|
نقاط في علاقة المعرفة والمنطق والفلسفة والعلم والسياسة
المنصور جعفر
(Al-mansour Jaafar)
الحوار المتمدن-العدد: 1581 - 2006 / 6 / 14 - 10:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
جاءت معرفة الإنسان الأولية للأشياء، وعقله لها، ومنطقه بها، سابقة للعلم المنظم ولحكمته (= فلسفته) للعلاقات بين الأشياء، والأسماء، التى تسمى بها، ولتفكره فيها بشكل خطي معين. ثم جاءت السفسطة (فلسفة) لإمكان القول بالشيء وضده، بمواشجتها لأي قول بحكمة تجعله سائغاً مقبولاً ولو كان ذلك القول معاكساً لأخيه الذي سوغته من قبل، في لغة ترابية واشجت تطور الحياة بتطور|تدهور السفط إلى إمكان رفض كل قول وذلك إما بهدم منطقه أو شكله أو تواتره أو تناسق عناصره، بإستغلال التفارق في أصول الكلام وفي معانيه حتى إحتاج القول بوجود النهار إلى دليل.
وببروز السفط والتفكيك وسطوته التدرجية على الفلسفة والفكر السياسي بعناية مؤسسات تسلط الإقطاع ثم الرأسمالية المواشجة للتدين بحجر الفكر في ذاته لا في وجوده في عملية التقدم الإجتماعي، تشوهت منذ قديم الزمان في الأذهان الصلة الموضوعية بين معرفة الإنسان للوجود الطبيعي والإجتماعي، وقوانينه، والعلم بها، والمنطق الرابط بينهم، والفلسفة التي تتفق معهم، والسياسة التي تجري بهذا الوجود وفهم الناس وفلسفتهم لعناصرهذا الوجود وكلياته.
وبمثل هذا الشوش والخطل نزعت قوى التسلط لدحض العقلانية الإجتماعية ككل حتى قيل بإنفصال العلم عن الحياة الإجتماعية والسياسية وقصوره على الإنتاج الصناعي والطب والزراعة والتعليم والنقل والمواصلات والإتصالات والهندسة والبناء وخدمات الماء والكهرباء والأعمال المالية والتجارة والطاقة والحروب!
وبهذه التفارق بين القول بقصور العلم في جهة والقول بتمدده، في جهة ضد، فبالإمكان تفكيك القول الذائع بإنفصال الحقائق الإجتماعية والعلمية، وبالإمكان دحض مقولات التباعد والتفارق والضدية بين التحرر الإجتماعي والطبقي من الرأسمالية وحرية العقول من رؤوسها ورياساتها، بفضل للتواصل الموضوعي بين المعرفة والتعليم والعلم والحياة.
وحتي بغير هذه التفارق اللفظي فإن تاريخ سيرورة الحريتين الطبقية والذهنية يوضح ضرورة الشروط الإقتصادية والسياسية لبقاء الإنسان وتعلمه وإفادته بهذا التعلم بشكل يوافق طبيعة وجوده ككائن ذي قدرات وإحتياجات، يعيش كجزء فعال وخلاق من الطبيعة في الطبيعة نفسها يخضع لقوانين وجودها ويتمتع بنفس الحقوق العامة لرصفاءه في الإفادة من هذه الطبيعة وفقاً لقدراته وحاجاته وعمله وثمرات الوجود البشري السابق عليه. وبذلك يبرز الحق الطبيعي والعلمي للإنسان في النضال للتحرر من القيود الحياتية والذهنية الكابحة لتقدمه الإجتماعي.
الحرية كعملية عـقلية - سياسية
في لمحات من علاقة المعرفة والمنطق والفلسفة والعلم والسياسة تبدو عملية تلمس الإنسان للطبيعة من حوله لإشباع فضوله ثم للوقاية منها أو الإفادة بها تبدو عملية مترافقة مع تطور معرفته بخواصها وخواصه فيها، خاصة مع إلمام البشر بأحوال نمو النبات وجريان الأنهر من الأعالي إلى الدواني وتجمعها وتبددها وأحوال الجفاف والغيث والفيض، والمحاق والبدور، والمد والجزر، وإكتشافه النار وتصاعد حرارتها بكثافة الحريق، ولجمود الطين وتصلبه بالحرارة، وإختراع أدوات الصيد والدفاع عن النفس، وركوب الأنهار وبناء المساكن والملابس والأحذية، وصنع أدوات ووسائل عملها، وبكثرة عدده وحاجاته وتنظيمه لأحوال نسله وكشفه الأراض والأنهار والتدجين والتحميل والنقل والركوب، وإنتقاله من حال البداءة الأولى وترحله فيها لأجل الأمان والطعام إلى الإستقرار جوار الموارد الكبرى وفي الآمان الأوفر جماعات جماعات والحضارة في هذا الجوار أو ذاك قرىً ومدن.
فمع هذا المسار الطويل من البداوة إلى الإستقرار والحضارة، تطور حال التعلم عند الإنسان من اللمح إلى الإنتظام. وكان مجرد قيام البشر بتسمية الأشياء تسمية بسيطة بتعميم وصف بعض عناصرها وإطلاق هذه الصفة إسماً على الكل الذي يضمها بجسمه العام، كان القيام بتلك التسمية بما فيها من رصد للعناصر وجمع لها وحساب وإفراد وتخصيص وتعميم يعد في زمانه عِلماً في حد ذاته سابق بكيانه الراصد المنظوم للطبيعة البدائية المضطربة لعصره وآوانه.
وقد سمى أرباب المعرفة في حضارات النوبة والإغريق مفردات الطبيعة بإسم "عالم الموجودات"، أو "عالم الأسماء" وقتكان العقل البشري بتلك الحضارات هاماً بمعرفة الأشياء في عمومها الجمادات منها والأحياء. ولكن رغم قيام منطق التسمية على التحديد والفرز في تلك الحياة البسيطة فمع تكاثر عناصر الحياة فكثيرا ما كان للشيء الواحد أكثر من إسم وصفة، وفي كثرة من عدد الأحوال كانت المفردات تشجن وتشتجر، وتشير في الآن نفسه لأكثر من شيء واحد، لذا فمع تطور الأعمال وإتساع تبادلات التجارة والتفاوت في إعتبار الأشياء خسيسة أو ثمينة، وتجادل الناس بتوهمهم ذلك التفاوت في معان الأشياء ومعادنها وقيمها وأصولها، لم تعد المكاييل والموازين ولا المتوسطات القديمة كافية لفرز النوعيات أو المختلفات ولتلبية المصالح المختلفة وإرضاء الرغبات المتنازعة والحاجات المتباينة، فإشتد بذلك الحال التضارب واللغو والجدل و"السفسطائية" والتفكير في طبيعة و"قيم" الأشياء: مكوناتها وأصولها ونهاياته والأسماء التي تسمى بها وعلاقاتها.
ولبلوغ نور في هذه الظلمات التي أشتدت وحلكت بسفك الديمقراطيين دماء الفيثاغورثيين وتجريع سقراط للسم عقاباً له على تدريسه القديم للجدل السفسطي ذهب أفلاطون من هذا الموات على درب إدريس النوبي | تخود إله الحكمة المعروف عند اليهود بـإينوخ Enoch وعند الأوربيين بـ هرمس Hermes الذي بادر إلى جمع الصور وتثبيت الأسماء وضبطها حيث قام افلاطون وبشكل راق بجمع وتكثيف أسئلة سقراط الكلية الجامعة، التي كان سقراط قد أشرعها ضداً للسفط والسفسطة التي كان سقراط نفسه من روادها إلى ان عمهت وباخت وصارت وسيلة للتسلط السياسي وللتهرب من الدائنين وفق الطبيعة المألوفة في التاريخ لهرجلة المتسلطين والدينيين ضد المناطقة.
وبعد قيام أفلاطون بفرز وتجميع وتكثيف وبلورة الأسئلة السقراطية عن ماهية الشيء المحددة لأوصافه وظروفه قام بنقل هذه الأسئلة النورية من مجال الأشياء والتداولات السهب العموم وتصعيدها مترقية إلى مجالات الذهن والتفكير في الأشياء،حصراً في أشكال معينة من التفكير وتناوله. وقيد شيد أفلاطون بهذا الرأي الجامع وتدريسه له بأسلوب التلقين والحفظ والجدل الثنوي، عمارة عالم جديد في الذهن يختلف في طبيعته الحياتية الذهنية عن "عالم الموجودات" الذي كان يقوم بوضع مسميات للأشياء كيفما يتوهم الذهن إتفاقها وفق ما يبين لحواسه من ظواهرها دون فحص أو تدقيق.
وقد سمى أفلاطون هذا العالم الجديد للتفكير بإسم "عالم المثل" أو "عالم القيم" بإصطلاح لكينونته في مفردة "الفلسفة"،[حٌب "الحكمة" وطلبها بما في الحب والطلب من نظر وموضعة، ومقاربة،وتمثيل وتبيين وتعلم] وقد كانت طبيعةعالم القيم أو المثل المستخرجة منه طبيعة فكرية ذهنية صرفة تتميز في الطبيعة بإشتغال الذهن بـ"تأمل" العلاقة بين الأشياء أو الصور الذهنية، وبفحص تصور الذهن لهذه العلاقة وأبعادها.
ولفتح ذلك العالم وفرزه للمفيدين له ولفرزهم لإعماره أسس أفلاطون "الأكاديمية" وهي كيان مغلق (نسبيةً) من عمران مبعد عن عامة الناس، وممارسات محددة للمعرفة، بنواهج ومقررات ومعان محددة، تمثل الحقيقة الأكاديمية على ما في ذلك الكيان الشبيه برأس المال في التجارة من تجميع وتخزين منقح مرابي للإحداثات والمواضيع، ودراسة منظومة ربية تنزيلية من المعلم الأعلى إلى التلميذ، وقد إختلف حال الأذهان العلم والفلسفة والأكاديمية بهذا التراتب المنظوم والحضارة وحتى اليوم عن الإنبساط والإنفتاح البدوي الذي كان سيداً في مجالات المعرفة لطرح الأسئلة واجتراح الموضوعات عفو الحضور والمكان والزمان (نسبية) بما في ذلك من حرية بدوية للعقل.
وقد مثل تأسيس "الأكاديمية" إعلاناً عن وجود عالم رمزي في الذهن بما فيه من حيوات عقلية منظومة مرتبة بنسق هرمي مقلوب، الأساس فيه هو رأس الهرم!!، فكان ذلك الهرم الذي إستمر مقلوباً حتى نصبه ماركس ثم نسفه بالثورة الإشتراكية العلمية، هو أول وجود مستقل وموضوعي للفلسفة ككيان حشدي إرتقائي لجدل عوالم الأسماء كلها في العالم، بعدما كانت الفلسفة عبارة عن خلايا فكرية دنيا وتفلسفات بدئية مختلطة في التاريخ القديم بكثير من الإطلاقات والأفكار الأولية عن السحر والألهة والطبيعة والتنجيم والحدس وما إلى ذلك.
وفي جانب أخر كان أرسطوطاليس Aristotle - خارج الأكاديمية- هاماً في "المدرسة" المفتوحة لأثينا، وكان نظام المدارس يؤطر جلوساً مفتوحاً لطالبي العلم والمعرفة إلى أساتذة محددين يمثل كل واحد منهم أكاديمية قائمة بنفسه، وعِلماً قائماً في ذاته. وفي ذلك الإطار المفتوح الضيق وخارجه تلاقح عقل أرسطو بالمعارف (الشرقية) التي كان الكوشيون قد صدورها إلى المصريين واليهود والفينيق واليونان الذي قاموا فيما بعد، وحفظاً للجميل الأفريقي بتأسيس مدينة علم و"مكتبة" ضخمة تمجيداً لتلك المعارف سموها الإسكندرية. كما تلاقح عقل أرسطو في شرقه الأثيني أيضاً بتلك المعارف والحكم الخلاصات التي تقدمت من الصين إلى آسيا الوسطى وبحريها إيجة والمتوسط،
وجهة هذا التداخل والشجن والشجار بين الثقافات البدوية والحضرية والعوالم الأسمية والسفسطية والفلسفية وغيرها قام أرسطو في نظم جديد للمعرفة بجمع موصول لمسميات الأشياء وتحديد عناصرها، وبفرز هذه العناصر وجسومها وتصنيفها.
فقد إعتبر ارسطو إن عملية جمع وتصنيف الكائنات وعناصرها وفرزها تتيح معرفة موضوعية تقرب لحقيقة الأشياء في ذاتها،وفي ظروف معرفتها، لا لحقيقتها النسبية الكاملة والمتغيرة في الطبيعة، وتقوم تلك المعرفة دون جدال حولها بإدراك هادئي لخصائصها ومعرفة دقيقة لطيفة لإمكانات الإفادة بها في الإستعمالات المختلفة، بما يتيحه هذا الإدراك المنظوم والعلم بالأشياء ومنافعها، من إمكانات للتعامل القويم بين الناس، ووصول إلى الطبيعة العامة لوجود الموجودات والبشر ومفاعيلهم وتعاملاتهم.
وقد وجد أرسطو في تصنيفه لعناصر الطبيعة وخواصها إن أكثر كائناتها حياة وكرامة في (النفع) لذاته ولمحيطه هو الإنسان، وإن قوامة وسدة الكينونة التاريخية لهذا الإنسان كحيوان عاقل هي الاخلاق (المنظومة "القيمية" للسلوك)، ووجد أرسطو إن سدة هذه الأخلاق والبلورة الأعظم لهذه القيم هي السياسة، وإن سدة هذه السياسة، هي الحكم الراشد الذي يعرف وجود الأشياء والبشر ويوزع منافعهما بشكل يحقق سد الحاجات المادية للبشر والرقي بحياتهم من الإنشغال بالموجودات والحاجات الأولية والماديات راقياً بهم إلى الإشتغال بالعلم والتنظير والأمور العقلانية، كما وجد أرسطو إن سدة هذا الحكم الراشد والتوزيع القاسط لموارد الحياة وقوامته هي النقاشات العلمية والثقافية التي تعيد النظر في أمور الحياة والطبيعة وتتواشج في كيفية إعمارها وإحسانها.
وبذلك كانت تصنيفات أرسطو هذه أول تصنيف علمي في ذاته يقوم بشكل موضوعي مستقل مائز عن السحر والكهانة والضرب والتنجيم، وأول كشف محدد لموضوعية علاقة العلم والوجود الإجتماعي بالسياسة والفلسفة الناظمة لخيرات الطبيعة والعقل.
ومع تطور حياة المجتمعات من العبودية إلى الإقطاع ثم إلى الرأسمالية، وما بعدها كانت كشوف عصر النهضة عن قدرة الإنسان على الفعل والإبداع فبعدما إنتقل الإنسان من نقل معمار المباني إلى المجتمع والدولة والقانون إنتقل في عصر النهضة إلى تثبيت لمحه وتسجيله مغزى النظرات في لوحات الوجوه وخطوط البسمات وإلي تعميم نظريات البناء في بناء الألات التي إستوردوا أصولها من الصين وعموم الشرق ومن أفريقيا عبر الأندلس
ثم سطعت حركة الأنوار الفكرية بفضل تكثف الأعمال الإقتصادية الصناعية التجارية وما ولدته من كشوف في الجغرافيا والعلم، قائدة العلم إلى التميز الشديد على الفلسفة، التي أثقلها المنطق الصوري الكامن فيها لـ"الأسماء" ولـ"التأمل"، حيث عجزت بذلك المنطق الصوري الإنطباعي الإستقرائي الذي يتناول الأشياء ثابتة جامدة عن مجاراة السلوب الجدلي لتطور العلم ونشاطه، حتى كتب ماركس وإنجلز كتابهما القيم: "نهاية الفلسفة التقليدية"، بعون من تطور وتقدم العلوم الطبيعية فيزياءها وكمياءها وأحياءها وكياناتهم الدنيا والعليا ومن بروز وتقدم التاريخ كمجال ومؤشر زماني لحدوث ورصد التغيرات.
وقد أدى إجتماع كيان العلوم الطبيعة وكيان التاريخ كحال وعِلم لكشف "الكيان المادي لجدل الطبيعة" وكان ذلك الكشف الذي واشجته كافة التطورات الفلسفية العلمية التالية له قد نتج من تراكم وتكاثف الصور المتعددة لكشف طبيعية وتاريخية الوجود البشري فيها بالتالي، ولتعاقب مجتمعات هذا الوجود البشري وتغيرها، حسب علاقات موضوعية معينة بين الناس وحاجاتهم وموارد إشباعها وقدرتهم على كشفها وإستعمالها، وهي علاقات موضوعية وفر هذا الكشف الإمكان الفلسفي والعلمي لمعرفتها والإحاطة بإمكانات وجودها وحركتها وتغييرها.
وقد قام هذا التطور العلمي الفلسفي الذي صادف أهله بتعزيز إمكان تحقق "فلسفة علمية" لفهم الذهن للطبيعة وهي فلسفة تتبلور من علم الإنسان لطبيعة الأشياء، ومن التراكم المثقف لهذا االعلم بجهوده ومعاركه النظرية، بحيث صارت هذه الفلسفة حاملة للصفات المادية لمبحوثات العلم وحركتها الجدلية، وتاريخية الأحداث المتعلقة بتلك المبحوثات، وتاريخ طبيعة بحثها، على ما في تلك الكينونة التاريخية من تصنيف للإحكام العام لقوانين الطبيعة وللنسبية والتغير في أنساقها الجزئية الدقيقة في هذه الشريحة أو تلك من موضوعات الطبيعة والبشر والبلدان وفق ظروفها المتعينة وأحوال تغيرها.
ولأن هذه الفلسفة العلمية تواشج بطبيعتها الحركة البشرية في التاريخ نحو التوزيع العلمي لموارد المجتمعات بالقسط والإشتراكية بين حاجات الناس فيها وقدراتهم الذاتية والوسائل المادية والسياسية لتطويرها، فقد كان الطابع الإجتماعي الطبقي الثوري النظري والتطبيقي النضالي هو المميز الشديد الدقة لتواشج العناصر الأساسية للفلسفات الإشتراكية العلمية وتبلورها عن الفلسفات المثالية والمادية المبتذلة، وعن الفلسفات المتواضعة الدقيقة والإستقرائية للعلوم أو التاريخ أو الإجتماع أو التطور بطابعها الصوري الذهني والأسمائي والكلماتي وموازينها القاموسية اللغوية، وهي الفلسفات التي لاتزال المؤسسات الرأسمالية الضخمة للعلم تقوم على العناية بها وعلى توقيرها مفردة وفذة، بينما ترفض نفس هذه المؤسسات الرأسمالية للعلم وتمتنع عن الإقرار بعلمية وجودها مجتمعة متثاقفة، بل إن بعض هذه المؤسسات لم يزل ينكر حتى اليوم فلسفية التنوع والتداخل الجدلي بين عناصر العلوم والفلسفات والمجتمع في الطبيعة!!
إجتماعيـــة العـلـم وتـطـــور الصــراع الطبـــقي
بكل عصور الإستعباد والإقطاع والرأسمالية تحكمت "الطبقة المسيطرة" من الناس في إنتاج العلم ومنعته من كشف الإستغلال والإستلاب الذي يعاني منه البشر بل وإستخدمت الطبقات المسيطرة العلم نفسه لإحكام سيطرتها وتعظيم أرباحها، وإســتـهلاك البـشر وتغييب العقول.
وإذ تدفع الطبقة المسيطرة بقوة بقيمها في مجال العلوم الإجتماعية أكثر من دفعها لهذه القيم في مجال العلوم الطبيعية، فلارتباط علاقات وتوازنات الوعي والعلم والأوهام بمراكز السيطرة ومصالحها في الإنتاج والإجتماع، ولذا فهي تسم الوعي وإنعكاساته بطابعين ضدين: طابع علمي يحرر صناعة الألآت وطابع وهمي يقيد التحرر الاجتماعي للإنسانية،
وتقوم الطبقة المسيطرة دولياً بكافة مؤسساتها العلمية المجمعة في مراكز الأبحاث والملعلومات وتمويل البحوث والإعلام بمحاولة إحتكار العلم بإنفرادها بمقتضى الأدلوجة الرأسمالية العازلة بين التطور الإقتصادي والتطور الإجتماعي السياسي في بلادها والعالم، بتملك موارد القوى الإقتصادية والأليات العسكرية والسياسية والإعلامية والديبلوماسية في العالم، تمارس بها أبشع أنواع التوليد والتوجيه والدعم للديكتاتوريات البرجوازية الصغرى وأقذر صنوف الإستبداد الدولي المواشج لأفكار الإبادة والإستئصال بالتأزيم الإقتصادي وتوجيه الميزانيات الوطنية لمفاقمة التباين بين المركز والهامش المحلي وقهر ثقافاته بموجات السلع الموردة رأسمالياً، وما يتبعها من انماط عيش وممارسة حياتية وتشجيع القمع الإقتصادي ومصادرة الحريات النقابية وتخصيص الحريات السياسية وبيع الأسلحة والمعدات الحربية وتدريب الجيوش على أعمال الإبادة، وفرقها الخاصة على أعمال الإرهاب وتشتيت المقاومات، وتفتيتها، وفرض حملات الحصار والتجويع وقصف المدن والقرى وسمها باليورانيوم المادي والفكري والغزو الوقح الصريح ومحاولة الحد من عنفوان الشعوب بالأكاذيب والتعذيب والتضليل الإعلامي، حتي إختلطت الصور ودغمت كثير من أعمال المقاومة بأعمال الإرهاب ليتم دمغهما معاً وقدم المحتلون العلوج كأبرياء منقذين ومعمرين أفاضل يتعرضون لهجمات، بينما هم نفسهم او بواسطة حكوماتهم يشنون الهجمات على الأكراد في تركيا وعلى حقوق الدول في الصين والهند وكوبا وكوريا والبرازيل وفنزويلا و إيران.
ونتيجة لإرتباط العلوم الطبيعية بالإنتاج وتقدمه إجتماعياً وإرتباط العلوم الإجتماعية بالتحرر الإجتماعي في المجالات المتصلة بهذا الإنتاج فيضحى من العسير نفي إن حال تطور الإقتصاد والتاريخ يتواشج مع أحوال تطور الصناعة و تطور المعرفة ورقي الفلسفة العلمية والبحث العلمي، وتمرمر هذا التطور جملة مع تطور الطبيعـــة والحيــاة.
ولكن بمثل هذا التمرمر نفسه تتمرمر الأخطاء والأوهام في العلم، سواء كان ذلك بإعاقة إجتماعية الإنتاج، أو بتصور العلم وعوالمه وثماره كأنه شأن فردي فذ قائم بنفسه ومكتف بذاته، رغم إتصال مفردات العلم والعالم والطبيعة والوجود ضوءاً وجاذبية وحياة إنسانية.
وإذ تفاقم الرأسمالية الأوهام في الواقع بتشييئها للحياة وتزييفها الوعي بها، وتكثيفها القمع فيها وأغلاقها إمكانات تأريخها والتجديد الجذري،للمجتمع الذي تقوم فيه - بما في ذلك من تجديد للبنيات العقلية والإجتماعية والسياسية لوجود الإنسان ومعرفته، وشكل ومضمون تفكيره في حاله ومستقبله - فإن تزييف الوعي ومفاقمة الأوهام بواسطة الرأسمالية لقمع التحرر الإجتماعي والعقلي من الإستغلال يقود لتناول موضوع الآيديولوجيات وعلاقاتها بالمعرفة والعلم من حيث الشكل الذي تتخذه المعارف والعلوم داخلها والأشكال التي تتعامل بها مختلف الآيديولوجيات مع العلوم والعالـم وطبيعة الوحدة والصراع بينهمـا.
علم الآيديولوجيــا والآيديولوجيــا العلميـــة
يمكن تلخيص الرؤية أوغست كونت المعادية للآيديولوجيــا وهي الرؤية الطاغية هذه الآيام في الإعلام السياسي، بإن التاريخ ينقسم الى تاريخ فكر وغيره، وأن تاريخ الفكر ينقسم إلى ثلاث مراحل متعاقبة هي "مرحلة الدين"، و"مرحلة الفلسفة والأيديولوجيات"، و"مرحلة العلم"!!
وهذه الرؤية المراحلية الخطية الجامدة للطبيعة الجدلية لتبلور الأفكار وتمظهرها والخالطة بين الأدلوجة الفكرة المغلقة، والآيديولوجيا وهي المنظومة الحركية الفكرية للأفكار [الطبقية] المتداخلة، وكعِلم لأفكار معينة تتجاهل تأثير العلم بمفاهيمه ومكتشفاته في الآيديولوجيــا التي هي العقل والنظم الطبقي للأفكار، كما تتجاهل دور المخ والعقل والمجتمع في إثراء الأيديولوجيات بل وفي تغيير أقانيمها ومظاهرها، كما تغفل الرؤية الفصلية التعاقبيةفي تجاهلها للتواشج حدوث تأثير العلم على الأيديولوجيات بعملية النقد الجدلي ونفي الأخطاء والخرافات وصولاً إلى الأيديولوجيا العلمية الثورية، كذلك تستبعد النظرية المثلثة للعقل الطبيعة الحيوية للعلاقات الضرورة لوجود الفلسفة والمناهج والنتائج العلمية وتأثرها بالآيديولوجيات وتأثيرها في العلم، فإذ تدفع الآيديولوجيــا الرأسمالية النزعة الظاهرية السكونية والعشوائية في العلم، فإن الشيوعية (كعلم تطبيقي لتحرير البروليتاريا) تمثل بنسقها المادي والطبقي ثورة مستدامة في العلم نفسه ضد الإتجاهات المثالية والفردية والإستلابية تغذيه بمكنوناتها الجدلية التاريخيــة لتلبية إحتياجات التحرر الإجتماعي بشكل منظم مخطط متناسق وأقل تشوهاً.
ووفق ما سبق، يصبح من ضيق المقابلة والأفق، مضادة أنساق من الفكر ببعضها أو خلق عداوة وهمية بين العلميـة والإشتراكيـة، وبحجة زيف كحجة تحدد العلميـة وإنضباطها وإتساع الآيديولوجيـا الإشتراكيـة العلميـة وإنفتاحها على كم متوالي مطلق من الموضوعات!، فذلك زيف لإن المفاضلة بين بنية الإجراءات الدراسية لأي مجال ذهني وبنية أي نشاط عقلي وفق هذه الإجراءات يختلف عنها من حيث حدود الأسس والغايات والأجزاء المكونة لها، مثل مفاضلة دراسة القواعد بالأدب أو الرياضيات بالفلسفة، أو العلم ككل بالأيديولوجيا فهي مفاضلة سفسطاء لا تبقي ولا تذر، وممحاة ذهنية تمحو المنجزات العامة للعقل البشري والإتصال الموضوعي بين مراحل تبلوره، ويشوه هذا الجنون بين مكونات العقل تناسق وتناغم الطبيعة الموضوعية للتاريخ، والفلسفة، والعلم ويفسدها.
ويذكر أوسكار لانغ بكتابه "بنيـة الـثورات العلميـة": إن تطور علم الإقتصاد السياسي كتطور العلوم الطبيعية يرتبط مباشرة بتطور الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، ما دام تعارض الطبقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي وصراعها الطبقي مختفياً وراء تعارض النظام الاجتماعي الرأسمالي كله والنظام الإقطاعي القديم، فحين تنضج الصراعات الطبقية الرأسمالية إلى درجة التعارض بين البروليتاريا والبورجوازية فإن الظروف الاجتماعيـة لـتطور علم الاقتصاد السياسي وكذلك لـتطور جميع العلوم الاجتماعية الآخرى تكون قد تغيرت.
ويوضح البروفسور لانغ أكثر بإشارة فاصلة إلى إنه بعدما فقدت البورجوازية الاهتمام بالتطور المطرد لعلم لاقتصاد السياسي وأصبح أداة للحركة العمالية وخطراً على البرجوازية، نشأ اتجاه لتصفيته كعلم يدرس العلاقات الإقتصادية والسياسية بين الناس واستبداله في مجال دراسة الإقتصاد. بتبرير الأسلوب الرأسمالي للإنتاج عبر العناية بدراسات "العقلتقنية"[ تطور إستخدام الألآت] والاقتصاد السطحي، [متغيرات فوقية] وإرتفاع مد وجموح الاتجاه الذاتي ّ[درس الإقتصاد كتأريخ أفكار وتاريخ إقتصاد دولة واحدة] والإتجاه التاريخوي [الإقتصاد كمجرد مراحل]
وضد هذا الوضع التفريغي كتب الإقتصادي بيلخانوف أستاذ لينين وخصمه فيما بعد: تحددت مقدماً مهمة "المادية الجدلية" فقد كان على الفلسفة التي قدمت في القرون الماضية خدمات كبيرة للعلم الطبيعي أن تقود الآن العلوم الإجتماعية للخروج من تناقضات مجتمعها، فلا يمكن في العصر الإمبريالي الفصل بشكل ميكانيكي بين مهمتي الفلسفــة هاتين، أي الفصل الآلي بين مهمة الفلسفة القديمة في فترة النضال ضد الإقطاع وتقديم الخدمات الميسرة لعلوم الطبيعة وبين المهمة الجديدة للجدل المادي والتي تتمثل بقيادته للعلوم الاجتماعية، فبإنجاز هذه المهمة خدمة علم الطبيعة وخدمة العلم الاجتماعي،[في آن واحد] تتمكن الفلسفة بهذالخدمة الزوج من أداء مهمتها العقلية في رفد العلم وتطويره .
وفي هذا الزمان لا يغيب ذكر أن إنتاج العلم نفسه يزيد تشوهاَ برسملة الحياة والتوزيع المتناقض للموارد والقيم المادية والامكانات العلمية والمعايير الإجتماعية، سواء أكان ذلك التوزيع المتناقض بواسطة الإستعمار القديم أو بالإستعمار الجديد بألوانه التكنولوجية وأطيافه الميديولوجية المسيطرة على وسائط المعلومات والإعلام وعلى عقول البشـر. فكما ينمسخ العلم بطبيعة الإنتاج الرأسمالي المشوه كماً ونوعاً، وسيطرته المتفاقمة على الموارد النظرية للإنتاج ملكيات فكرية ومؤسسات أبحاث، وعلى الموارد البشرية للإنتاج بنزف العقول وتخصيصها وإستغلالها، وعلى الموارد الإنتاجية للعلم بالإستغراق في إنتاج الكمالات الإقتصادية المستهلكة للموارد والبيئة، إضافة إلى سيطرته على الموارد الإقتصادية للمجتمع وإمكانات العلم فيه بشكل يزيد به الإنقسام بين الإنتاج والموارد والبشر والتصورات العقلانية لتواشجهم وإعمارهم، إضافة إلى الإنقسام بين المثال والواقع في الحياة السياسية والحياة الإنتاجية، وبين الطبيعة الجمعية للإنتاج والإستهلاك والطبيعة الخاصة لتملك موارد المجتمع ووسائل إنتاجه للمنافع ونشره للمعارف والعلوم، وكذلك أيضاً تفسد بإطلاق حرية السوق ثمرات العلم بإستخدام العلوم والمعارف في مجالات ضبط السلوك البشري لزيادة إستغلال وتهميش البشر وعقولهم وإستنزاف بيئتهم، وإطفاء وعيهم بالإستغلال تشييئاً لوجدانهم وسومهم طبقات وشعوباً وقيماً وأحاسيس سوم البشر للحيوان على ما ورد في سياق وكنه رواية المتقدم الإشتراكي البديع جــورج أوريـل: "مزرعـة الحيــوان".
الـمنـــصـور جـعـــفـر [email protected]
#المنصور_جعفر (هاشتاغ)
Al-mansour_Jaafar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنصور جعفر
-
عزل الوضع السياسي عن المصالح الإجتماعية قاد إلى النفوذ الأجن
...
-
محجوب شريف
-
خزريات بابل ينشدن الزنج والقرامطة
-
هوية الأزمة في موضوع أزمة الهوية: عناصر أولية
-
المسألة اليهودية في السودان
-
أفراح الحزب والدموع دجلة وفرات على وجه العراق
-
إدانة الهجوم الدموي لجمهورية مصر العربية على لاجئين من السود
...
-
أناشيد إسماعيلية لخزريات بابل المعاصرة
-
قيـامـة النبي في كـوش
-
الوقت العصيب العراق
-
من الجهود المبذولة لحل الحـزب الشيـوعي وتصفيه وجوده العلني ا
...
المزيد.....
-
سحب الدخان تغطي الضاحية الجنوبية.. والجيش الإسرائيلي يعلن قص
...
-
السفير يوسف العتيبة: مقتل الحاخام كوغان هجوم على الإمارات
-
النعمة صارت نقمة.. أمطار بعد أشهر من الجفاف تتسبب في انهيارا
...
-
لأول مرة منذ صدور مذكرة الاعتقال.. غالانت يتوجه لواشنطن ويلت
...
-
فيتسو: الغرب يريد إضعاف روسيا وهذا لا يمكن تحقيقه
-
-حزب الله- وتدمير الدبابات الإسرائيلية.. هل يتكرر سيناريو -م
...
-
-الروس يستمرون في الانتصار-.. خبير بريطاني يعلق على الوضع في
...
-
-حزب الله- ينفذ أكبر عدد من العمليات ضد إسرائيل في يوم واحد
...
-
اندلاع حريق بمحرك طائرة ركاب روسية أثناء هبوطها في مطار أنطا
...
-
روسيا للغرب.. ضربة صاروخ -أوريشنيك- ستكون بالغة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|