|
بل هجرة سيد القمني انتكاسة للحرية
جوزيف بشارة
الحوار المتمدن-العدد: 1583 - 2006 / 6 / 16 - 11:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يكاد المناخ العام السائد في معظم الدول العربية أن يفسد كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولعل أحد أهم الأثار السلبية التي تنتج عن هذا المناخ هو تفريغ المجتمعات العربية من امكاناتها البشرية الهائلة بعدما استنزفت طموحات الوطنيين، وأوشكت أحلام المبدعين من الانهيار. لذا فقد أخذت مئات الألوف من العقول والطاقات العلمية والاقتصادية العربية في هجر الوطن متجهة إلى حيث وجدت الحريات العامة، وحقوق الإنسان، والمساواة، فرص عمل، وحياة أفضل. وقد برع ولا يزال يبرع الكثيرون من منهم في إفادة بلدانهم الجديدة بعدما وجدوا المناخ الملائم للإبداع، وهو ما أسفر عن حرمان أوطانهم الأصلية من جهودهم وكفاءاتهم ومواهبهم المؤثرة. وعلى الرغم من أن هذه الهجرات بدأت في القرن التاسع عشر عندما ترك عدد كبير من المسيحيين الشوام بلدانهم واتجهوا نحو الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، إلا أن الهجرات تكثفت في السنوات الأربعين الماضية، وتحديداً بعد هزيمة العرب في معركة حزيران 1967، حيث غادرت أعداد كبيرة القوميين والوطنيين بسبب حالة الإحباط العام التي أصابت المجتمعات العربية.
غير أن طبيعة ومسببات الهجرة شهدت تغيرأ جزرياً في منتصف سبعينيات القرن العشرين حين هاجرت أعداد ضخمة من المواطنين العرب احتجاجاً على أو هروباً من النفوذ المتعاظم للإسلاميين المتطرفين كما في حال مصر ودول شمال افريقيا، أو بسبب الحرب الأهلية التي بدأت عندئذ في لبنان. واستمرت الهجرات الكبيرة منذ ذلك الحين بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية التي عانت منها الدول العربية وبخاصة لبنان والعراق وسوريا ومصر والجزائر. ولقد كانت نخبة من المفكرين والكتاب والباحثين الليبراليين على رأس الفئات المهاجرة إلى الغرب في هذه المرحلة. شملت قائمة الكتاب المهاجرين أسماء لامعة برزت في بلادها قبل أن تدفعها الظروف القاسية للمغادرة. ولعل من أبرز الأسماء التي قيل مؤخراً أنها قد تنضم للقائمة كان اسم المفكر المصري الكبير الدكتور سيد القمني الذي صدرت بحقه فتاواى عديدة دعت لإهدار دمه، والتي توقف على أثرها عن الكتابة.
مشاعر متضاربة خالجتني حين علمت بالأنباء الواردة عن احتمال انتقال سيد القمني للإقامة بصفة دائمة بالولايات المتحدة. فمن ناحية فقد كان قرار القمني بمغادرة مصر نهائياً متوقعاً على نطاق واسع منذ أمد بعيد، وبخاصة بعد التهديدات الخطيرة التي وجهتها الجماعات الإرهابية للقمني وأسرته، ومن ناحية أخرى فهجرة القمني تثير العديد من الأسئلة الساخنة حول مستقبل البلدان العربية في ظل السيطرة شبه الكاملة التي تفرضها الجماعات المتطرفة والإرهابية على حريات التعبير والعقيدة والإبداع، والتي تدفع عشرات الالاف من العرب لهجرة بلدانهم التعسة بحثاً عن الحرية والاستقرار والأمان في بلدان أخرى تثمن الحرية وتضعها في المرتبة اللائقة بها.
إذا ما ثبتت صحة هذه الأنباء، فإن المفكر يكون قد سلك نفس الطريق الذي سلكه من قبله عدد كبير من المفكرين والكتاب الليبراليين العرب الذين واجهوا تحديات خطيرة من القوى الإظلامية متصاعدة النفوذ في العالم العربي، مع الفارق في أن القمني يترك بلده مرغماً، في حين أن معظم المفكرين والكتاب الأخرين هاجروا طواعية. لا شك في أن سيد القمني يملك كل الحق في الحرص على سلامة عائلته ومن ثم اتخاذ كل الخطوات اللازمة لحماية مستقبل أسرته، ولا شك أيضاً في أنه ليس من حق أحد أن ينتقد قراراً شخصياً للكاتب الذي احترمناه كثيراً حين آثر أن يعتزل الكتابة قبل عام بعدما فشلت الحكومة المصرية في توفير الحماية الكاملة له ولعائلته الصغيرة حين رفضت التعامل بجدية مع الرسائل التهديدية التي أرسلتها له الجماعات الإرهابية.
لعل ما دفعني للكتابة حول نبأ الهجرة المحتملة للسيد القمني ليس هو مناقشة القرار الشخصي جداً للمفكر الكبير، ولكن هو اندهاشي من تأكيد الدكتور شاكر النابلسي في مقاله المعنون "سيد القمني في رحاب الحرية" على أن وصول القمني إلى واشنطن هو "نصر جديد لليبرالية العربية وللفكر التنويري." فليسمح لي الدكتور النابلسي بالاختلاف معه في أن الهجرة الإجبارية لكاتب ليبرالي من وطنه تعد بكل المقاييس انتكاسة خطيرة لليبرالية والفكر التنويري. نعم قد تكون هجرة كاتب من بلد دكتاتوري منغلق انتصاراً للحياة الشخصية للكاتب لـ"نفاذه بجلده" من أحكام وفتاوى الإظلاميين، ونعم قد تفتح هجرة كاتب إلى بلد ديمقراطي أفاقاً جديدة أمام الكاتب للاستفادة من اجواء الحرية في استنفار طاقاته الابداعية، بل وأن هجرة كاتب مضطهد إلى بلد أخر قد يكون انتصاراً للحرية في هذا البلد.
ولكن مغادرة مفكر ليبرالي لوطنه تحت تهديدات بالقتل هي بالتأكيد هزيمة للتيار الليبرالي في هذا الوطن، وهي وأد لطموحات كبيرة في إحلال العقلية المقموعة المنغلقة السائدة بعقلية حرة منفتحة، وهي أيضاً تعكس يأساً في إنجاز التغيير الليبرالي الذي ينشده جميع الأحرار للمجتمعات المنغلقة والمقهورة والمكبلة بقيود التخلف والفقر والدكتاتورية والتطرف. ولعلي أوضح هنا أن المغادرة الدائمة لسيد القمني لبلده مصر، إن تمت، تأتي مختلفة في دلالاتها وحيثياتها عن مغادرة معظم الكتاب الليبراللين العرب لبلدانهم، إذ تساورني الشكوك في أن القمني يقوم بها عن قناعة، وذلك نظراً للظروف التي تحيط بها والضغوط النفسية والعصبية التي تصاحبها.
من غير المعلوم إذا ما كان سيد القمني سيعود لنشاطه الفكري والتأليفي في حال استقراره بصفة دائمة في الولايات المتحدة، فالكاتب الذي قرر في يوليو الماضي التوقف عن الكتابة والحديث لوسائل الإعلام، و أعلن براءته من كل ما سبق له نشره من كتب ومقالات وبحوث لا يزال يلتزم الصمت حيال مستقبله. ولكن ما من شك في أن المثقفين والعقول الحرة في العالم العربي عطشى للمزيد من ابداعات سيد القمني ذلك القامة الشامخة في سماء الفكر الليبرالي العربي. لقد تمنيت طويلاً عودة سيد القمني إلى قرائه لامتاعهم بما يفتح وينير عقولهم كما فعل باستمرار في السنوات الطويلة السابقة لتوقفه ، ولكن لا أخفي أنني لم أرجو يوماً أن تكون عودته عبر هجرة من الوطن، تلك الهجرة التي أعلم أنها تحمل بالنسبة لكاتب يعشق وطنه مرارة العلقم كونها تشبه النفي السياسي من الوطن. لقد تمنيت أن يعود القمني كاتباً حراً منتصراً على قوى الشر والعنف التي استشرت في بلاده، ولكن.....
سواء قرر المفكر الكبير استئناف نشاطه التنويري أو التزم بتعهده باعتزال العمل العام فمن المؤكد أن لا لوم إطلاقاً يقع عليه، فالقمني طالما احتفظ و لا يزال يحتفظ وسيظل يحتفظ بمكانة غالية في قلوب وعقول الأحرار العرب. اللوم كله يقع على هؤلاء واؤلئك الذين سعوا ويسعوا بهمة لتخليص الناطقين بالعربية من صوت العقل إما عن عمد كما في حال الجماعات المتطرفة، أو عن جهل كما في حال الأغلبية الصامتة التي لم تساند القمني في محنته، أو عن غباء كما في حال الناشر الذي أشار إليه القمني في رسالة الاستغاثة الأخيرة، أو عن تواطؤ كما في حال الحكومة المصرية التي لم زايدت على التطرف الذي أودى بحياة الكاتب الراحل فرج فودة وأجبر المفكر الدكتور نصر حامد أبوزيد على الهجرة إلى هولندا. وليعلم مفكرنا الكبير أن ما يحدث في موطنه الأصلي له نظير في كل البلاد العربية، وأن هزيمة التيار الليبرالي في مصر لهي هزيمة للتيار الليبرالي العربي بأكمله من الخليج إلى المحيط. ولكن عزاءونا أن هزيمة التيار الليبرالي لن تتحول أبداً إلى هزيمة للفكر الليبرالي، فالفكر الليبرالي لن ينال منه مصاصو الدماء ودعاة الحقد والكراهية.
#جوزيف_بشارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النفوذ السياسي لرجال الأكليروس العرب
-
الوجه القبيح ل -حماس- الزرقاوية القاعدية
-
مقتل الزرقاوي ومقتل الفكر الإرهابي
-
عبء النفوذ السياسي لرجال الدين – نموذج السيد حسن نصرالله
-
التوريث، الإخوان وأزمة الأحزاب السياسية في مصر
-
ثروات الرؤساء والملوك في ميزان -Forbes-
-
حكومة المالكي ونزع فتيل الطائفية
-
مصداقية نجاد أم تربص المجتمع الدولي؟ أين المشكلة؟
-
الإخوان يستهدفون حرية العقيدة في مصر
-
قانون الزي الموحد يفضح عنصرية نجاد
-
دافينشي كود بين مبدأي حرية التعبير والتسامح
-
التديين التجاري وهداية هيفاء الواوا!
-
قراءة في حديث استباحة فوضى القتل
-
الأخ العقيد يصدر التطرف إلى إفريقيا!
-
في إستقطاب الفتيات وتغييب العدل والشفافية والحريات!
-
معضلة الإرهاب الديني
-
التحالف مع الإرهاب تحالف مع الشيطان!
-
إعتداءات دهب وكشف عورة الإرهاب
-
الهروب من المسئولية في أحداث الإسكندرية
-
إيران من اللعبة النووية إلى المواجهة النووية
المزيد.....
-
القائد العام لحرس الثورة الاسلامية: قطعا سننتقم من -إسرائيل-
...
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|