أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد قنوت - من حلم الدولة إلى دولة الخراب















المزيد.....

من حلم الدولة إلى دولة الخراب


خالد قنوت

الحوار المتمدن-العدد: 6543 - 2020 / 4 / 21 - 14:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


اول مرة رأيت دموع والدي الصلب جداً كانت عند سماع خبر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر يوم 28 ايلول 1970. اصابني الهلع و الارتباك, و قد كنت طفلاً, صورة ذاك الرجل الطويل الضخم ذي الصوت القوي و الصارم يجلس على الاريكية و هو ينتحب و يبكي رحيل الزعيم العربي صاحب الآمال العريضة و الاحلام الوردية و الخطاب المفعم بالعاطفة و السخرية من أعداء مشروعه القومي الكبير.
كثيراً ما ابتعدت عن سرد امور شخصية أو عائلية للعلن و لكن تناولي لسيرة حياة رجل عصامي كان من اوائل المنتسبين لصفوف الجيش الوطني السوري بعد الاستقلال ثم مساهماته في هيكلة جهاز الشرطة في سورية (و كان اسمه الدرك آنذاك) على النمط الفرنسي بعد أن اوفد من قبل حكومة الاستقلال السورية للدراسة في الكليات العسكرية في فرنسا, يأتي ذلك في سياق مرور ذكرى استقلال سورية من الاحتلال الفرنسي عام 1946 الذي مر قبل يومين و سورية اليوم محتلة من قبل خمسة احتلالات و بعض الميليشيات الطائفية المحلية و العربية و بعض الشركات الأمينة العالمية, لأثني و بحرقة على رحيل والدي قبل أن يشهد أو يرى الى ما وصلت اليها سورية اليوم.
ذكرى والدي انعشها مرور ذكرى قصف قوات الاحتلال الفرنسي لدمشق و استهداف مبنى البرلمان في 29 أيار سنة 1945 و قلعة دمشق التاريخية و كانت تسمى سجن القلعة بتاريخ 3 حزيران 1945 (للمفارقة أن مدفعية الاحتلال الفرنسي تمركزت على تلة تشرف على منطقة الربوة قرب جيل قاسيون و التي بنى عليها حافظ الأسد قصر الشعب) قحينها كان والدي متطوع بسلك الدرك برتبة رقيب و كان يخدم بالقلعة و التي عاد بعد سنوات ليكون مديراً لها بعد الاستقلال.
عندما كان يعود من عمله بعد ظهر كل يوم و يغير ملابسه الرسمية كنت انظر إلى ساق إحدى قدمه ليظهر لي انها مشوهة و آثار معالجتها واضحة, لم يفسر لنا كيف و لماذا هذا التشوه و لكن عندما كبرت قليلاً سألته فقص علي جزءاً من تاريخه الشخصي و كيف أنه اصيب بشظية قنبلة فرنسية استهدفت قلعة دمشق حيث كان رقيباً في الدرك و قد هشمت عظم الساق و عندما نقل للاسعاف اشار احد الاطباء المسعفين بأن بتر الساق لابد منه أو أنه ارتأى أن بترها افضل في ظل تلك الظروف الصعبة. عندما سمع والدي ذلك, سحب مسدسه و لقمه و قال للطبيب: "إذا كان بتر الساق هو الحل النهائي فأني أفضل الموت, و الآن" صوت والدي القوي وصل لأحد الاطباء المعالجين الذي عاين الساق المصابة و رأى أن هناك امكانية لعلاجها و لكن هذا سيتطلب وقتاً طويلاً فوافق والدي دون تردد.
في ظل دهشتي من قصة والدي التي لم يحدثنا بها مسبقاً, اخذ يضحك و هو يقول: "لقد كانت تلك الاصابة فرصة لتحول كبير في حياتي, فلقد تقدمت لدراسة البكالوريا و ذهبت للامتحانات الرسمية على عكازين و نجحت و بعد أن انتهت فترة العلاج الطويل دون أن تؤثر على شكل و قدرتي على المشي و الركض و إثر اعلان الاستقلال عن فرنسا تقدمت بطلب للالتحاق بالكلية الحربية و كنت في عداد الطلاب الضباط في ثاني دورة عسكرية بتاريخ الجيش السوري بعد الاستقلال".
تاريخ والدي الطويل كضابط في القوات المسلحة السورية ثم كمدير عام مدني في وزارة الدفاع لأكثر من أربعين عاماً, قد يكون تكراراً لتاريخ أي مواطن سوري عاش زمان الاستقلال و زمان الصراعات السياسية ثم الانقلابات العسكرية حتى وصول حزب البعث, لكن تميز سيرته التاريخية أنه كان وفياً للقسم الذي كان متبعاً في الدورات العسكرية آنذاك, حيث يقسم الضابط على عدم الانتساب لأي حزب سياسي فانتماؤه هو للوطن و للدولة السورية و ليس لأي تيار سياسي مع أني كنت أدرك ميوله للقومية العربية.
خلال خدمته مع نشوء الدولة السورية, كان شديداً و حاسماً بشهادة من عرفوه و كان حراً و سليط اللسان و لا يقبل بالارتكابات الخاطئة و كان لديه قناعة بأن حقيبته كانت دائماً حاضرة معه عند صدور أي أمر عسكري بالنقل لذلك كانت مساحة خدمته العسكرية قد مسحت كامل الجغرافيا السورية ما عدا منطقة الساحل السوري. خدم في دمشق و ريفها و على الجبهة الجنوبية و في القامشلي و حلب و دير الزور. قبيل انقلاب البعث سنة 1963 صدر امر بتسريحه من الخدمة العسكرية كعميد و تحويله لمدير عام مدني في وزارة الدفاع و كان توقيع القرار من زميله في الكلية العسكرية الرئيس أمين الحافظ من ضمن اوامر التسريح التي طالت ستمائة ضابط سوري منتمون للطائفة السنية كان معظمهم من خريجي اهم الكليات العسكرية في العالم, كالولايات المتحدة الامريكية و بريطانيا و فرنسا و بلجيكا....
قبل نهاية خدمته المدنية بسنة ارسل للدوام في المنزل و بعد شهر سحبت السيارة التي كانت مخصصة له, فصار لديه وقت اكبر للحديث معنا عن تجربته تلك مصحوبة بعشرات الصور بالاسود و الابيض, عن احداثها الغنية العلنية و السرية منها وعن رجال و نساء صنعوا تاريخ سورية المعاصر: رؤساء جمهورية و رؤساء وزارات و وزراء و رؤساء اركان و ضباط و رؤساء احزاب. زمن ما بعد الاستقلال ثم حرب فلسطين و جيش الانقاذ إلى أول انقلاب عسكري لسامي الحناوي ثم حسني الزعيم ثم اديب الشيشكلي فزمن الوحدة مع مصر و حكم جمال عبد الناصر و المشير عبد الحكيم عامر ثم الانفصال إلى حكم البعث و انقلابات الرفاق البعثيين على بعضهم و تسرب مؤسسات الدولة السورية و خاصة مؤسسة الجيش من كونها مؤسسات للدولة السورية و تحولها لمؤسسات بعثية لتسقط كلمة سورية و تأخذ مرادف شخصي بعبارة "سورية الأسد" مع بداية الثمانينيات.
ربما كان والدي ينظر الى سورية كأي دولة قد تمر بمخاضات تاريخية تنتهي بقيام دولة مؤسساتية عادلة قوية كما حدث في دول اوروبا و ربما مصر لكني أعتقد أنه لم يفكر يوماً بأن سورية و بعد اخلاصه و تفانيه مع الكثيرين من السوريين في بناء مؤسساتها الوطنية منذ استقلالها و حتى وفاته, ستصل ليوم تعود فيها لنير الاحتلالات, احتلالات قوات عسكرية اجنبية متعددة لاجزاء من ترابها الوطني: قوات ايرانية و قوات روسية و قوات تركية و قوات امريكية اضافة للاحتلال الاسرائيلي لهضبة الجولان السورية.
لا يمكن أن أقدر حجم الحالة الصدمة التي كانت ستقع عليه لوعاش ليشهد زمن تسرب الوطن من بين ايدي السوريين و تحوله مرتعاً للغرباء بعد أن ضاق بأبنائه فغادروه ارواحاً إلى السماء أو اجساداً إلى المعتقلات و المنافي و اللجوء بسبب عنف السلطة الأسدية و حلفائها و توحش التنظيمات المتطرفة التي سرقت ثورتهم عام 2011؟؟؟
لا أشك بأن والدي كان سيتمنى عندها لو أصر ذاك الطبيب على رأيه ببتر ساقه بعد اصابتها بقصف قلعة دمشق.



#خالد_قنوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يا سفرجل...
- براميل الكورونا
- كورونا و الازمة الاقتصادية العالمية
- كورونا السياسة
- و كم من كوهين, وصل؟!
- في مهب الرياح
- العنف خلف الغربال
- عفوية العمل الثوري و ضياع الأمل من جديد
- الشباب و مستقبل سورية
- نيرون مغنياً
- من يقدر الجمال, ينتصر.
- سوتشي, لماذا؟
- استحقاقات سورية مصيرية
- الشعب الايراني و حتمية القيامة من جديد
- ما بين باريس و سوتشي
- زمن انهيارات القيم الوطنية
- بالنار كللت يا شام
- لماذا علينا و ليسوا معنا؟
- صور من المقالب الآخرى
- سورية بين دولة العدالة و سراب الدولة


المزيد.....




- سقط من الطابق الخامس في روسيا ومصدر يقول -وفاة طبيعية-.. الع ...
- مصر.. النيابة العامة تقرر رفع أسماء 716 شخصا من قوائم الإرها ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى يستخدمها -حزب الله- لنقل الأ ...
- كيف يؤثر اسمك على شخصيتك؟
- بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل حاخام في الإمارات
- حائزون على نوبل للآداب يطالبون بالإفراج الفوري عن الكاتب بوع ...
- البرهان يزور سنار ومنظمات دولية تحذر من خطورة الأزمة الإنسان ...
- أكسيوس: ترامب يوشك أن يصبح المفاوض الرئيسي لحرب غزة
- مقتل طفلة وإصابة 6 مدنيين بقصف قوات النظام لريف إدلب
- أصوات من غزة.. الشتاء ينذر بفصل أشد قسوة في المأساة الإنساني ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد قنوت - من حلم الدولة إلى دولة الخراب