مريم الحسن
الحوار المتمدن-العدد: 6571 - 2020 / 5 / 22 - 22:42
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تمهيد
ما هو الاستشراق؟
عرف العالم الغربي, في القرن الثامن عشر, ظاهرة ثقافية و فكرية جديدة, تجلت اهتماماً فريداً بعالم الشرق و أحواله, وصل حد الهوس عند بعض مثقفيه من رسّامين و باحثين و مفكرين, وتجلّى ميلاً متطرفاً لتصوير الشرق و مجتمعاته وفق تخيلاتهم و أحكامهم المسبقة, و بأساليب فنية و معايير بحثية نافت في مضامينها واقع الشرق و حقيقته, و بشكل مبالغ فيه , بلغ حد محاولات إعادة رسم الهوية بطريقة مشوهة لا تمثلها , و وفق ثقافة تتلاقى في محتواها مع محتوى المخيال الغربي عن الشرق أكثر منه مع واقع هذا الشرق و ثقافته.
هذه الظاهرة, أطلق عليها الدارسون فيما بعد, بعقود لاحقة, مصطلح الاستشراق. و كان من أبرز تجلياتها لوحاتٍ فنية و أعمال أدبية عكست تصوّر المثقف الغربي المغلوط عن الشرق, من حيث هو مجتمع, غارقٌ في العواطف و الانفعالات, فظهر من خلال أعمالهم نموذجاً لا عقلاني, و نقيضاً لآخر غربي أظهروه متسماً بالعقلانية و بالانضباط. هذا التصوّر المغلوط, ساهم في تنميته, إلى جانب عوامل ثقافية أخرى عديدة , كتاب ألف ليلة و ليلة الذي روّج من خلال قصصه لصورة عجائبية عن الشرق و عن ساكنيه, لا سيما عن المرأة و عن علاقة الرجل بها, وعن مكانتها في مجتمعها و أمكنة تواجدها فيه . لا سيما ذلك المكان المحرّم المسمى "حرملك" الذي خصّص لها و لحاشيتها من باقي الحريم, و حُرّم على كلّ من كان من غير أهلها .
قدسية العادات الشرقية, و اختلافها عن عادات المجتمع الغربي, و طبيعة العلاقة بين المرأة و الرجل الشرقيّيَن, و حكايات ألف ليلة و ليلة الخرافية , بالإضافة إلى غموض و أسرار الفضاء المرأة المحرم (الحرملك), كلها عوامل ثقافية أدارت مفتاح الخيال الخصب في باب الفضول الغربي, فأجّجت رغبات مثقفيه, و ألهمت تصوّراتهم الفنية, مطلقة بذلك العنان لأفكارهم الخاصة و لتوهماتهم ليُسقطوها على عادات المجتمع الشرقي و على نسائه في لوحات قاربت في مضامينها عالم الخيال أكثر ما قاربت واقع الشرق الحقيقي.
هذه الإسقاطات اكثر ما تجلّت في لوحاتٍ فنية رومنسية صوّرت المجتمع الشرقي كسلسلة من فنتازيا عاطفية و خيالية متواصلة, أبرز أبطالها رجال قساة الملامح و انفعاليين, و نساء جميلات عاريات يظهرن في خلفيات فنية مختلفة, توزّعت عناصرها المكانية والزمانية ما بين الحرملك و الحمّامات, و جلسات البخور والتدليك, و أماكن أخرى أظهرت المرأة كجارية دورها إشباع الرغبات أكثر منها ربة أسرة أو عاملة أو سيدة مثقفة تحاور و تناقش أو تقرأ و تكتب.
نقد الاستشراق
ظاهرة الاستشراق هذه, التي عرفت أوج تجليها الفنّي و الفكري في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر, و استمرت بعدهما شبه حاضرة حتى أوئل منتصف القرن العشرين , لفتت عناية النقّاد و الدارسين ممن اهتموا بها, لدراستها و تحليلها من جوانبها الفنية و الأدبية أو لتوصيفها تاريخياً. و ذلك من باب استمرارِ الخط المعرفي الذي بدأه رواد مدرسة الدراسات الشرقية القديمة, أو استكمالاً لنشاط المستشرقين الأوائل, الذين نسجوا خيوط التواصل الثقافي الأولى مع شعوب البلدان غير الأوروبية , لا سيما بعد تطور العلوم الإنسانية ,كالأنثروبولوجيا و فقه اللغة و علم النفس و علم الاجتماع, وحرص دارسي هذه العلوم على استمرار هذا التواصل الثقافي أكثر من ذي قبل.
غير أن المفاهيم المغلوطة التي تضمّنها و روّج لها الاستشراق, و التصوّر الغربي اللا موضوعي و المشوّه عن الشرق, وضع محتواه المعرفي و التاريخي موضع الشك العلمي و الشك السياسي أيضاً , لا سيما بعد التغييرات السياسية الفاصلة التي أوجدتها تداعيات الحرب العالمية الثانية, و ما تبعها لاحقاً من تطورات, أدت إلى انتعاش الحس القومي, و نهوض النزعة التحررية عند مثقفي الشرق, الذين استفزتهم مغالطات الاستشراق الكثيرة, فعكفوا على دراسته من جديد, لكن من منظار نقدي شامل, ففنّدوه و فصّلوا خباياه, و سلّطوا الضوء عليه سياسياً, من حيث هو أداة استعمارية نافذة بيد الغرب الإمبريالي, يقتضي العمل النهضوي نقدها لمواجهتها بخطوة مضادة تبدت من وقتها لازمة و ضرورية في سيرورة النهوض المشرقي.
من بين هؤلاء المثقفين النهضويين الذين أعادوا قراءة الاستشراق بعين ناقدة , برز الناقد الأدبي و المفكر الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد (1935 – 2003), الذي خص الاستشراق بعدة كتب و مقالات بحثية و نقدية, تناول فيها محتواه بشكل مفصّل, فحلل ما فيه من مظاهر جليّة و فنّد أبعادها السياسية, ليصل عبر هذا العمل إلى استنتاج سياسي مفاده أن الاستشراق ما هو إلا نزعة استعلائية غربية, مبطنة بلبوس فني, و رغبة سياسية مستترة في إعادة تشكيل هوية الشرق وفق منظور الغرب الاستعماري, من حيث هو (أي الشرق) عالم ضعيف و متخلّف و قابل للاستملاك, و لإحكام السيطرة عليه من قِبل الثقافة الأقوى.
بدأ سعيد عمله على نقد الاستشراق انطلاقاً من قراءةٍ نقدية أولية لأعمال المستشرقين الفنية و الأدبية, و من ثم أتبعها, بعد هزيمة عام67 , بدراسةٍ نقدية, منهجية و علمية, فصّلها على مقاس منطق القارئ الغربي. لكن أيضاً, خاضها بوعي كاتب عربي غاضب, أتعبه ضياع الوطن و اللجوء, و أثكلته كثرة هزائم الوطن العربي و انتكاساته و تأخر نهوض إنسانه. لذا, بدا جلياً أن سعيد قد رمى , مند بداية عمله على نقد الاستشراق إلى هدفين اثنين : أولهما, محاولة تفنيد مزاعم الاستشراق ومفاهيمه المغلوطة, عبر غربلتها بعين النقد الموضوعية و العلمية, و من باب مخاطبة الخصم بلغته و بمنطقه. و ثانيهما, تقويض الخطاب الاستشراقي المغالط للحقائق عبر الهجوم عليه بخطاب نقدي مشرقي مُقابل, لكن علمي أيضاً, و بطريقةٍ يُعيد بها قراءة , لا الهوية الاستشراقية فحسب , بل كامل الهوية الغربية و ثقافتها , و بالأخص ذلك الجانب الاستعلائي و الاستعماري منها, الذي منه خرج خطاب الاستشراقي .
هذه الدراسة المعمقة للاستشراق التي بدأها , بعد هزيمة عام1967, بدراسات و محاضرات أكاديمية نُشرت كمقالات نقدية, توّجها إدوارد سعيد أخيراً بثلاثة كتب1 نشرت على مراحل بدءً من العام 1978, و فيها تناول مسألة الاستشراق بشكل مفصّل, لا سيما في كتابه المثير للجدل " الاستشراق", الذي فيه سلّط الضوء, و بقوة الحجّة المنهجية, على ظاهرة الاستشراق من حيث هي , ليست فقط ظاهرة فكرية و حسب, بل أيضاً منظومة ثقافية و علماً متكامل الأبعاد, لكن غير مستقل و لا موضوعي, ,و لصيقاً للغاية بهويته الثقافية, و أبعدُ ما يكون استقلالاً من حيث المنهجية العلمية عن مآرب السياسة وأهدافها.
و بهذا يكون سعيد قد كشف, عبر كتبه التي تناولت الاستشراق, وجه هذا الاستشراق الحقيقي, فأماط اللثام عنه ليتبيّن أنه ليس سوى أداةٍ استعمارية موغلة في قدم أطماعها. و عرّاه, فظهر كإنتاجٍ فكريٍ غربي, نرجسي الوعي و الهوية, جلّ هدفه كان السيطرة على الوعي الثقافي المقابل له جغرافياً, , للتأثير عليه سلباً, و بطريقة غير مباشرة, حتى يتأخّر نهوضه و يتقوّض تقدمه , فيتم للغرب إحكام السيطرة عليه, وفق مبدأ من يمتلك المعرفة يمتلك أيضاً القوة المصاحبة لها. و في هذا يقول سعيد :
« إن الشرق الذي يظهر في الاستشراق هو نظام من الصور التي تمثله, و التي صاغتها مجموعات كبيرة من القوى التي أدخلت الشرق في مجال العلوم الغربية, و الوعي الغربي, و بعد ذلك بفترة في إطار الإمبراطورية الغربية. و إذا كان هذا التعريف للاستشراق يتسم بملامح سياسية , فالسبب هو أنني أعتقد أن الاستشراق نفسه كان من ثمار بعض القوى و الأنشطة السياسية (…) و هكذا فليس الشرق و حسب, مذهباً إيجابياً بشأن الشرق يمكننا رصد وجوده في الغرب في وقت محدد دون غيره, ولكنه كذلك تقاليد أكاديمية ذات نفوذ, و هو أيضاً مجال اهتمام يحدّده الرحالة, و الشركات التجارية, و الحكومات, و الحملات العسكرية, (…) زد على ذلك أن المسافرين الشرقيين إلى الغرب كانوا يقصدون التعلم من ثقافة متقدمة (…) أما أغراض المسافرين الغربيين إلى الشرق فكانت من نوع بالغ الاختلاف. و بالإضافة إلى ذلك, تشير التقديرات إلى أن عدد الكتب التي كُتبت في الشرق الأدنى كان يبلغ 60000 كتاب ما بين عامَي 1800 و 1950 , و عدد الكتب التي كتبها الشرقيون عن الغرب لا يقارن على الإطلاق بهذا الرقم. و الاستشراق باعتباره جهازاً ثقافياً ينحصر في العدوان و النشاط و إصدار الأحكام و فرض "الحقائق", و المعرفة, فقد بدا الشرق كأنه قد وُجد من أجل الغرب, أو قلّ هذا ما بدا لعدد لا يحصى من المستشرقين الذي كان موقفهم إزاء المادة التي يتناولونها إما موقفاً "أبوياً" أو موقفاً ينم عن الاستعلاء و "التفضّل" الصريح (…) و هكذا فمن الصحيح إذن أن كل أوروبي كان, فيما يستطيع أن يقوله عن الشرق, عنصرياً, و إمبريالياً, و معتنقاً للمركزية العرقية بصورة شبه كاملة »2
من هو إدوارد سعيد؟
بحسب ما يقدمه محمد عناني, مترجم كتاب الاستشراق , هو مفكر و ناقد أدبي أمريكي من أصل عربي (من أتباع الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية), وُلد في القدس عام 1935 لأب فلسطيني- أمريكي و لأم فلسطينية -لبنانية, و توفى في أمريكا عام 2003.
حياته العملية و الفكرية
التحق سعيد في مطلع حياته بالمدارس الابتدائية و الثانوية في القدس, و من بعدها انتقل إلى مصر ليتابع دراسته الجامعية في كلية فيكتوريا في الإسكندرية حيث تخصّص في الأدب الإنجليزي, و من ثم سافر إلى الولايات المتحدة كطالب، وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة برنستون عام 1957 م ثم الماجستير عام 1960 من جامعة هارفارد والدكتوراه عام1964 من الجامعة نفسها حيث فاز بجائزة أفضل ناقد أدبي. و من حينها لفت الأنظار إليه.
أول كتاب نشره كان عن الروائي جوزيف كونراد عام 1966, و هذا الكتاب يُعتبر أول خطوات سعيد نحو النجاح وبه حجز مقعده بين النقّاد الأدبيين المرموقين, إذ بسبب هذا الكتاب كسب اهتمام المجتمع الأكاديمي ,الأمريكي و الأوروبي, الذي أدرك أن ناقداً أصيلاً قد ظهر على ساحة النقد الأدبي . بعد نجاح كتابه الأول, بدأ سعيد يمارس الكتابة التي تخاطب غير الأكاديميين أيضاً, فحظيت كتاباته بالإعجاب و بدأت تفوز بالجوائز, و هو ما أكسب آراءه مصداقية و حقق لها الذيوع و أيضاً انتشار التأثير, خصوصاً بعدما عمل واعياً في مطلع السبعينيات على تدعيم ركائز مذهب " النقد الثقافي" الذي عُرِف به.
فلسفته
اهتم سعيد منذ بدايته الكتابية بالنظريات الفلسفية لا سيما الفلسفة "التكاملية" المبنية على أساس التعارض و التكامل بين "الوعي" و "الوعي الغاضب" المقابل له. و الذي فيه وعي الفرد لذاته لا يتحقق إلا من خلال تعارضه مع ذات الآخر, و لا يتخذ صورته الكاملة إلا عن طريق التكامل مع هذا الآخر ,الذي يفرض نفسه عليه, إما عن طريق احتوائه و ضمّه إلى وعيه, و إما عن طريق نبذه و معاداته حتى يصبح الاثنين قطبين متعارضين, و إن كان يكملان بعضهما البعض, كما تكتمل الدائرة الكهربائية عند اتصال القطب الموجب بالقطب السالب.
اعتقاده بمبدأ هذه الفلسفة التكاملية هو الذي أدّى إلى ترسيخ مذهبه في النقد الثقافي الذي ربط ما بين الأدب باعتباره ظاهرة إنسانية تقوم على الإبداع و التخيل و بين الواقع و التاريخ و المجتمع و الفكر الإنساني. و مذهب النقد الثقافي هو مذهب تكاملي و ديناميكي بمعنى أنه يصر على أن جميع المظاهر المختلفة المؤلِفة للمجتمع هي ظواهر غير ثابتة و أنها تتحرك و تتغير و تتأثر بمسار التاريخ و فكر الإنسان مثلما تؤثر فيهما, لذا فإن الأدب بما هو ظاهرة إنسانية يرتبط أيضاً بكل شيء عداه في حياة الإنسان المادية و النفسية و الروحية و هذا ما يجعل من موضوعيته و تجرده موضع شك المنهج العلمي, و ما قد يُعسّر الانطلاقة الموضوعية في عملية النقد الأدبي.3
الاستشراق و إدوارد سعيد
تعريفه للاستشراق
يقول إدوارد سعيد في مقدمة كتابه الاستشراق : « كان الشرق شبه اختراع أوروبي, و كان منذ الزمن الغابر مكاناً للرومانس, أي قصص الحب و المغامرات, و الكائنات الغريبة, و الذكريات و المشاهد التي لا تُنسى( …) أما الأمريكيون فقد ارتبط الشرق في أذهانهم بصورة بالغة الاختلاف, أي بصور الشرق الأقصى (خصوصاً صور الصين و اليابان), و يختلف البريطانيون و الفرنسيون عن الأمريكيين (…) في أن للبريطانيين و الفرنسيين تقاليد مديدة فيما سوف أطلق عليه تعبير الاستشراق و أعني به التفاهم مع الشرق بأسلوب قائم على المكانة الخاصة التي يشغلها هذا الشرق في الخبرة الأوروبية الغربية» .4
ثم يضيف لاحقاً, في محاولة منه لتعريف الاستشراق تعريفاً موضوعياً, فيقول : « أما أيسر التعريفات المقبولة للاستشراق فهو أنه مبحث أكاديمي, بل أن هذا المفهوم لا يزال مستخدماً في عدد من المؤسسات الأكاديمية, فالمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء لبحوث في موضوعات خاصة بالشرق, سواء كان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا أي علم الإنسان, أو علم الاجتماع, أو التاريخ, أو فقه اللغة, سواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة, و الاستشراق إذن وصف لهذا العمل» .5
منهجه في نقد الاستشراق
اتبع إدوارد سعيد خلال دراسته و تحليله لظاهرة الاستشراق منهج مذهبه في النقد الأدبي, أي مذهب " النقد الثقافي", القائم على مبدأ الفلسفة " التكاملية", و هو مذهب, كما ذكرنا سابقً,6 يعتمد في عملية فهمه و تحليله للظاهرة الأدبية على مبدأي التعارض و التكامل و مبدأ الديناميكية التفاعلية بين مجمل الظواهر الثقافية المؤلفة للمجتمع الإنساني ( المادية والفكرية و الثقافية و الاقتصادية و التاريخية). و عن هذا المنهج, و الافتراضات التي منها انطلق فيه يقول سعيد :
« الافتراضات الرئيسية التي انطلقت منها تقول إن مجالات البحث العلمي, شأنها في ذلك شأن الأعمال الفنية, حتى أشدها غرابة, تخضع لقيود و مؤثرات يفرضها المجتمع, و تفرضها التقاليد الثقافية و ظروف الحياة, كما تخضع لتأثير العوامل التي تهيئ لها الاستقرار مثل المدارس و المكتبات و الحكومات. و تقول هذه الافتراضات أيضاً إن الكتابة العلمية و الإبداعية لا تتمتع قط بالحرية, بل هي محدودة في صورها و افتراضاتها و مقاصدها, كما تقول أخيراً إن مظاهر التقدم التي تحرزها "علم" مثل الاستشراق في صورته الأكاديمية يقل صدقه الموضوعي عن الدرجة التي كثيراً ما نتصوّر أنه حققها »7
كما أن المنهج الذي اتبعه سعيد في نقده للاستشراق يُستدل عليه أيضاً من خلال تعريفه له من حيث هو : أولاً, خطاب فكري ذاتي يخاطب به الفرد وعيه الذاتي ليعرفه و يعيه. و ثانياً, خطاب خارجي يخاطب به, بشكل ظاهري, الفرد المقابل له ليتفاعل معه, إما احتواءً أو إلغاءً لوعيه المفروض عليه بقوة الواقع الوجودي أو الثقافي. و عن هذا المفهوم الخطابي الساعي إلى وعي ذاته عن طريق التفاعل المضاد مع الوعي الآخر المقابل له و إلغائه , يقول سعيد :
« ليس الشرق و حسب مجاوراً لأوروبا, بل إنه أيضاً موقع أعظم و أغنى , أقدم المستعمرات الأوروبية, و هو مصدر حضاراتها و لغاتها, و منافسها الثقافي, و هو يُمثل صورة من أعمق صور الآخر و أكثرها تواتراً لدى الأوروبيين. أضف إلى ذلك أن الشرق قد ساعد في تحديد صورة أوروبا (أو الغرب) باعتباره الصورة المضادة, و الفكرة و الشخصية و الخبرة المضادة. و مع ذلك فلا يعتبر أي جانب من جوانب هذا الشرق محض خيال, فالشرق جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية و الثقافة الأوروبية. و الاستشراق يعبّر عن هذا الجانب و يمثله ثقافياً, و بل فكرياً , باعتبار الاستشراق أسلوباً "للخطاب", أي للتفكير و الكلام, تدعمه مؤسسات و مفردات و بحوث علمية, و صور, و مذاهب فكرية, بل و بيروقراطيات استعمارية و أساليب استعمارية ». 8
إذن انطلاقاً من هذا المفهوم الإلغائي الذي اكتشفه سعيد في الاستشراق من حيث هو خطاب فكري و وعي ثقافي يهدف إلى إلغاء الوعي الثقافي الآخر المقابل له, نشأت فكرة كتاب الاستشراق من حيث هي ردة فعل فكري و ثقافي مضاد, و خطاب نقدي ,بانٍ و مقوّضٌ في آن, سعى من خلاله سعيد : أولاً, إلى معرفة حقيقة الذات الشرقية لترميمها عن طريق معرفة الذات الغربية, واكتشاف الحقيقة الفعلية للآخر المقابل لها ثقافياً. و ثانياً, تعرية وعي هذا الآخر المقابل, لإلحاق الهزيمة به, عن طريق مواجهته بخطابٍ تقويضي مقابل يستلهم أدواته من محتوى خطاب الخصم الذي بادره أولاً بخطابه الاستشراقي.
خاتمة
يقول إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق: «ازداد عدد المصطلحات الخاصة بالشرق و ازداد تواترها فتوطد مكانها في الخطاب الأوروبي. و كانت تمتد تحت هذه المصطلحات طبقة تمثل مذهباً محدداً بشأن الشرق, تَشكّل من خبرات الأوروبيين الذين تلاقت آراءهم حول بعض الجوانب الجوهرية للشرق : مثل الشخصة الشرقية, و الاستبداد الشرقي, و النزعة الحسية الشرقية. لذا كان الاستشراق يمثل لأي أوروبي منظومة من الحقائق بالمعنى الذي حدده نيتشه للحقائق.9 و هكذا فمن الصحيح إذن أن كل أوروبي كان, فيما يستطيع أن يقوله عن الشرق, عنصرياً, و إمبريالياً, و معتنقاً للمركزية العرقية بصورة شبه كاملة (…) و حجتي تقول أن الاستشراق في جوهره مذهب سياسي فُرضَ فرضاً على الشرق لأن الشرق كان أضعف من الغرب , و إنه تجاهل اختلاف الشرق الراجع إلى ضعفه (…) فالمجتمعات البشرية أو على الأقل تلك التي حققت تقدماً أكبر من سواها, كانت نادراً ما تقدم للفرد شيئاً غير الإمبريالية و العنصرية و المركزية العرقية عند التعامل مع الثقافات الأخرى».10
بقراءة سريعة لمجمل كتابات سعيد, لا سيما تلك التي تناول فيها مسألة الاستشراق, يتبين لنا أن جلّ دوافعه كانت تتمحور حول سؤال مركزي واحد لا غير , و إن كان لا يظهر علناً و بشكل صريح في كتاباته, و هذا السؤال هو : ما هو الضعف العام الذي يعتري المجتمع العربي والثقافة العربية (…) والذي أبقانا على ما نحن عليه؟11. وكما يبدو من هذا السؤال فإنه يُمثل سؤال النهضة العربية على امتداد تعثرها و الذي ما انفك سائلاً عند كل نكسة و نكبة و عند كل اندلاع أزمة : لماذا تقدم الغرب و تأخر العرب؟
هذا السؤال ما زال مطروحاً حتى يومنا هذا. و قد حاول سعيد الإجابة عليه بأسلوبه الفكري, و بمنهج مذهبه النقدي أي " النقد الثقافي", و بأدوات الفلسفة التكاملية القائمة على التعارض و التكامل بين "الوعي" و "الوعي الغاضب المقابل", و التي من أهدافها معرفة الذات الواعية عن طريق اكتشاف الوعي المقابل لها , للتفاعل معه إما احتواءً أو إلغاءً. و هذا ما اعتمده فعلاً سعيد في سياق دراسته و نقده للمسألة الاستشراقية, إذ طوّر من خلالها خطاباً نقدياً ذا بُعدَين: واحدهما فكري , نهضوي و تحرري , يبحث عن الذات الثقافية العربية المتصدعة لترميمها و لإشباع وعيها, عن طريق معرفة قُطبها المضاد المقابل لها, لفهمه أكثر و لتقصي أثار علاقته بأسباب تصدع و تأخرّ النهضة العربية. و ثانيهما, سياسي تقويضي, لكن أيضاً علمي و منهجي , يرمي أولاً إلى تحديد الخصم الثقافي, من خلال تحليل و تفكيك خفايا خطابه, ليقابله بالتالي بهجوم خطابي مضاد, سلاحهُ و حججهُ الأدوات المعرفية ذاتها التي اعتمد عليها خصمه في إنشاء خطابه.
هوامش:
1- الكتب الثلاث بحسب الترتيب الزمني هي: 1) الاستشراق عام 1978, 2) مسألة فلسطين عام 1979, 3) تغطية الإسلام عام 1981.
2-إدوارد سعيد, الاستشراق : مفاهيم غربية عن الشرق, ترجمة محمد عناني, رؤية للنشر و التوزيع, القاهرة , ط1, 2006 , ص 319-322.
3-انظر تصدير كتاب الاستشراق : مفاهيم غربية عن الشرق, ترجمة محمد عناني, رؤية للنشر و التوزيع, القاهرة , ط1, 2006.
4-إدوارد سعيد, الاستشراق : مفاهيم غربية عن الشرق, ترجمة محمد عناني, رؤية للنشر و التوزيع, القاهرة , ط1, 2006, ص 42.
5-المرجع السابق, ص 44.
6-انظر باب التعريف بإدوارد سعيد, الفقرة الخاصة بفلسفته.
7-إدوارد سعيد, الاستشراق : مفاهيم غربية عن الشرق, ترجمة محمد عناني, رؤية للنشر و التوزيع, القاهرة , ط1, 2006, ص 317-318.
8-إدوارد سعيد, الاستشراق : مفاهيم غربية عن الشرق, ترجمة محمد عناني, رؤية للنشر و التوزيع, القاهرة , ط1, 2006, ص 44.
9-يقول نيتشه عن مفهوم الحقائق المنقولة بواسطة اللغة : « ما اللغة إلا جيش متحرك من الاستعارات و الكنايات و التشبيهات بالإنسان, و باختصار هي مجمل علاقات بشرية قامت عوامل شعرية و بلاغية بالارتقاء بها, و تبديل مواقع أجزائها, و تجميلها, فأصبحت تبدو بعد طول استعمالها, حقائق صلبة و فقهية و ملزمة لشعب من الشعوب : ما الحقائق إلا أوهام نسى المرء أنها كذلك في الواقع. ». انظر كتاب فريدريك نيتشه :Friedrich Nietzsche, On Truth and Lie in an Extra-Moral Sense
10-إدوارد سعيد, الاستشراق : مفاهيم غربية عن الشرق, ترجمة محمد عناني, رؤية للنشر و التوزيع, القاهرة , ط1, 2006, ص 320-321.
11-إدوارد سعید: مقالات وحوارات، تقدیم وتحریر محمد شاهین، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، ط1, 2004 , ص 28.
#مريم_الحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟