|
من هو النبي محمد؟
محمد علي عبد الجليل
الحوار المتمدن-العدد: 6553 - 2020 / 5 / 3 - 00:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من المرجَّح جداً ألاَّ يكونَ نبي الإسلام "مُحمَّد" في الأساس شخصاً تاريخياً، بل إنّ "محمَّداً" هذا هو تصوُّر جماعي تطَـلُّعي عن شخصية رمزية خلاصية كمالية، مثل شخصية "الفارقليط" [المُعزّي، أي: مقوّي العزيمة] (وهو الـ"مُــنْحَمَنَّا")، و"المُخَـلِّص"، و"المسيح" [الإنسان المثالي، الممسوح، المختار من الله]، و"المَهدي" المنتظَر، و"البوذا". هذه الشخصية التخيُّلية ظهرَت على الأرجح بين قبائل العرب في جنوب سورية وشمال شبه الجزيرة العربية بين القرنين الخامس والتاسع الميلاديَّينِ في محيط الإمبراطورية الرومانية [البيزنطية].
إن الاسم "محمداً" لم يكن اسمَ علَم متداولاً بل صفة لشخصية مأمولة تتطلّع إليها الجماعةُ العربية. وقد وردَ في التراث أن أشخاصاً [رُبّما عددهم سبعة] سُمُّوا "محمَّداً" قُبيلَ ظهور الإسلام، وذلك تيمُّناً بالشخصية المتصوَّرة المنتظَرة. هذه الشخصية الخلاصية [المسيَّـانية] المتخيَّلة ("مُحَمَّد") ليست نفسها شخصية "المُنْحَمَنّا". بل تقابلها ثقافياً. بمعنى أن شخصية "المُنحمنّا" العِبرية تقوم بالدور نفسه الذي تقوم به شخصية "محمَّد" العَرَبية.
فاِسمُ المفعول "مُحَمَّد" مشتق من "الحمد"، وقد تشير إلى: الشخص الذي كَثُرَت خصالُه المحمودة، أو الذي يُحمَد باستمرار [مَرّة بعد أخرى]، أو الذي يتفضّل ويَمْتَنُّ على الناس، أو الذي يرضاه الناس سيّداً أو فاضلاً. كما أن الجذر العربي "ح. م. د." يتضمّن في حقله الدلالي معاني: الرضا والشكر والدرَجة القصوى والغاية. يقال: "حُماداك أنْ تَفعلَ كذا": أي غايتُك ومَبْـلَغ جُهدِك وقُصاراك. (لسان العرب)
أمّا "مُنْحَمَنَّا" [أو: مَنْحَمَنّا] فهو اسم فاعل عبري مضاف إلى ضمير الجمع المتكلم وتعني: "مُسَـلِّينا" أو "مُعزِّينا" [بمعنى: مُقَوِّينا]. وهو مشتق من الفعل (נחם) [نحم]. ومنه اشتُقَّ اسم الفاعل (מנחם) [مِناحِم] [menaḥem] الذي يعني: "المُعزّي" و"المُسَلّي" [المقوِّي والمشدِّد للعَزم] والذي استُخدِم في التلمود وصفاً للمسيح المنتظر، ويقابل لفظ "پاراكليتوس" اليوناني (παράκλητος) [paraklitos].
فالجَذر الآرامي "نحم" يشير إلى التشجيع وتقوية العزيمة، وهذا المعنى نجد له أثراً في الحقل الدلالي للفعل العربي "نحم" (الذي يُستخدَم عادةً بمعنى: تَنَحْنَحَ أَوْ سَعَلَ [للإنسان]، وزَأَرَ زَئِيراً شَدِيداً [للسَّبُع]) فيقال: "انْتَحَمْتُ على كذا" أي: عَزمتُ على كذا. والانْتِحامُ: الاعْتزامُ (القاموس المحيط). و"نَحَمَ" السَّوَّاقُ [أو السَّاقي] والعاملُ يَنْحَمُ وَيَنْحِمُ نَحيماً إذا استراح إلى شِبهِ أنينٍ يُخرِجه من صَدره. (لسان العرب)
ولكن لا نعرف العلاقة بين "مُنحَمَنّا" و"مُحَمَّد". كيف ظهرَ اسمُ "مُحَمَّد"؟ هل "مُحمَّد" تصحيف أم تعريب أم ترجمة خاطئة لِـ"مُنحَمَنّا"؟ هل كان الجذر "حمد" يشير في إحدى لغاتِ العرب إلى معنى تقوية العزيمة والتشجيع؟
إن "محمَّداً" هو إذاً في الحقيقة شخصية تخيُّلية (خيالية، مِخيالية، ذهنية) شعبية تنظر إليها الجماعة على أنها الشخص المثالي (الذي يمتلك كل الصفات المحمودة) والقائد المخَلِّص الذي ترضاه الجماعة سيداً لها والذي تنتظره ليُخَلِّصَها. وكان لها صفات تخيُّلية أهمها: الرحمة والأمانة والوحدة [التوحيد بالمعنى الروحي (الوحدانية) أو السياسي (توحيد القبائل وإنشاء الدولة)] والرسولية (مهمة الناقل، ساعي البريد) (بحسب الحديث المنسوب إلى مؤسس جماعة "المؤمنين" [الذين سُمُّوا لاحقاً بـ"المسلمين"]: "قِيلَ لي فقُلتُ"). وكان كثير من الأشخاص يطمحون إلى التمتُّع بالميزات الاجتماعية لهذه الحالة المثالية وتلك المرتبة (أي: الحالة المحمدية).
والأرجح أن المتصوفة المسلمين بنَوا عقيدتَهم في "الحقيقة المحمَّدية" على الشخصية الرمزية وعلى الصورة الذهنية الجمعية للشخصية المثالية وليس على الشخصية التاريخية التي استولَت على هذا اللقب. ولكنّ هذه الشخصية التاريخية ساهمَت في ترسيخ الشخصية الخيالية "محمَّد".
إن القائد العسكري العربي الأُمّيّ (من طائفة "الأُمّيّين" [أي: غير الكتابيين، أي: غير اليهود وغير النّصارى وغير المسيحيين]) الذي ربما كان اسمه قُـثَم بن عبد اللات [ربما هو بن أبي كبشة] زوج خديجة بنت خُوَيلِد (الّتي كانت على الأرجح أبيونية تنتمي إلى طائفة هرطوقية لم يَعترف بها مجمعُ خلقيدونية [451 م] فتطوَّرَت في الظل في محيط الإمبراطورية البيزنطية) كان من أهمّ الأشخاص الذين سعَوا إلى الاستئثار بهذه الحالة-المرتبة (المحمدية) والحصول على هذا اللقب ("محمَّد"). وربما لِتوفُّر بعض الصفات النفسية (ومنها: الاختلال النفسي الذي يعطيه جرأة غير عادية ويجعله يُصَدِّق الأوهام) والمادية (المالية بسبب غنى زوجته) والمكانة العائلية الاجتماعية، فقد اختير قُثَمَ ليكون الناقلَ للترجمة العربية للكتاب المقدَّس من فريق الإعداد إلى الجماعة اللغوية العربية. وربما كان لِقُثَم دور تنسيقي في الفريق، أو كان ممثّلاً للجماعة ("پـارانغون" ["parangon"]، بحسب كلود جيليو Claude Gilliot). [كلمة "parangon" مشتقة من اليونانية parakonê، بمعنى "حَجَر الشحذ" أو "المِسَنّ"، وأصبحت تعني "الشخص الرمزي" الذي يُستخدَم كشعار والذي يُنسَب إليه عملٌ تكون له فيه مشارَكةٌ بسيطة أو جزئية]. (لمراجعة مقال كلود جيليو: «Muḥammad, le Coran et les "contraintes de l’histoire"» [«محمد والقرآن و"قيود التاريخ"»]، في كتاب: The Qurʾān as text، ليدن، منشورات بريل Brill، 1996، ص 26).
فـقُثَم كان أكثر من مجرَّد "ناطق رسمي. ولكنّ جماعته لم تُصَدّقه واستخَفَّت به (فعَيَّرَته بـ"ابن أبي كبشة") وبالأفكار التي كان ينقلها لهم والتي كانوا يرونها مسروقة من أساطير سابقة. فهو لَم يقل لهم إنها ترجمة. والأرجح أنه كان يعرف أنها ترجمة، رغمَ قدراتِه العقلية المحدودة كغالبية القادة العسكريين، لأن هناك أثراً في التراث يشير إلى أنه كان يستقي آياتِ القرآن في السرّ من بعض كُتُب العبرانيين: عن زيد بن ثابت يقول: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه يأتيني كُتبٌ من أُناسٍ لا أُحِبُّ أنْ يقرأَها أحدٌ، فهل تستطيع أنْ تَــعَــلَّـمَ كِتابَ العِبرانية، أو قال السريانية؟» فقلت: «نعم!» فتعلَّمْتُها في سبع عشرة ليلة." (الطبقات الكبرى لابن سعد). وساهمَ قُثَمُ (الذي أصبحَ "محمَّداً" فيما بعد) في إخراج نسخة عربية ضخمة عن كُتُب العِبرانيين تغربَلَت وتبلوَرَت وأعيدت صياغتها فيما بعدُ عبر مراحل لتصل إلى القرآن الذي بين أيدينا.
ربما ساهَمَ القائد قُثَمُ في صنع نواة البنية العسكرية التي شكّلَت فيما بعد الدولة الإسلامية. ولكنه مات قبل أن يستأثر بالحالة المحمدية (الرتبة المحمدية) والتي هي حالة تصورية مِخيالية مثالية لا يمكن لأحد أن يبلغَها، ولكنه نسبَ هذه الرتبة له منذ بداية نجاحه بفضل لجوئه إلى القوة والعنف. وفيما بعد، أي بَعدَ تشكُّل الدولة واستقرارها في دمشق، بدأ "اللاهوتيّون" العرب تحت إشراف رجال السياسة بإكمال رسم صورة الشخصية المحمدية وربما كرَدّ فعل على صورة الشخصية المسيحية المِخيالية المخَلِّصية (شخصية المسيح). وظهرَت السيرة النبوية على مراحل مزيجاً من سيرة القائد العسكري قُثَمَ التاريخية ومن الصورة التخيُّلية للشخصية التطَلُّعية الجمعية ("مُحَـمَّد"). أي أنهم ألبسوا قائدهم العسكري قُثَم شخصية المخلّص محمود الصفات الذي تفضَّلَ عليهم ورضوه سيّداً وقائداً رمزاً لهم.
#محمد_علي_عبد_الجليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة النباتية: كل حي شريك لنا في الحياة
-
من وحي الحَجْر الصحّيّ
-
سورة الوطن
-
حُكَّامُ العالَمِ
-
شاربُ الطِلا جَذِل
-
أتانيَ وحيٌ
-
أحِبّوا بعضكم بعضا
-
نفحات الويسكي
-
بلادي صارت مفروطة (شعر باللهجة العامية السورية)
-
نحن أبناء العرب
-
ألا هبي بخمرك أسكريني
-
أتدرون ما الدين يا إخوتي؟
-
الغزالي كارثة الإسلام
-
من أسباب تراجع الوعي الحضاري لدى العرب والمسلمين
-
في الخوف
-
يا خمرتي يا ربتي
-
أُصَلِّي إلى الراح
-
راحوا
-
تعالى ذكرها الأسمى
-
القلب يرشف خمرة في صمته
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|