|
نقرشات على شاهدي قبر منصور
خالد سراج الدين محمد الامين
الحوار المتمدن-العدد: 6557 - 2020 / 5 / 7 - 18:54
المحور:
سيرة ذاتية
وَدَعْ كلّ صَوْتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني أنَا الصائِحُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدى "جئنا عاج وحجل وسديري وقفطان وملفحة وعباية.. ومنصور خالد"لعلها كانت المُمازحة الأهم من المثقف الابرز بياناً واحد "جهابذة" الثقافة في الفترة المايوية عمر الحاج موسى في خطبته إبان إنتخابات الاتحاد الاشتراكي أن يعطفَ منصورُ لبعض علاماتِ الشخصية السودانية بصفاتها الظاهريِة وما ترتديه كالسديري وغيره ممُازحة حملتَ الكثير من النقاشات السابقة التي قد نشأت بين الرجلين في عوالم ثقافية كانا يحلقان فيها وسط تلك العصبة المايوية برفقة ثالث جعفر البخيت،مضى الحاج موسى لحاله في ذات الليلة ووتبعه البخيت وبقى منصور ليستمر في المجال العام السوداني يكتبُ وينقدُ وينتمى ويعادى واضعا ذاته هناك ليس بصفة الوزير السابق الصفة التي احتكم اليها كُثر ولكن كموثق وداعم لحركة الفكر السياسي حتي صار يأتي بين اترابه من المثقفين كمبتدأ تتبعه بقية الاسماء لا معطوفا كما فعل به موسى، لعله كان ذلك الدائم في حال منصور أن يأتي معطوفا مع العسكر وأن يأتي مبتدأ حين يأتي الحديث عن الفكر والسياسة، بل هو حال معظم المثقفين في من تبعوا جرار العسكر او موكب الطائفة. تلك جوانب لا يمكن ان نغفلها في تاريخ الرجل وحال ذاك الجيل وتبياناته وتقارباته مع العسكر والطوائف وبين ايدلوجيات تلك الفترة بين العروبة العفلقية والاشتراكية والتشدد بين ثيوقراطية الطائفة واتوقراطية العسكر، ولعله التاريخ نفسه يظهر الاثنان بزة العسكر وجلباب الطائفة دوما..بلون قاتم يخفى خلفه كل تشكيلات الكرفتات وبياض الياقات من حوله، تلك التجربة لعلها التجربة الاكثر افادة في تاريخ الموثق خالد واشد ما دفعه لان يكفر عن تلك السنوات بأن يقدم الحقيقة ولا شئ غيرها صانعاً من ذاته المؤرخ، فطفق يقذف برأيه بلا هوادة لا لمكسب أني ولكن لأجيال اخرى ملكها ادوات حرية التقييم والتمحيص والبحث والاعتبار، فظهر لنا .. ناقدا لحركة تلك الجيل تطلعاته اخطاءه ونزواته لكننا- كنا نهتم بذلك الموثق نفسه- نتساءل دوما عنه ذلك الراوى العليم في سرده لتلك التواريخ اين كان يقف ؟ هل كان مثقفُ سلطة ام مثقفٌ ساعي للسلطة؟ فالنميري"المنصور" حصان أهوج امتطاه كثر لكن خالد كان مختلفاً من الاخرين فامتطاءه دون "درقة" او "سربادوق" اي بدون حاضنة اجتماعية ترسخ لوجوده في ذلك المكان يمين النميري بصبحة ابوالقاسم والحاج موسى، فظهر بصورة الباشكاتب البسيط او المثقف الضال مرددا مع شبيهه المتنبي "وإنما الناس بالملوك" وكأنه الحال سيانُ بيننهما فكلاهما امضى زهاء العقد بصحبة النميري و سيف الدولة وسرعان ما تسقط الأحلام في السلطة، فينبرئ خالد -كالمتنبي- لمعارضة تلك الفكرة (القيصرية -Césarienne) فكرة المخلص والقائد الاوحد الناهي صاحب حق الملوك الالهي ومن ثم قائد الجماعة تلك الفكرة "النيريرية" ليخرج من البلاط كرفيقه الشاعر ويكتب بلا هوادة كأن قلمه به جمر ويرمى درة مختلفة في الفكر السياسي "الفجر الكاذب... نميري وتحريف الشريعة" قرأناه كحال جيلنا بكل ما حوى من لَّومى، لكنه فتح لنا ابواب جديدة طاف بنا خالد لعوالم لم يتطرق له كاتب اخر وعرج لنقاط مظلمة اظهرته لنا مثقفا موسوعيا لا مستغربا ولا احادي المصدر .. دائم العودة -بغير خجل- لافريقيته وتراث مجتمعه الديني الماجدي، محققا ومتسيدا لمصيره عاملا بنصيحة شكسبير يوليوس قيصر : "الرجال في وقت ما هم أسياد مصائرهم الخطأ ! ليس في نجومنا ولكنه في أنفسنا نحن الذين تحتهم" فهدم النميري قبل ان تهدمه الجموع الثائرة في ماريل قتلهُ منصور فقط بقلم ، دافعا به لسراديب التاريخ، مغتالا الشيطان الذي خلقَ .
"أمِط عَنكَ تَشبيهي بِما وَكَأَنَّهُ فَما أَحَدٌ فَوقي وَلا أَحَدٌ مِثلي المتتبع لتاريخ خالد يلْتمسُ بعضاً مما قد يظنُ ان سلطة التفكير او القيادة السياسية استحقاق اجتماعي فمنصور بصورة ما وليد البقعة خريج وادي سيدنا والخرطوم ولج للمجال العام بعلاقة اجتماعية وحظِيةِ وامتياز علاقات اجتماعية أتت به الي عبد الله بك اميرال الذي كان رئيسا للوزراء حينها حيث انضم كمستشار صحفي -نفى منصور ذلك لاحقا- ونرى فيه ايضا ابن سليل تلك الاسرة ذات السلطة الدينية والاتباع ومن ثم الوزير الإوربي الطراز بالبدلة الغالية والطراز الكنسي ببدلته وبقميص الابيض لا بالمتشحم بدهان المصانع كل ذلك كان صورة ظهر بها منصور واجاد حبكها بأمتياز وهي صورة ذات سلطة على القلب والعقل في دول المستعمرات فكان المبشرون يفرضون شكلا معينا يحتكرون به سلطة التفكير والقيادة وتم تسربيها الى تلك المجتمعات بمرور الايام وهي فعلة فعلها المستعمر في العديد من الدول بهدف وضع تمفصل بين الطبقات الاجتماعية وان يفهم الاخرين من هم في طبقة ادني فقط عن طريق المظهر وهي سلطة ذات مفعول في مجتمعاتنا التي لا تنفصل من شبيهاتها من الدول الفرانكوسكسونية خصوصا الدول حديثة الاستقلال، فتزاحمت تلك المجتمعات على بيع عاجها وجلودها وتراثها في سبيل اقتناء قطعة قماش تساعد على التعلي الاجتماعي كان السود في سوازيلاند على المثال يطلقون لفظ الانكليزي المستنسخ British copied على من اجبروا على ازياء واشكال معينة للممارسات معينة كالطب والخدمة الكنسية والموضة في هذا الموضوع لا يمكن اغفالها في مجتمعاتنا التقليدية فظهرت قوتها في العديد من الأصعِدة والأماكن ، فلفظ "الجلابي" وهو الشماليٌ متحدث العربية او استخدامه بايحاء كصاحب المال والسلطة في الوسط النيلي تمظهر واضح لتلك الحيلة المظهرية، صورة أجاد خالد رسمها بتفاصيلها "اللوردية"حتى اوصل الكثير من المثقفين بالقول ان منصور منهمُ ! ليس منهم بمظهره الشكلي وحسب لكن حتي بأفكاره التي كُتبت فأنتقل من خانة الممتاز التقليدي لصاحب الامتياز الابيض من العباءة الى البدلة وهي رحلة عبر بها كُثر لكن ذلك اللورد كان مختلفا يتعلمُ بسرعة ويرمى بجسده لرمال التجارب مفردا ومبتدرا علي غير عادة الاخرين فهو الوحيد الذي يمكن ان نصفه بأنه كسر تلك الوشائج التقليدية التي تدفعه للمجال العام تحت كنف عباءة الطائفة -حال اترابه من الافندية- فتمرد على تلك الافكار البيداغوجية ولحق بركب العسكر داعما لدكتاتورية البروليتارية ضد ديمقراطية البرجوازية قبل ان يقفز القفزة الثانية وهو ينضم للحركة الشعبية "المسيحية" البعيدة من هُموم وقضايا نخبة الوسط، اختلاف منصور في تلك القفزات مرده طريقة تفكيره المختلفة لعله كان متسالأ مثل كونديرا "هل الثقل شيء سيء!"و كان الحل دوما بالاحتماء خلف بنادق العسكر لتمرير افكارك وتكسير عصي الطوائف وكسر تلك الثنائية لعله ذلك ايضا يعود بنا لسر عداءه الكبير للطائفة او كان ذلك نتيجة للاضطهاد وقلة الفرص الذي يلايقها المثقفين امثال منصور في المجالات العامة وسط سيطرة الطائفة كل شئ وارد في عقل ذاك الشاب الذي لا يكابر ان يعيد التفكير، تلك الإمتيازات لا يمكن تجاوزها ونحن نتحدث عن "النخبة" و"الصفوة" ونقف عن أشهر منتقديها لعلنا اليوم اولى بالبحث عميقا فيها وتفكيك اشكالاتها وتلك طرقُ وعرة لا بعد من السير فيها في التنقيب عن جيل الخريجين الجيل الاول لهذه الامة.
وَيُوَقَّى الفَتى المِخَشُّ وقَدْ خوّ ضَ في ماءِ لَبّةِ الصّنْديدِ"" لا يمكن الإحاطة بمنصور فحاله كحال الشمقمق اذا دخلت عليه مسلما وجدته من دون بابٍ .فأن قراءت مكتوبه عن اسرته الماجدية وجدت فيه الراوى الشعبي وان تدارست "الفجر الكاذب.. نميري وتحريف الشريعة" احسست انك امام منكبٍ على التراث وان قراءت النخبة وجدت ذلك المثقف العضوي الذي يعمل لتفكيك أمهات المشاكل وإن قرأت مراسلاته وجدته الأديب الضال وإن سمعته في سنواته المايوية وجدت فيه رجل الدولة الذي تحمل الدولة من صفاته فيشكلها ولا تشكله وان قراءت call for democracy وجدت الافريقي المتحرر، لكن افضل شخوصه بعد ان اصابته "الرازنة" هو انه وضع اول عتبة لذلك المؤرخ الشاهد -Witness الناقد اللماح شديد البيان متين البنيان مستدعي التاريخ ضارباً به الامثلة وبحق لا اعلم ما الذى الزمه ودفع لتلك الخانة بل المكانة لعلهنقده الدائم اننا السودانيين امة لا تكتب تاريخها وان كتبت ما قراءت فأنبرى لتلك المهمة واضعا عتبة اولى لذلك الخَلقُ كVanguard كما يقول الفرنسيون مبتدرِ الخلق الاول فجاء برفقة "سكنجة وابوسليم" لكنه ليس منهم ! لا بالاكاديمي الممل ولا الكاتب المزبد بل الشاهد الناقد شأنه شأن البدري البدرِيُّ في ذلك الخلُق. ليست الأرخنة وحسب بترقيمها واحداثها ومن ثم المضى بل بالإشهاد والبيان ممزوجاً بالرأي سواء تغير ام بقى علي حاله حتى لو وصل لنقد الذات في مواقف سابقة وتقييم الاحداث وما ومواجتها بلا تكبر وذلك ليس بالفعل الشائع وإن كان ينعدم في ذلك الجيل فخالد صنعَ ما يمكن ان نسميه المؤرخ الفِكير Historian Thinker الذي لا يكتفِ بالاحداث وذكرها لكنه يعملُ فيها قليل التمعن يماهي الصفوف بين علوم الاجتماع يعطف علي الفلسفة والسيسولوجي وتلك صفة أدبية نقدية لا سياسية وقعت على ذلك الطالب بالصدفة ان يستقى من صفات الادباء من رفاقه كجمال محمد احمد عرابه الروحي وجليسه الدراسي الطيب صالح الذي يكتب عنه منصور في مقال "الزين يغيبُ" بمناسبة إختيار موسم الهجرة ضمن افضل مئة عمل في التاريخ البشرى .. فيقول : "جلس الطيب صامتا حتى همس اليه نجم عبد الكريم: يا طيب لماذا لا نكتب عن هذا الظفر التاريخي! قلت للطيب: ما القصة؟ قال: «واللّه ناس النرويج دعونا لحفل في قاعة نوبل لأنهم اختاروا موسم الهجرة مع كتب لجماعة تانين قلت: ومن هم الجماعة؟ قال «شكسبير وبرونتي وهمنجواي». لو لم اكن اعرف الطيب عن ظهر قلب، لقلت يا للافتراء! ولكني أعرف هذا «الزول»، تواضعه يعتصر الدموع، بل يثير الغضب لدى أصحابه في بعض الأحيان. هو صادق عندما يرفض التعالي، ومخلص عندما ينأى بنفسه عن التنفج، وأبغض الأشياء إليه لي شدقه بالتفصح لم أر رجلا كالطيب يهضم حق حقه" تلك الصحبة طفت بصديقنا المجذئر من سقطاتِ الكتابة وصغائر النفس حِرفة طورها بخاصية ذانت لغته على بيانه المولود به، فالمقال السابق - تلزين يغيب في عرسه - بمثابة الحوار الأريب مع الأديب ولا بد ان يكتب بحياكة لغوية جيدة فنرى فيه منصور محبُ الادب، ونرى ايضا في مراسلات الطيب وجمال شكوى ولوم فيما يفعله منصور اي إشتغاله بالسياسة واتباعه لذلك المنصور، صحبة أفادت في صنع منصور الكاتب المؤرخ المجيد العتيد. قيل ان ابى العلاء المعرى كان يقول فلان وينشد من شعره كذا وكذا .. لكنه عندما يقتبس من ابو الطيب يقول قال الشاعر، فصار حالان ان ذكرنا ذلك الأمرد قلنا كتبَ المؤرخ وعنينا منصور .
مضى منصور، فترك حالة متفردة في جيله وتاريخ الفكر والسياسة في السودان تستحق دوما الاحتفاء ولعل ان اكثر ما يكرمهُ في موته ان يفعلُ كما دأب ان يفعلَ وهو ان يكتبُ ويكاتبَ، وما اجدى وانفع الرثاء ان كان فيه نقد وتبحر ونقاش وتفكر وعقد للمقارنات واستحضار الماضي للحاضر دون الحكم عليه بمقاييس اليوم وهو ظلم فادح للتاريخ قبل الاشخاص انفسهم، تفرد منصور ببيانه وقوة حجته وسبكِ كتابه،قراءناه مراهقين فأزْهر لغتنا وتدارسنا ما كتبَ شباباً فزاد شغفنا وشجعنا بالدفع بالرأي دون تردد ومهما كانت العواقب وان "تكن نرجسيا ان استلزم الامر" كطلب الدرويش، إن ملكت الحق في يمينك وطلقُ لجام قلمك وتوقد ذهنك لزلات الذات رحم الله منصور.
#خالد_سراج_الدين_محمد_الامين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في كره الأستاذ الجامعي!
-
لا يريدون حرية المرأة (1) مدخل للاسلامفوبيا والتغيير الاجتما
...
-
نحو تأسيس علماني سوداني قراءة في حراك تجمع العلمانيين السودا
...
-
نحو تأسيس علماني سوداني قراءة في حراك تجمع العلمانيين السو
...
-
الدين مشرع الأخلاق !
-
لماذا تحتاج للشياطين ؟
-
هل لديهن فعلا شعر طويل؟
-
المثليين والمثاليين في المجتمعات الاصولية
المزيد.....
-
-أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س
...
-
فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر
...
-
الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
-
تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
-
مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن
...
-
-فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات
...
-
مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني
...
-
بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب
...
-
أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
-
كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|