عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 6540 - 2020 / 4 / 17 - 17:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في سورة المزمل هناك آية خرجت عن قصديتها وتحولت مع مرور الزمن إلى أستعمال أعتباطي تغنى به المسلمون منذ مئات السنين، والعجيب الغريب أن لا أحد من الأولين ولا من الأخرين تجرأ وقرأ النص بتجرد ليقول للناس حقيقة ما في النص من أمر وحكم، بسم الله الرحمن الرحيم {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا 4 إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5}، النص يبدأ بالخطاب العام للشخص المشار له تحديدا بالتلميح قبل أن يأت بالحكم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }، فالخطاب إذا شخصي في مضمونه وزمانه وغايته، وبالتالي لا يمكن أن يعمم على أساس أنه حكم عام، أي أنه لا يمكن أن نفهم من الآية أننا جميعا كمسلمين معنيين بها وبالنص بما تضمن تحديدا، أي الخطاب موجه فقط للمتزمل ولكن لا بأس أن يكون رده أو أستجابته أو تنفيذه للأمر قدوة لنا بأعتبار أنه من فهم الرسول للمعنى، فلا مجال أن نخرج النص قصدا وتعبدا من الكيفية التي أدى بها الرسول ص الواجب الأمر من ربه.
لو كان الأمر كما يفسره المفسرون أمس واليوم على أنه أمر للناس جميعا لألزمنا أن نؤدي بقية الأمر كما أداه رسول الله وهو {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ }، فلا قيام الليل سنة سنها رسول الله بمعنى أنها أفتراض وفرض من رب العالمين على الناس، لأننا نتبع أخر النص ونجعل منه عبادة وإن كانت أختيارية ولكنها أصبحت مظهر عام من مظاهر التدين، وهي ترتيل القرآن بمعنى أداءه بصوت مغنى ووفق ألحان وقوانين نغمية صوتية محددة، فلو صح الأخر صح الأول على أنهما خطاب واحد متكامل، الأمر يبدا بنداء ملزم للمزمل أن يقوم الليل نصفه أو قليلا أو زد عليه، الهدف من ذلك أن يرتل القرآن ترتيلا، وهنا حدثت المشكلة حين فسر الكثير مما يسمون أنفسهم علماء الدين الترتيل بمعنى التطريب والتجميل والتحسين وكأن كلام الله موحش غير جميل بحاجة إلى من يقدم بمشاعر وليس بعقل.
الترتيل لغة هي التتابع المنتظم الذي لا تشوبه حركة أو سبب أو مناسبة للاضطراب، لذلك قيل عن الصفوف المنتظمة المتسقة أرتال، وكذلك ما ورد في آية أخرى {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}، أي أنزلناه مرتبا متسقا متتاليا لا يتقدم أوله على أخره ولا تعارض في نسقية ولا تجد فيه إضطراب، ولو كان الترتيل بمعنى التحسين والتجميل الصوتي فالقرآن نزل مكتوبا وليس مسجلا بالصوت، والمكتوب يقرأ بصوت القارئ سواء كان جميلا أو مستجملا أو حتى لو كان عاديا بغير قباحة، فمن أين جاءت فكرة التغني والتجمل في الأداء الصوتي متناغما ومستطربا لسامعيه حتى صار فن الترتيل واحدا من مظاهر الإيمان والتدين والحث عليه والبذل فيه خلافا للأمر الشرعي.
في كتب الأحاديث ما يغني عن الشرح من تخبط وتدليس وفهم اعتباطي لمعنى الترتيل أذكر هنا نموذج لما تأسس لاحقا من معنى الترتيل، وكلها لا تنتسب لما أراد الله وما أمر به رسوله في وارد سورة المزمل (قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ سُفْيَان عَنْ عَاصِم عَنْ ذَرّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يُقَال لِقَارِئِ الْقُرْآن اِقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْت تُرَتِّل فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتك عِنْد آخِر آيَة تَقْرَؤُهَا" وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث سُفْيَان الثَّوْرِيّ بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن صَحِيح)، فمنزلة المسلم عند الله يوم الحساب بقدر ما كان يرتل القرأن ويتغنى بالآيات وليس بالعمل الصالح ولا بما يقدمه من خير للناس، هذا نموذج أخر على الدس والقراءة المحرفة للنص (وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّل التَّفْسِير الْأَحَادِيث الدَّالَّة عَلَى اِسْتِحْبَاب التَّرْتِيل وَتَحْسِين الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث" زَيِّنُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ " وَ " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " وَ " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ دَاوُد " يَعْنِي أَبَا مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَوْ كُنْت أَعْلَم أَنَّك كُنْت تَسْمَع قِرَاءَتِي لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا). أنتهى الأقتباس.
في نفس المصدر الآنف نجد هناك رواية تؤكد بالمجمل أن الهدف من الترتيل بمعنى القراءة الهادئة المنتظمة التي تؤتي فائدتها من خلال التدبر والتأني في فهم وإدراك النصوص ما يتعارض مع ما تقدم من شأن التغني والتطريب بالنص، فقد ورد أيضا (وَعَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ لَا تَنْثُرُوهُ نَثْر الرَّمْل وَلَا تَهُذُّوهُ هَذّ الشِّعْر قِفُوا عِنْد عَجَائِبه وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوب)، فالهدف من الترتيل ليس تحسين الصوت والبراعة في القراءة، فهناك من غير المؤمنين من لديه ذات الإمكانية الفنية بل وأكثر حينما يتغنى ويغني، فهل اصبحت قيمة الإيمان مقرونه بحديث (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)، ولو أفترضنا صحة الحديث هذا فما ذنب المؤمن الأخرس أو المؤمن الطيب الصالح الذي لا يجيد الترتيل بل ولا يجيد العربية إلا ما تقتضي عباداته من حفظ للمطلوب الجبري؟.
الترتيل كمفهوم ورد في القرآن إذا يعني ثلاث محاور أساسية يجمعها ما يعرف بالنسق القرآني المرافق لطريقة التنزيل بأعتبار أن القرآن رتل يسير في طريق مستقيم، هذه المحاور هي الترتيب في سن الأحكام وثانيا عدم الجزم بالحكم وأعتباره نهائيا إلا من خلال التبيان في الحكم من جميع النصوص، فبعض الأحكام توزعت وتناثرت بين النصوص أما نتيجة لدواع ما يسمى بأسباب النزول أو لأن البعض يرى أن ترتيب الآيات بما أيدينا ليس بالضرورة هو ترتيب الترتيل كما جاء أصلا، وثالثا أن لا تخرج قراءتنا عن السياق المؤسس للحكم الاجمالي نتيجة رأي أو هوى بل علينا أعتماد منهج الوحدة في التشريع والوحدة في النتيجة.
فكل حكم نستخرجه أو نفهمه عندما يتعارض مع حكم أخر بنفس المنهج هذا يعني أننا خرجنا عن الترتيل المطلوب في نص الآية، وهنا يحضر عندي ما شاع بشأن الناسخ والمنسوخ في الأحكام المزعومة، بأعتبار أن هناك آيات واحكام نسخت بآيات أو أحاديث أخرى نتيجة أن الحكم الأول أما زال أو أن الله تراجع عنه لسبب وغاية وعلة، وهذا وأيم الله شطط الناس وليس من الدين بشيء وكأن الله لا يعي ما يقول ولا النبي أدرك ذلك وترك الحكمين معا دون أن يأمر الناس ويناهم عن الحكم أو الآية المفسوخة ولنا بحث موسع في ذلك بكتابنا الدين على طبق، بالرغم من ان كلمة النسخ مفهوم ودلالة لا تعني الفسخ ولا النقض بل تعني تحديدا أن هذا الحكم ليس جيدا ولكنه منسوخ ومنقول من الأديان التي شرعها الله سابقا للمؤمنين وأعاد تأكيدها هنا لصلاحيتها وأستمرار العمل بها، ولكن هناك أكثرية من علماء المسلمين وتبعهم الغالبية من العامة تؤمن بالفاسخ والمفسوخ على أنه بمعنى الناسخ والمنسوخ وخلافا للترتيل المأمور به أولا النبي محمد ص.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟