|
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع المكان والزمان والهوية الإيديولوجية للتطور الحضاري الجديد وشروطه 1-3
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1581 - 2006 / 6 / 14 - 10:44
المحور:
القضية الكردية
أردنا من خلال تحليلنا لحضارة الشرق الأوسط تسليط الأضواء على عدد من النقاط الهامة، لأن تقييماتنا كانت معقدة ومتشابكة فمن الأنسب أن ننوه إلى هذه النقاط مرة أخرى: أ ـ سيؤدي البحث عن الأصول التاريخية للحضارة الأوروبية ضمن الحضارة الإغريقية الرومانية إلى قصور ومغالطات كبيرة، لأن تطور الحضارة الإغريقية الرومانية يمثل الشكل الأخير للمرحلة العبودية للشرق الوسط، وهي بعيدة عن ان تعبر عن الجوهر. إذ أن المنبت الأساسي لها هي الحضارة السومرية بالدرجة الأولى ويليها المجتمع الطبقي المصري في الدرجة الثانية، ولأن السومريين يمثلون الأصل فإن تحليل حضارتهم يكتسب أهمية بالغة، لا يبدأ التاريخ مع السومريين فحسب، لكنه نظراً لان التطور قد حدث ضمن اتجاهين رئيسيين فإنه يبدأ كذلك مع انقسام المجتمع إلى مسيطر ومسيطر عليه وإلى مستغَل ومستغِل وإلى ساحق ومسحوق. وسيتطور التاريخ لاحقاً في هذين الاتجاهين الرئيسيين: الشرق مع الغرب والمستغَلين مع المستغِلين، وهكذا فالذي يلعب دوراً هاماً في الفصل بين الشرق والغرب هو الاستثمار المديني والزراعي، حيث أرغمت الزراعة على التلاؤم مع التطورات التقدمية التي شهدتها المدينة، وبذلك يستمر التناقض الذي بدأ بهذا الشكل حتى أيامنا الراهنة. فبينما كانت الحضارات ذات المنبع الغربي تلعب دورأً مركزياً في تطوير التجارة والحرف والنظام الديني والدنيوي الذي يعتمد على المدينة، كانت الحضارات ذات المنبت الشرقي تعتمد على الزارعة والرعي والعشيرة والإمارات الزراعية التي تأخذ من القرية والقصبة أساساً لها. ب ـ إن التحديد السليم لانعكاسات التطور ضمن هذا النمط بأشكال التعبير الإيديولوجية، يشكل مسألة هامة جداً، حيث يتضمن الانعكاس الإيديولوجي الموجود في المنبت السومري على الأشكال التي يجب التوقف عليها مطولاً، فبدون تحليل البنية الإيديولوجية للحضارة السومرية لا يمكن الوصول إلى تقييم سليم للدين التوحيدي والإيديولوجية أو للأشكال الإيديولوجية للفلسفة ولا حتى لنمط الفكر العلمي، إذ لا يمكن إجراء تعريف قطعي للإيديولوجيا ولنمط واقعي إلا من منبتها الأصيل. وبدون الاستناد الى ذلك فإن اعتماد تاريخ الأديان واعتبار أن الفلسفة عريقة وقول "لا يمكن وجود الحقائق إلا في العصر العلمي" سيؤدي إلى الوقوع في الأخطاء والإنقطاعات الكثيرة، وبالتالي إلى وضع هذه البنى الذهنية التي غطت التاريخ من أوله إلى آخره مكان الحقيقة، وكما تضمن التاريخ عيوباً عامة كذلك وقعت الممارسة تحت تأثير هذه الشذوذ وبالأحرى تحت تأثير غرائب كبيرة. ولربما يعد القرن العشرين الذي حاول إدراك هذه الحقيقة من أكثر القرون التاريخية دموية، وإذا كان لا بد من اعتراف للقرن العشرون فإنه سيكون على شكل إظهار نظرته إلى التاريخ معززاً ذلك بالعلم وكيفية تأثيره على البشرية، قد لا تكون كافة القرون الماضية في وضعِ يؤهلها لان تقدم نقداً ذاتياً لمحدودية الإمكانيات العلمية، لكن هذه الإمكانيات كانت متوفرة جداً في القرن العشرين لتقديم نقد ذاتي، الا ان اتجاه هذا القرن نحو الهجوم والعدوان وفتح الطريق أمام قرن مليء بالعنف بدلاً من الإدلاء باعتراف ونقد ذاتي كبير يعتبر أكبر جريمة اقترفها هذا العصر، ولن تستطيع الإنسانية أن تنقذ نفسها من كونها ألعن نظام اجتماعي، ما لم تقم بتحليل القرن العشرين وتعترف بجريمته وتقوم بإجراء نقد ذاتي له عن طريق ثورة أخلاقية كبرى، ولا يمكن أن تتطور الحضارة الجديدة إلا عن طريق تحليل هذا المجتمع الملعون. ج ـ توجد أربعة أشكال فكرية ترتبط فيما بينها برابطة ديالكتيكية وفي جوهرها تعكس تاريخ المجتمع الطبقي، يبين هذا الانعكاس وجهة نظر الفئة المستغلة المهيمنة باعتبارها تشكل الأساس، مقابل ذلك هناك فئة الطبقات المسحوقة والمحكومة التي لم تتردد لحظة في مواصلة خلق نمطها الخاص غير الرسمي والذي أضطر إلى أن يبقى متخفياً. كانت الميثولوجيا المعتمدة على السماء هي الشكل الإيديولوجي الأول الذي أبرزته الطبقة المهيمنة؛ بعبارة أكثر دقة بينما كانت صفات السماء المتمثلة بالمجد والسمو تتطور كصفات للطبقة المهيمنة، كان يتم التنبؤ بالجحيم والانحطاط والسفالة كصفات للطبقات الدنيا. لقد لعب الكهنة السومريون دوراً مصيرياً في تحويل الشكل الفكري للميثولوجيا "حكايات، أقوال" من مرحلة الطفولة الإنسانية إلى الشكل الأكثر براءة لصالح الطبقة المهيمنة، فالطراز الكهنوتي السومري قد وضع بصمته على الأشكال الفكرية اللاحقة، إذ أن هذا الطراز مرتبط بشكل وثيق مع تشكل المجتمع الطبقي. وبالرغم من أن كافة شخصيات الآلهة المسيطرة وصفاتها كانت في البداية تمثل الطبيعة، الا انه تم اختزالها تدريجياً إلى خصائص الطبقة المهيمنة، كما تعتبر الآلهة السومرية مصيرية في مسيرة البشرية نحو تشكل الأديان التوحيدية؛ كلما تم اتجاه التطور من دويلات المدن إلى النظام الإمبراطوري نجد تقلصاً في عدد الآلهة حتى يصل في النهاية إلى الإله الواحد، ويتم استخلاص الخصائص الاجتماعية من الخصائص الطبيعية. تطورت الديانة التوحيدية وتغيرت مع تطور مجتمع المدينة. إذ أن ذلك يتلاءم يتناسب مع طابع المجتمع التجاري أكثر من غيره، ويعد هذا محطة هامة في التطور الفكري من ناحية المصطلح والهوية، حيث حاول المجتمع التجاري الذي كان يشعر بالحاجة لقواعد تعُينه على تحقيق الأمن وقواعد التغيير أن يسد هذه الحاجة من خلال تحويل الميثولوجيا إلى دين، وإذا لم يكن قد أظهر الحكم القطعي، فذلك لأنه اعتمد على المقولات الميثولوجية التي لم تكن تمتلك قيمة الحكم الذي يمتاز به القانون أو الدين، بل كانت أكثر انسجاماً مع المجتمع الزراعي، ومع اكتساب التطور أهمية كبرى أشعر التجار لضرورة قيام العقائد والدين اللذين يمتلكان حكماً قطعياً. إذ تحمل قواعد الدين ذات الحكم المطلق قيم القوانين التي تعتبر الانسجام معها وإطاعتها والاعتقاد بها أمراً ضرورياً، أن هذه الخاصية تسهل الأعمال التجارية إلى أبعد حد، لذا لم يكن مصادفة أن تتطور الأديان التوحيدية بالاعتماد على القبائل السامية التي كانت تعمل بالتجارة بين الحضارتين السومرية والمصرية، بل هو مرتبط بهذه الحقيقة، فلقد تم تنظيم الأشكال الرسمية للدين والميثولوجيا حسب مصالح الطبقة المهيمنة المستغلة، وكان دور الطبقات المحكومة والمستغلة في هذا الإنجاز ضعيفاً جداً ويتوجب عليها أن تتمثلها وتنصاع له حسب الشكل الذي يقدم إليها. د ـ مقابل هذه التطورات فإن كافة الفئات التي أصبحت تحت وطأة نظام الاستغلال قد نظرت دائماً إلى الميثولوجيا والدين نظرة شك، واستندت على المجتمع النيوليثي في مصادر الدين الأم، حيث نجد أن دين الإلهة ـ الأم للمجتمع النيوليثي مارست تأثيراً عميقاً على كافة الأشكال الفكرية الباطنية" الصوفية" التي أتت لاحقاً. وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الأشكال الدينية تعكس ردود فعل الطبقات المسحوقة من جهة، كانت من جهة أخرى تعكس جنسيتها النسوية وخصائص الحياة الخاصة بها ودينها المعتمد على الطبيعة والعلاقة الحميمة بين الإنسان الإله وطابعه المسالم. حيث كان يمتلك موقفاً أكثر علمانية وأكثر دنيوية. لقد حاولت كافة طرق ومراكز العبادة الباطنية عبر التاريخ الوقوف إلى جانب الفئات المسحوقة وإلى جانب المرأة ومعتمدة على المساواة، لكن هذه الطرق لم تتخلص من تحولها الى موضوعاً للاستغلال والاستثمار، حيث لعبت التقنية المتخلفة وعدم تطور الفكر العلمي دوراً أساسياً في ذلك، يمكن النظر إلى هذه الطرق بشكلها الخام على أنها كانت تمثل قوة المعارضة باسم الطبقات المسحوقة في العصور القديمة والوسطى. وعلى الرغم من الانتشار والامتداد الواسع في التاريخ، إلا انها عانت من الملاحقات والآلام والتحريفات كثيراً بسبب تشتيت طليعتها عن طريق التعذيب القاسي أو بسبب بيع هذه الطليعة في سوق النخاسة. لكن الحقيقة الواضحة تؤكد أن الطرق والمذاهب المعارضة اعتباراً من المجتمع النيوليثي وحتى يومنا هذا قد عكستا عقائدهما ومقاوماتهما نمط حياة الفئات المحكومة والمسحوقة. هـ ـ لقد تزامن شكل الفكر الفلسفي مع مرحلة تطور مجتمع المدينة وفائض الإنتاج. ففي الوقت الذي تكتشف الممارسة الاجتماعية قوى الطبيعة والمجتمع، يصعب تدريجياً إشباع الفكر الإنساني بالميثولوجيا والدين، وتتولد الحاجة لشكل فكري أكثر إقناعاً. إذ تصبح العديد من الأحكام الدينية والميثولوجيا مدعاة للسخرية. فعندما تنكشف ماهية الأرض والسماء وعندما يجد الإنسان بانها خالية من الآلهة التي كان السابقون يعتقدون بوجودها هناك، يصبح من الضروري استيعاب قوانين الطبيعة، ويبدأ الفكر الفلسفي بطرح الكثير من الأسئلة مثل: لماذا خلق الكون..؟ ما هي مادته الأولى..؟ وكيف تشكل كل هذا التنوع..؟ وعندما يدرك بأن الملوك ليسوا آلهة وأن القوانين وضعت بما يتناسب مع مصالحهم يصبح التفكير الفلسفي للمجتمع أمراً ضرورياً. يمثل الفكر الفلسفي بخاصيته هذه المرحلة الثالثة الأكثر تقدماً في تاريخ الفكر بعد الميثولوجيا والدين، ويلعب دوراً انتقالياً بين العلم والدين. فالفلسفة تفتح الطريق أمام وصول شكل الفكر الديني إلى مستوى أكثر عقلانية، أي تمهد السبيل أمام الثيولوجيا "علم اللاهوت" هذا من جهة، ومن جهة ثانية تمنح القوة والعزم للعلوم الطبيعية التجريبية، وكلما تطور العلم تعمل الفلسفة على تطوير طراز التعبير العام للعلم الذي بقي ناقصاً وعلى تطوير قوانينه، ويتم استخدام الفلسفة كما الدين والميثولوجيا لصالح الطبقة المهيمنة، لكن موقفها القريب من الواقع الطبيعي لا يسمح باستخدامها بنفس الدرجة التي استخدام فيها الدين والميثولوجيا. لقد هيئت الحضارات المتطورة جواً مناسباً لتطور الفلسفة، وكما أن تكامل الفلسفة مع الأديان الرسمية يفتح الطريق أمام الثيولوجيا كذلك تكاملها مع الطرق الصوفية يقربها أكثر من الطبقات المسحوقة، ولكن تكامل الطرق الصوفية من الفلسفة أكثر بكثير مع تكاملها مع الدين الرسمي عموماً، إن الاتحاد مع الفلسفة أسهل بكثير بسبب تكامل مصالح الطبقات المسحوقة مع الحقائق، لهذا السبب استخدمت الطرائق في العصور الوسطى ولاسيما الباطنية منها، الفكر الفلسفي كسلاح قوي بيدها، هكذا أتت ولادة الفكر العلمي من وجود هذا النوع من الطرق والمذاهب. و ـ يتقدم الفكر العلمي كلما تأكدت معرفة الطبيعة والمجتمع لدرجة لا تكون فيها بحاجة لتدخل خارجي، وكلما تم إثبات الأفكار بالتجربة، وهذا مرتبط بتطور الممارسة الاجتماعية، كان ذلك المجتمع معقداً، ومدينياً وتجارياً وصناعياً كلما اشتدت حاجته لنمط الفكر العلمي. إذ يوجد بين العلم والمجتمع رابطة قوية جداً، وفي الوقت الذي تستفيد فيه الطبقة المهيمنة والمستغلة من قدرات العلم الإنتاجية فإنها تتجنب الجانب التنويري من العلم لأنه يضر بمصالحها، وتلجأ إلى الأشكال الإيديولوجية التي تحكم على الإنسان أن يعيش في الظلام. لهذا السبب فإن نمط الفكر العلمي بهذا الاتجاه مستمر كمصدر خطر بالنسبة للطبقات المسحوقة لأنه لا يشكل بمفرده عامل تحرر لهم. إذ أن النظام الطبقي للعلم حاسم، حيث يختلف تأثير العلم المرتبط بطابع المصالح الطبقية على الفئات الاجتماعية، ومع ازدياد المصالح الطبقية تزداد السيطرة والانحلال على المجتمع والبيئة، وعلى العكس فالطابع التقدمي للقوة الاجتماعية الحاكمة المرتبطة بالمصلحة العامة تفسح المجال أمام إمكانيات العلم المنتجة الدافعة إلى التحرر وقدرته على المساواة. ز ـ يعتبر نظام الفكر الغربي نتاجاً لهذه الأشكال التاريخية وواصل تطوره حتى يومنا هذا بتحول مميز، فنمط الهوية الأيديولوجية السومرية الذي مر بحضارتي الأناضول والإغريق،تتحلى في جوهرها بالتحول وبمنح إمكانية الحرية المحدودة وكذلك بعدم التحكم تماماً بإرادة الفرد. لقد اقتربت عبادة زيوس التي كانت سائدة بين أعوام 1500 ـ 500 ق.م من الشكل الإنساني، ولم تكن لقضية الخوف والأمل المرتبطة بالإله أي معنى أكثر من أنهما يتركان أثراً معنوياً؛ تعبر عن الواقع الطبقي غير صارم، وكانت الطبيعة تتسارع في استقلاليتها عن الإرادة الإلهية وترسخ المفهوم القائل بأن قوانين المجتمع هي نتيجة لإرادة الإنسان. فبينما كانت الطبقات المهيمنة تتمثل بعبادة زيوس، كانت عبادة ديونيسوس الشعبية تمثل التمايز الموجود في المجتمع، إذ أنها كانت تعكس التمايز الموجود بين الآلهة عموماً، وحل الفكر الفلسفي محل الميثولوجيا عموماً بعد أعوام 500 ق.م، حيث تنور الفرد عن طريق الفلسفة واكتسب إرادة قوية، وبالإضافة للعبودية التي كانت منتشرة في الثقافة الشرقية فقد رسم وجهة معاكسة ومختلفة، لقد تعمق أول انقطاع جاد بين شخصيتي الشرق والغرب مع الإغريق، أما الانقطاع الحقيقي فقد حققته ميديا. كما ان أول تمايز بين الشرق والغرب ظهر في شمال غرب إيران وفي بلاد ميزوبوتاميا العليا، حيث استمد التقليد الزرادشتي قوته من جعل هذا التمايز ممكناً. يزداد في مرحلة الحضارة الرومانية ضعف الإرادة الإلهية مع تقدم الطابع العلماني، وتمهد فلسفة الطبيعة الستوائية (الرواقية) بطابعها الكوزموبوليتي الطريق أمام المسيحية، إذ تشكل التفسيرات التي قدمتها الفلسفة الإغريقية للنصوص اليهودية المقدسة، الأساس الفلسفي للاعتقادين المسيحي والإسلامي، وفي الحقيقة لقد شكلت الكنيسة التي كانت تزعم بأنها تمثل السلطة الإلهية مقابل السلطة الدنيوية خلال أعوام 500 ـ 1500 م، الأساس الإيديولوجي للنظام الإقطاعي في العالم الغربي. ويفتح نمط الفكر الشرقي الباب أمام تحولات جذرية في البنية الأخلاقية والفكرية للمجتمع الأوربي الذي يعيش في المرحلة البربرية وذلك أثناء مرحلة السيطرة الأخيرة. وهنا يتم الدخول في صراع قاس ومرير مع الطرق والمذاهب التي تعتمد على الشعب، بهذا الشكل ابتعدت العيسوية عن حالتها البريئة الأولى وتكاملت مع مصالح الطبقة المهيمنة، كما ازدادت سرعة العصر العلمي اعتباراً من أعوام 1400 م، حيث يترك طراز الفكر الثيولوجي اللاهوتي ويتم اختزاله إلى مجرد سلوكيات أخلاقية، وفي هذه الفترة تستقل جميع الذهنيات الغربية عن الدين وتتطور اعتماداً على قدراتها الذاتية، هذه النقلة جلبت معها خروج الفرد من إشراف المجتمع بشكل غير متوازن، وجعل الفرد مغرماً بذاته أكثر من اللازم وفتح الطريق أمام مرض معاكس للدوغمائية، وهكذا يعتبر الفرد الرأسمالي نفسه صاحب قوة تضاهي قوة الآلهة الملوك السومريين على الأقل، فبدأ يؤله نفسه بطريق مختلف أي أنه وضع نفسه في مكانة فوق المجتمع، وهذا ما يشكل المرض والخطر الأساسي الموجود في الثقافة الغربية وما من دواء لهذا الداء حتى الآن. اتجهت الفئات الاجتماعية المسحوقة والمستغلة الغربية في هذه المرحلة نحو إيديولوجية تعتمد على الجانب العلمي، أي نحو الاشتراكية. إذ باتت الاشتراكية تشكل الهوية الإيديولوجية الجديدة للطبقات المسحوقة، غير أن خروجها من كنف المجتمع الطبقي وخاصة عدم تخلصها من التأثير السياسي وعدم تحويل شخصيتها ونمط حكمها إلى مؤسسات، بل عكس ذلك بناءها المشابه لمؤسسات الطبقات الحاكمة، كل هذه الأسباب أدت إلى انحلالها بعد فترة قصيرة، فعملية خنق أو تجسيد الكثير من التشكيلات المشابهة في العصور الأولى والوسطى من قبل أنماط الطبقات المهيمنة التي قادتها، قد تكررت مرة أخرى في تطبيقات الاشتراكية المشيدة. ح ـ رسم مسار الفكر الشرقي خط سير مختلف، فإما أله نفسه، أو أظهر تحول نحو الدين التوحيدي الذي أصبح قوياً جداً، إذ كان تحول الدين التوحيدي في فكر الشرق الأوسط انعكاساً لتمركز القوة الاقتصادية والسياسية، وبتحويله إلى قوانين قاسية ومطلقة يجب إطاعتها على أنها معتقدات وأوامر إلهية، لعب دوراً هاماً في تراجع الشرق الأوسط والشرق عموماً، بهذا الشكل تطبع الشرق بنمط شخصية أكثر تخلفاً حتى من السومريين. إذ لم تكن الآلهة السومرية صارمة ولم تمتلك قوانين لهذه الدرجة، فلم يخلق الإيمان أية عقوبة أو إحباط في المعنويات، وربما يمكن الحديث هنا عن مفهوم ديني إلهي أكثر مرونة وإنسانية من مفهوم الإغريق، لكن التصلب الحقيقي بدأ باستيلاء العموريون ذوي الأصول السامية على المدن السومرية، وجلب المسار الأكادي البابلي الآشوري معه التوحيد في المفهوم الديني والإلهي مع تحقيقه القوة الاقتصادية والسياسية على قاعدة من العنف المتطرف، أي جلب مفهوم الإله الحاكم الذي يعاقب. واقتضت التجارة التي ازدادت أهميتها، إيجاد قوانين قاسية. كما ان لاتحاد القبائل إسهام هام في هذا التطور، إذ أن الاعتقاد بالإله (إيل) الذي يعتبر الإله المشترك للقبائل ذات الأصول السامية يظهر تطوراً يبتدئ مع النبي إبراهيم وينتهي مع النبي محمد الذي وصل إلى مصطلح "الله" القوي المتصف بـ 99 صفة، حقاً إن الله هو انعكاس فكري لمركزية القبائل التي استمرت عشرة آلاف عام على الأقل في شبه الجزيرة العربية. فقد مر بالعديد من المراحل حتى تحول إلى رمز قوي للقبائل السامية بشكل عام، ووصل إلى الذروة مع النبي محمد. حيث أخذ شكله النهائي باعتباره هوية إيديولوجية لمجتمع التجار، وهو إله يتميز بجانب قومي يعد أعلى انعكاس إيديولوجي للقوة الاجتماعية للساميين والعرب. بالإضافة إلى استخدام مصطلح الله باعتباره إلهاً، كتعبير عن قوة الطبيعة، فقد كان تمثيلاً إيديولوجيا على أعلى المستويات للقوة الاجتماعية، لقد كانت الخصائص الاستعبادية والتحررية للمصطلح متداخلة فيما بينها، فدفع بالبشر إلى الوقوف ضد عبودية العصر الأول عن طريق انسلاخهم عن مصطلح الإله الملك، وارتبطوا بفكر إلهي مجرد، إذ أن هذا الارتباط مقارنة مع عبادة الإله الملك يعد خطوة تقدمية في سبيل خدمة قضية التحرر، لكن بتقويته لفكرة العبودية بشكل عام فقد نظم طراز التبعية الموجود ضمن شروط النظام الإقطاعي، على مستوى جديد. واعتبرت الهوية الإيديولوجية الأساسية للنظام الإقطاعي الذي أصبح قوياً في العصور الوسطى، كما تم التعبير عنها على أنها أفضل طراز يتناسب مع مصالح طبقة التجار الذهنية والمادية، تلك الطبقة التي أصبحت طبقة حاكمة في المجتمع العربي، فاعتمد النبي محمد في تطويره لمصطلح الله باعتباره إلهاً على الفكر الفلسفي الإغريقي والفكر الديني اليهودي والمسيحي، لكنه كان يمثل القوة التي حققت تحولات فرضتها الظروف الاجتماعية، حيث يمثل الله البيان الإقطاعي للعصور الوسطى ويشكل قانونه وبلاغه الأساسي. إن لإعلان النبي محمد عن الإسلام كآخر دين تعبير عن نظرة مستقبلية هامة جداً، وبذلك يبين بأن عصور الأديان والآلهة قد ولى، وإن مصطلح الله عند محمد ليس قريباً من الدين كما يعتقد، بل هو أقرب الى العلم والفلسفة، ويشاهد أن الصفات التي أعطيت "لله" مثلاً أقرب للإنسان من حبل الوريد وهو أزلي، ابدي، وان نعته بـ ((لم يلد ولم يولد)) وصاحب كل شيء، جميعها صفات قريبة من قوانين الديالكتيك، كما يعرف بأنه محصلة قوانين الطبيعة والمجتمع، بذلك تجاوز منذ زمن بعيد حالة الجمود أو مرحلة الآلهة السومرية والإغريقية التي كانت قائمة على استثمار المرأة، والتي كانت تحول البشر قسراً إلى خدم وعبيد. كما وصل إلى وضع صار يمثل فيه قوة القانون الاجتماعي الشامل الذي ترسخ واصبح قوياً، فمن الواضح أنه بات يمثل خطوة تقدمية هامة. إن مناقشة موضوع "هل الله موجود أم لا " التي استمرت منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا، ما هي إلا تحريف وهدر للوقت، فمن الخطأ تناول المشكلة بهذه الطريقة، بل كان من الأجدى تطوير مناقشة بناءة حول ماهية الانعكاس الاجتماعي للإله، وماذا يمثل..؟ وما هي مراحل التطور التي مر بها..؟ وفي النهاية إلى ماذا سيتحول..؟ أما باتجاه الشرق الأقصى، فإن الجواب المعطى في الصين والهند هو فكرة الإله ـ الملك وعبادته. بينما في الغرب تم إنزال الإله إلى الأرض وتقريبه من البشر عن طريق مشاركته في حياتهم، وأدى هذا في النهاية إلى المنهج العلمي والديمقراطي. وفي الشرق الأوسط تم تسليطه على رقاب المجتمع كسيف ديموقليطس بسبب نشوءه المتجذر القوي. كما تم تمكين وترسيخ السلطة الإيديولوجية للطبقة المهيمنة عن طريق تحويله بما يتناسب وشروط النظام الإقطاعي في القرون الوسطى. ويعبر التفسير السني للإسلام عن الثيولوجيا الرسمية ويمثل طبقة التجار الصاعدة والأرستقراطية الزراعية. ومقابل ذلك فإن كافة الطرق والمذاهب كالباطنية والشيعية والعلوية التي تسترت خلف قناع أهل البيت، تمثل تفسير الطبقات المسحوقة المستغلة. وتشكل هذه التيارات الشبه السرية التي ترجع جذورها إلى المجتمع النيوليثي، شكل النضال الطبقي والأثني في العصور الوسطى، ولقد تشكل النضال القومي والطبقي الخاص بالعصور الوسطى تحت ستار هذه الطرق، وبالرغم من النضالات الكبيرة التي خاضتها والتأثيرات التي أحدثتها، لم تتمكن من الاستمرار بسبب عدم تبلور التشكيلات الطبقية لذلك العصر، كما لعبت المجازر والانحرافات دوراً في ذلك. الإسلام الذي يشكل أساساً للبنية الذهنية في الشرق الأوسط أو ما يمكن أن نسميه بمرحلة النضج الممتدة ما بين القرنين الثامن والثاني عشر، قد دخل مرحلة تراجع كبيرة بعد القرن الثاني عشر، ففي حين كانت توضع أسس العلم وعصر النهضة في الغرب، كان الشرق يدخل في مرحلة تعصب ورجعية من الناحية الذهنية، وساد نمط حياة خالٍ من المبادئ ولا يعتمد إلا على القوة العسكرية، ولم يكن يستند إلى أي مبدأ معنوي فلسفي، وقد استطاع الإسلام الذي تكامل مع إمارات الحرب الإقطاعية أن يمارس تأثيره حتى يومنا هذا. ط ـ أدى هذا الوضع العام إلى قيام ثورة إيديولوجية. لكن يجب ألا ننسى بأنه وفضلاُ عن تخطي كافة التيارات اليمينية واليسارية المعاصرة للشخصية والهوية الإيديولوجية للعصور الوسطى، فإنها لم تنج من الزيف والتصنع، وحرب الهوية الإيديولوجية للشرق الأوسط لازالت قائمة كما هي. ولانها لم تستند على تخطي شخصية العصور الوسطى والهويات الذهنية للتعصب القومي، الشيوعية، وحتى الإسلام الجديد، التي مرت بها، لم تكن قادرة على تمهيد السبيل امام التجريد. وهكذا فإن من متطلبات الشرق الأوسط وقبل كل شيء هو الانفصال عن الشخصية والهوية الإيديولوجية الرجعية. وبدون إنجاز هذا لن يكون سوى إضافة امرأة برجوازية الى الحرم الإقطاعي، وهذا ما تم عمله نوعاً ما، حيث بدا واضحاً فشل نتائجها منذ مائتي عام. ما أردنا القيام به في تحليلنا للحضارة هو الإسهام على أقل تقدير في طرح وإظهار المسألة بشكل صحيح. وحتى هذه المحاولة ظلت في مستوى التعريف، إذ أن عدم تعريف الشرق الأوسط ضمن الشمولية التاريخية، لن يؤدي إلا إلى إضافة مشاكل جديدة للمشكلة التي سيتم تناولها. لقد برهنت الحرب العراقية ـ الإيرانية، الحرب العربية ـ الإسرائيلية، الصراعات العربية ـ العربية، التراجيديا الأرمنية والتراجيديا الكردية مع الجميع، وحتى أبعد من التراجيديا، بشكل كافٍ على أنها حروب حطت من كرامة الإنسان، لكون مشاكل المنطقة مرتبطة فيما بينها كحلقات سلسلة، لذا يمكن تحقيق الخطوة الأولى إذا كانوا مجتمعين وقاموا بتحليل سليم للأسس التاريخية، لقد فاقمت الحركات القومية والإسلامية والتيارات اليسارية التقليدية من تأزم هذه المشاكل، ورغم ذلك يمكن التوصل إلى حلول جديدة عن طريق تجاوز هذه التيارات. فالنتائج التي توصلت إليها تحليلاتنا قد تجسدت على شكل حركة ديمقراطية تعتمد على العلم والتقنية، وذلك بتطهير خيارات هذه الشعوب ـ التي بقيت تراوح في مكانها منذ المجتمع النيوليثي، والتي تعتبر تياراُ اقرب ما يكون الى حرية ومساواة الحضارة الديمقراطية ـ من الرواسب الطبقية التاريخية وتشكيلها من جديد بالمعنى المعاصر. التاريخ الذي بدأ بالأرض التي أنجبته وبالشعوب التي تعيش فيها، قد رسخ في يومنا الراهن كأمل كبير في ان يتجه من جديد نحو حضارة جديدة، حضارة تتخذ الحرية والمساواة اساساً لها، كما ان احتضانها بطموح النهضة وتحقيق النجاح فيها، جديرة بتحمل كافة الآلام التي تصادفها.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الرابع
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال
...
-
من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال
...
-
من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
المزيد.....
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال
...
-
البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن
...
-
اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
-
البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا
...
-
جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا
...
-
عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س
...
-
حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|