|
الراهنية الزمكانية في النص القرآني واثرها في ترتيب الحكم الشرعي.
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6555 - 2020 / 5 / 5 - 17:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من موجبات ان يكون للنص الديني أثر أو يرتب أثر كـ (حكم) أو تكليف محدد على الإنسان، أن تتطابق حالية النص كهدف مطلوب مع حالية الزمان والمكان، بمعنى لا يمكن أن نرتب أي حكم ما نتيجة وجود نص أنعدمت أسباب وجوده أو تغيرت معايير تطبيقه زمانا ومكانا مع الحرص على أحتفاظنا بالنص ضروريا لأنه يشرح لنا حالة أرتبطت بواقعها، لكن هذا لا يغني عن دراسة الرابط بين النص والحالة في أطار من الشمولية التاريخية النسقية التي رافقت نزول النص، فالعبرة ليست بوجود حكم قابل للتنفيذ فقط لأنه ملائم ومناسب وله قيمة تبرر وديموميته وأستمراريته في التعاطي، ذلك لأنه مثلا متعلقا بحالة عامة كلية مجردة من عنصري الزمان والمكان كما في أحكام الواجبات والضرورات الكلية (الحلال والحرام). الحديث هنا جاء تحديدا في مناقشة سورة التوبة وما ورد فيها من قضايا إخبارية تاريخية عديدة، نتناولها تفصيلا، مع ملاحظة نقطة في غاية الأهمية في فهم السورة بشكل عام وكلي، هذه النقطة هي علاقة النص الديني بالواقع من ناحيتي الزمان والمكان، فالمعلوم أن غالب أو معظم ما نزل منها أرتبط بحدث محدد وخاطب فئة محددة وفي مكان محدد، دون أن نرتب أي حكم تقريري من قبلنا وفي هذه القراءة حتى نحكم ما هو واجب في تطبيق الأحكام كما ذكرنا في المقدمة. ونعود لقراءة السورة من خلال ما ورد في أسباب النزول وعلل الحدث فيها، أقرب الروايات توافقا مع لغة ومنطق السورة، هو ما جاء في تفسير الطبري من الرواية التالية (12787ـ حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ... إلى قوله: وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال: ذكر لنا أن عليّا نادى بالأذان, وأمر على الحاج أبو بكر رضي الله عنهما, وكان العام الذي حجّ فيه المسلمون والمشركون, ولم يحجّ المشركون بعد ذلك العام. قوله: الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ... إلى قوله: إلى مُدّتِهِمْ قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية, وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر وأمر الله نبيه أن يوفي بعهدهم إلى مدتهم ومن لا عهد له انسلاخ المحرم)، فالرواية تكشف لنا جملة من القضايا المهمة التي تشكل في مجموعها فهما كليا للسورة وكما يلي:. 1. أن أحداث السورة وكلما ورد فيها من أخبار وأوامر مرتبطة بعهد سابق بين رسول الله ص وبين المشركين، وهو ما يعرف تاريخيا بصلح الحديبية. 2. لا يأمر الله في نص أن يوفي بالعهد وبنص أخر يطلب نقض العهد كما يزعم الكثير من المفسرين والفقهاء (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) الإسراء (34)، طالما أرتبط الرسول بالعهد فهو في حدود التزامه سواء كان المتعاهد الأخر كافرا أو مشركا. 3. العهد عقد بين طرفين متساويين وكما يقال اليوم هو سلة واحد أما يؤخذ ككل أو يتترك ككل، وحيث أن خرق البعض لهذا العهد يعتبر مبررا لإنهائه، فيعود الطرفان إلى الحالة التي كانت قبل العهد (صلح الحديبية)، وحيث أن ما كان قبل صلح الحديبية هو عزيمة الرسول ص على حج بيت الله بالقوة بعد أن منع المسلمون من أداء فريضة الحج التي هي جزء أهم من منظومة العبادات الإسلامية، وبالتالي فنقض العهد يعني دخول المسلمين عنوة لمكة مع أحتفاظ من عاهد ولم ينكث بكافة ألتزامات وحقوق العهد. 4. لغة الردع التي طغت على السورة ومفرداتها جزء من غضب الله ورسوله على حالة شاذة مارسها المشركون من أهل مكة وجزء من الأعراب، ذلك أن طبائع الغدر والنكول لا تليق بمجتمع إنساني. 5. تناولت السورة ثلاثة مسميات مختلفة المطلوب أن يكون التعامل معهم وفقا لمبدا القصاص ممن يهدد أمن المسلمين ويسعى في أذيتهم، وهم أولا المشركين (بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)، وهم الواجهة الأهم في السورة وهم من الأطراف التي عقدت العهد والصلح مع رسول الله ص، أما الفئة الثانية فهم المنافقون من الذين لم يحسموا موقفهم النهائي من موضوع الإيمان والعهد، فهم فئة تبحث عن الفرص ولا تبحث عن إيمان، لذا نراهم يناصرون المسلمين إذا غلبت كفتهم ومرة يناصرون أعدائهم إذا مالت الميازين عنهم (فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ (77) أَلَمۡ يَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ سِرَّهُمۡ وَنَجۡوَىٰهُمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلَّٰمُ ٱلۡغُيُوبِ) (78)، والفئة الثالثة هم من كان يحرض الفئتين السابقتين على نقض العهد وتهديد أمن المسلمين ومحاربة الله ورسوله (يُرِيدُونَ أَن يُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَيَأۡبَى ٱللَّهُ إِلَّآ أَن يُتِمَّ نُورَهُۥ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ) (32)، فما جاء في السورة من أحكام مقاتلة هذه الفئات لم يكن مطلقا، بل أستثنت النصوص طائفة من كل مجموعة منهم لعلة، فقد أستثنى من المشركين (إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ) (4)، ومن فئة المنافقين طائفة (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ) التوبة (11)، ثم من الطائفة الثالثة من اهل الكتاب (فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ) (74). 6. تأسيسا على ما تقدم أن شرط المجاهدة والمقاتلة التي جاءت بها أحكام السورة يجب أن تتوفر فيها الشروط التالية، أولا أن يكون هناك عهد أو معاهدة بين المسلمين وخصومهم من المشركين أو الكافرين، وثانيا أن نقض المعاهدة يعيد طرفي العهد إلا حال ما قبل التعاهد، بمعنى أن ليس كل نقض يوجب المجاهدة والقتال إلا إذا كان سبب التعاهد هو تجنب القتال والحرب، فلو كانت المعاهدة في قضية أخرى لا تهدد بحرب ولا تسبب حرب فلا موجب لتطبيق احكام المجاهدة والقتال، ثالثا المبدأ الأساسي والملزم دوما أخلاقيا ودينيا هو الإيفاء بالعقود ومحاولة الفرز بين من هو مضطر للأمر أضطرارا ملجئا وبين القاصد والمتعمد في نقضها وأنتهاكها، رابها أن الحرب خيار أستثنائي يدور بقاءً وعدماً مع أسباب نشؤه لأن القاعدة الأكبر في الإسلام والدعوة الأعظم هي السلام (وأدخلوا في السلم كافة). 7. إن كل الأحداث والموضوعات التي وردت في السورة محصورة بين مكانيين محددين أولهما المدينة وما حولها (وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيۡنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٖ) (101)، والمكان الثاني مكة منزل المشركين وموعد العقاب القادم بعد إنسلاخ الأشهر الحرم، والزمن هو قبل فتح مكة أو الفتح المبين ولا يتعدى ما ورد في السورة الزمان والمكان أبدا إلا اذا توفرت نفس الشروط والمعطيات ومبررات النزول وأسبابها. من هنا ومن خلال ما ورد في النقاط السبع نستنتج أن أحكام القتا والمجاهدة الواردة في سورة التوبة أحكام طارئة ووقتية محكومة بزمنها ومكانها وأشخاصها، وبالتالي إن أنتهاء موضوعها هو أنتهاء لأحكام الجهاد والمقاتلة وفقا للشروط الواردة في أسباب نقض العهد، هذا لا يعني غلق باب الجهاد مطلقا ولا أنتهاء فكرة مقاتلة أعداء المسلمين بأسباب أو لأسباب أخرى، وإنما نقول أنتهاء مقاتلة هذه الفئات الثلاث لأسباب نقض العهد فقط، وبما أن أسباب المقاتلة والمجاهدة متعلقة بحالة جزئية، فيكون مبدا الرد حالة جزئية وليست كلية ولا يمكن تعميمها على أنها قانون عام في الجهاد والقتال. الخلاصة ما نستنتجه من هذه الدراسة ان ليس كل نص قرآني ورد فيه حكم هو نص عام صالح للتمسك به في كل مناسبة يراد تطبيق أحكامه عليها، فليس مثلا اليوم من حق المسلمين أعلان المقاتلة ومجاهدة الكافرين من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين لمجرد أنهم كذلك، وإنما يشترط كمبدأ عام أن يكون هناك خطر حقيقي وجدي وداهم يتعرض له المسلمون في وجودهم، وأن يكون أولئك الأصناف الثلاثة هم من يبدأ في خوض الحرب والأستعداد لها او التحريض عليها، وبذلك يكون الموضوع جهادا ومقاتلة شرعية دفاعا عن النفس وتطبيقا لمبدأ إنساني وأخلاقي يتناسب مع منطقية العقل البشري الرشيد (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (13). عليه تكون القاعدة الأساس لبناء الرؤية الكلية في الإسلام تقوم على أن السلام هو القانون العام والحرب نتيجة لتصرف مخالف لقواعد التعارف والتعاون بين البشر، وأن أي دعوة تنطلق من غير هذه القاعدة تكون دعوة بشرية لا علاقة لله ولا الدين بها، وهي نتاج بشري كامل غير مسئول النص الديني عنها، وإن كل دعوات الجهاد والغزو والدعوة إلى دين الله بالقوة والسيف دعوة باطلة وبخلاف القاعدة الأساسية للإنذار والهداية (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل (125).
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية (حساء الوطواط) ح19
-
الدين وفلسفة الوجه الأخر.
-
حقيقة صلاة الجماعة في الإسلام...لا فرض ولا سنة.
-
دور الكذب كعامل النفسي في هلاك القرى
-
دروس رمضانية قرآنية في سورة الأعراف.
-
رواية (حساء الوطواط) ح18
-
دروس قرآنية من وحي رمضان.
-
رواية (حساء الوطواط) ح17
-
رواية (حساء الوطواط) ح16
-
رواية (حساء الوطواط) ح15
-
رواية (حساء الوطواط) ح14
-
رواية (حساء الوطواط) ح13
-
هل تنجح الفلسفة في تنوير العقل الديني التاريخي ج1
-
الحب والموت بين وجودنا الأول ووجودنا الراهن
-
الترتيل بين الفهم والمفهوم.
-
رسالتي المتمردة إلى حضرة الكل
-
العبد والعبودية في الفهم الديني... القرآن الكريم أنموذجا.
-
العنف ضد المرأة في مجتمعات الفضيلة
-
رواية (حساء الوطواط) ح12
-
تخاريف عراقية في زمن الكورونا
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|