور وتحقق حياة كريمة إلا بالمنهج العلمي للحياة , فالدولة العلمانية لا تحترم الإنسان عن طريق مناهجها فقط , بل تسمح بوجود منظمات مدنية تدافع عن الناس وتكفل لهم حقوقهم وكراماتهم , وتكون الديمقراطية في تداول السلطة من أهم هذه المسائل , وتسمح بحرية التعبير , ويكون مكفول بقوانينها احترام الرأي والرأي الآخر , وضمان الحرية الشخصية , وحرية العقائد وممارستها , وإلغاء أي شكل من أشكال الظلم أو التمييز العرقي أو الديني , وبذلك تكون الحياة في الدول ذات النهج العلماني الديمقراطي قد احترمت حقوق الناس وكراماتهم 0ويكون الدين مسألة شخصية إيمانية محترمة ومكفولة في دستور الدولة 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟