/ كندا
سيسجل تاريخ الصحافة في العراق أن حزب البعث أجهز عليها مرتين، الأولى صبيحة انقلاب 8 شباط حين ألغى امتيازات (رخص) الصحافة المؤسسية وفي مقدمتها (البلاد)، (الأخبار) و (الزمان)، وهي مع تفاوت مستوياتها المهنية كانت قد خطت أولى خطواتها على طريق بناء المؤسسة الصحفية المتكاملة في ظروف تميزت بصراعات سياسية داخلية انعكست على الصحافة العراقية..
والثانية عام 1968، وهي الأكثر عمقا وتأثيرا في تاريخ المهنة لأنها امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، فبعد أن أكمل الإجهاز على الصحافة المستقلة حين ألغى ما تبقى من صحافة العراق الأسبوعية التي استمرت على الصدور بعد قرار تأميم الصحف اليومية سيئ الذكر، لجأ إلى البيت الصحفي المتمثل بنقابة الصحفيين العراقيين وإلى لعبة التحالفات السياسية ليتمكن من السيطرة على هذا البيت الذي هو الممثل الشرعي للمهنة الصحفية، وتمكنت السلطة من خلال صحفيين حزبيين غلبوا انتماءهم السياسي على انتمائهم المهني من السيطرة على العمل النقابي وتفريغه من محتواه على مراحل، وحين يتغلب الانتماء السياسي على الانتماء المهني يصبح كل شيء مشروعا أمام السياسي، فشهدت نقابة الصحفيين حملة (عضويات) ظلت تعاني منها حتى نهاية التسعينات منحت تلك (العضويات) لأفراد لا علاقة لهم بالعمل الصحفي، وكان الهدف إيجاد كثافة عددية لحزب السلطة لضمان فوز عناصره في الانتخابات النقابية، خلال تلك المرحلة انتمى للنقابة (إداريون) و (كتاب حسابات) و (موظفو استعلامات) وهلم جرا.
ورغم جهود مهنية بذلها زملاء - ما زال بعضهم داخل الوطن - للوقوف بوجهها، إلا أن التيار كان جارفا، وأصبح (النقباء) المتعاقبون مجرد ممثلين للسلطة لا للمهنة، ففتحوا الأبواب لكتاب الحزب بحيث أصبح عدد أعضاء النقابة نهاية الثمانينات بحدود 2800 عضو بينهم إعلاميون لا علاقة لهم بالعمل الصحفي، ومصورون وكتاب مناسبات يعملون في مجالات أخرى. هذا بالإضافة إلى ممثلين دائمين للأجهزة الأمنية والمخابراتية كانت عضوياتهم لا تعرض حتى على الحزبيين من أعضاء مجلس النقابة لضمان عدم كشفهم للآخرين، وكانت مهمتهم رصد الصحفيين وكتاباتهم وتدبيج التقارير للأجهزة.
وبسيطرة عدي صدام حسين على العمل النقابي تعرضت النقابة إلى عمليات دمج وتقسيم والتفاف أفرغتها مما تبقى من المحتوى المهني والقانوني، بحيث أصبح نائب النقيب في المرحلة الأخيرة ضابط أمن أو شرطة (كما قيل). وأعتقد أن هذه المقدمة السريعة ضرورية للوقوف على مستقبل المهنة الصحفية في العراق بعد التغيير
إعادة ترتيب البيت
إن أولى مهمات إعادة بناء الصحافة العراقية هي إعادة ترتيب البيت الصحفي وضمان المحافظة على الكيان المهني النقابي بعيدا عن أية سيطرة سياسية لأي حزب أو حركة، والتركيز على مهمة إعادة بناء المهنة من مختلف الجوانب حيث شهدت العقود الأخيرة انحدارا مهنيا سببته السياسات الدكتاتورية التي حولت الصحافة إلى نشرات دعائية، وقولبت الكفاءات المهنية في أطر حدّت من إمكانياتها العملية وجعلتها أسيرة عمل نمطي لم تشهد الصحافة العراقية مثيلا له منذ تأسيسها. إن أي قانون جديد لنقابة الصحفيين يجب أن يتضمن:
• تعريفا واضحا ومحددا لـ (الصحفي) لا يقبل أية تفسيرات لاحقة تغرق النقابة بعضويات الهدف منها السيطرة السياسية لهذه القوى أو تلك، خاصة وأن طبيعة المهنة الصحفية تجعلها مفتوحة على مختلف المهن.
• ضمان استقلالية العمل النقابي والعملية الانتخابية، واعتماد صيغة الترشيح الفردي فقط، لا صيغة (القوائم) التي غالبا ما يلجأ إليها جماعات سياسية، ويؤدي فوزها إلى جعل النقابة أداة بيد هذه الجماعات وتهميش الدور المهني لها.
• ضمان منع أية تدخلات من أية جهة حكومية، سواء كانت إعلامية أم أمنية أم مخابراتية في أعمال النقابة ولأي سبب كان، وحماية العضو النقابي من أجهزة الدولة أيا كانت، والتأكيد على عدم مساءلته عن أية قضية إلا بمعرفة النقابة وموافقتها وحضور مستشارها القانوني لجلسات المساءلة أو التحقيق.
• التفريق بين العمل الإعلامي والعمل الإعلاني، بحيث لا يحق للعضو النقابي ممارسة العمل الإعلاني للمؤسسة الصحفية من خلال توظيف عمله الإعلامي لذلك..
• تكريس النقابة باعتبارها الجهة الوحيدة المخولة في قضية تعيين المراسلين ومنع أجهزة الدولة من التدخل في هذه القضية، كما يحظر عليها ترشيح المراسلين للمؤسسات الإعلامية الخارجية، وتكون موافقة النقابة عبارة عن تأييد عضوية المرشح فقط، ولا تتدخل سوى في عملية تنظيم عقود العمل بما يضمن حقوق الصحفي لاحقا إن تعرض لأية إجراءات قسرية.
• تكون النقابة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن أي إجراء يتخذ بحق عضوها من قبل أية مؤسسة، ويتضمن نقله إلى مهنة غير صحفية.
• تحديد فترة رئاسة النقابة بدورتين فقط غير قابلة للتمديد، وعلى أن ينص القانون على عدم عرض أية مسودة للتعديل تعارض هذه الفقرة على الهيئة العامة وعدم الأخذ بها.
• تمويل النقابة من صندوق مستقل ينشأ لهذا الغرض، ويدار من قبل مجلس إدارة منتخب من الصحفيين، وتكون مصادر أمواله من نسبة تحدد على الإعلانات التي ترد للمؤسسات الصحفية والإعلامية ومن اشتراكات الأعضاء السنوية للحد من اعتماد النقابة على الدولة مما يخلق نوعا من التبعية يفرضه الدعم المالي.
العمل الصحفي، ملاحظات سريعة
أما ما يتعلق بقانون الصحافة النافذ وضرورة تشريع قانون عصري يتناسب مع المرحلة الجديدة، فأعتقد أن التفكير بإلغاء دور الدولة تماما في المرحلة الأولى غير واقعي، فالصحافة الآن صناعة ثقيلة تتطلب حجم استثمارات كبير. ومن خلال ممارستي للعمل الصحفي والنقابي لسنوات طويلة لا أعتقد أن المستثمرين العراقيين سيخوضون في هذا المجال مبكرا وبالسرعة التي تؤمن صدور صحف بالمستوى المطلوب، كما أن السماح للأحزاب السياسية بإصدار صحفها لن يحقق الرغبة بإيجاد صحافة مهنية متطورة، فالأحزاب غالبا ما تعتمد كادرها الذي يشكل أغلبه عبئا على الجسم المهني لأنه من غير المحترفين. كما أن هذه الصحف تهتم غالبا بالخطاب السياسي المباشر وتهمل الفنون الصحفية الأخرى كــ (الخبر) و (التحقيق الصحفي) و (الصورة الصحفية) و (الإخراج). ومن هنا فإن الصحافة الخاصة هي الصحافة التي يعول عليها في عملية التطوير. وأعتقد أن اعتماد صيغة (القطاع المختلط) في البداية سيكون الوسيلة الأنجح لجذب الاستثمارات لهذا الميدان. وهذه الصيغة تتم على أساس تشكيل شركات تساهم المؤسسات المصرفية أو المالية الحكومية فيها بنسبة لا تزيد عن 49% ، فيما يساهم القطاع الخاص عن طريق الاكتتاب ب 51% وعلى أن يحدد الحد الأعلى من الأسهم التي يحق للمكتتب وأسرته شراؤها كي لا تصبح سياسة المطبوع عرضة للتجاذب بين أصحاب الأسهم الكبيرة، ويعرض الشركات لمشكلات تؤثر على المطبوع. وقد يكون هذا المدخل حافزا للمستثمرين للدخول في ميدان العمل الصحفي، مع ضرورة التركيز في القانون المرتقب على توفير ضمانات قانونية للاستثمار تؤمن عدم جواز قيام السلطة الحكومية بإلغاء (الرخصة) الامتياز بشكل نهائي مهما كانت المبررات، لأن عدم توفر مثل هذه الضمانات سيجعل المستثمرين يترددون في الدخول لهذا الاستثمار كثير المخاطر..
أما الحديث عن الصحافة الفردية فيبدو متعجلا، فلا أعتقد بوجود أي صحفي عراقي يمتلك الاستثمار اللازم للإصدار اليومي بالصيغة التي تؤمن صدور مطبوع ناجح ومنافس، خاصة وأن سوق المستقبل الصحفية ستكون مفتوحة للمنافسة العربية والأجنبية، هذا إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن السقف الاستثماري للشركة أو الأفراد الراغبين بالإصدار اليومي يجب أن يحدده القانون، وتستثنى من ذلك الأحزاب السياسية. وبالنسبة للإصدار الأسبوعي فإن القانون الجديد يجب أن يتركه مفتوحا غير محدد بسقف، ويكفي أن يكون أصحابه من الصحفيين المحترفين الأعضاء في النقابة، كما يجب أن يتضمن القانون الجديد أيضا نصوصا واضحة حول التعامل مع الطبعات العراقية من المطبوعات العربية والدولية، إذ لا يمكن أن يبقى الباب مفتوحا، خاصة وأن الطبعات العراقية من هذه الصحف ستشكل منافسا قويا للصحافة العراقية الناشئة بالنسبة لسوق الإعلان من جهة وللمبيعات من جهة أخرى، وأن الصحف التي قد تلجأ لإصدار طبعات عراقية هي غالبا صحف معمرة لديها الإمكانيات الصحفية الفنية والمالية التي تجعل من الصعب على الصحافة العراقية الناشئة منافستها، وقد نظمت العديد من دول العالم هذه القضية. وبالنسبة للتجارب العربية فإن التجربة الأكثر وضوحا هي التجربة اللبنانية التي تنص على ضرورة تغطية الصحيفة برخصة (امتياز) محلي يكون المسؤول عنه صحفيا عراقيا نقابيا كما هو حال (جريدة الشرق) الأوسط اللندنية مثلا.
هذه ملاحظات أولية حول مستقبل العمل الصحفي المهني في العراق.. والتي لا يمكن تحقيقها سوى في ظل إطلاق الحريات الصحفية والمحافظة على الجسم النقابي باعتباره مرجعية مهنية لا تخضع لأي تيار سياسي.