جورج كتن
الحوار المتمدن-العدد: 1580 - 2006 / 6 / 13 - 11:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الوضع الصومالي نموذج لما يمكن أن تؤول إليه حالة مجتمعات ما بعد الاستقلال في بلدان متخلفة. فالاستعمار ترك وراءه طبقة سياسية تبنت المفاهيم الغربية حول الحرية والنظام الديمقراطي وحقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية، كوسيلة وهدف لتقدم بلدانها ولحاقها بالمسيرة العالمية.
إلا أن هذه الشريحة الحداثية ظلت أقلية في مجتمعاتها ولم تستطع أن تدفع مجمل الفئات والطبقات لتبني أفكارها وبرامجها والعمل من أجلها, فظلت الغالبية راسفة في مفاهيم تراثية، تقاوم بضراوة محاولات إصلاحية قامت بها أجيال متعاقبة من رواد النهضة لاستبدالها بما يلائم العصر.
في ظل التخلف المجتمعي وضعف النخب الليبرالية يجد دائماً مغامرون وسائل للاستيلاء على السلطة واستخدامها للهيمنة على الثروات الرئيسية في بلدانهم. ففي الصومال لم يستمر الحكم الديمقراطي –النسبي- الذي تلا رحيل الاستعمار عام 1961 سوى بضع سنوات, ليتمكن محمد سياد بري في العام 1969 من القيام بانقلابه العسكري وإرساء سلطة استبدادية حتى العام 1991, كانت نتائجها القضاء على التجربة الديمقراطية الناشئة وتعميق التخلف وإعاقة التنمية, رغم الشعارات المرفوعة للتمويه. وهو نفس ما فعله "الثوريون" في أكثر من بلد بالقضاء على التجارب الديمقراطية بانقلاباتهم العسكرية, وابتزاز شعوبهم بالشعارات القومية والوطنية والاشتراكية لضمان استمرار هيمنتهم.
إلا أن القوى التي تصدت لإسقاط النظام الديكتاتوري الصومالي كانت مجموعات مسلحة قبائلية, دمرت مؤسسات الدولة التي كانت ملكاً خاصاً للحاكم الفرد. فالقبائل, وهي التجمعات السكانية الوحيدة التي سمح النظام ببقائها, من تقاليدها المتوارثة أنها تفضل ألا ترضخ لسلطة الدولة بل لقرارات شيوخها التي تنظم الصراع الدموي المستمر بينها, في السابق على المراعي والآبار, وبعد انهيار الدولة الصومالية أضيف الصراع على مدن وبلدات, وأحياء وشوارع مقديشو وأبنيتها العامة ومطارها المتحول إلى مراعي...
منذ خمسة عشر عاماً تدور رحى حرب أهلية طاحنة بين أمراء حرب القبائل، فشلت المحاولة الإنسانية للمجتمع الدولي لوقفها خلال "عملية إعادة الأمل" في العام1993، وتركت الصومال بلداً منسياً تتناهبه العصابات ويعم فيه القتل والسلب, وانهيار الخدمات العامة, مستشفيات ومدارس وطرق وكهرباء ومياه شرب... وتفتيت البلاد إلى دويلات..., ومئات آلاف النازحين إلى حدود الدول المجاورة حيث تنتظرهم الأوبئة والمجاعة والجفاف وقطاع الطرق وعصابات الخطف مقابل الفدية والاتاوات التي تفرضها الميليشيات على حواجزها... وما لا يقل عن 500 ألف قتيل كحصيلة... ووفاة ربع المواليد قبل بلوغ سن الخامسة...
وهي حالة شبيهة بالوضع في أفغانستان بعد خروج السوفييت وتدمير الدولة المركزية وانفلات الحرب الأهلية بين أمراء المجاهدين الأفغان الذين قادوا عصابات مسلحة عرقية وقبلية ومذهبية وسببوا كوارث إنسانية ليس أقلها خراب كابول ومدن أخرى وملايين الفارين من الاقتتال الدموي إلى المجهول...
تفتت المجتمعات المتخلفة إلى مكوناتها الأولية سمة شائعة في بلدان عديدة عند انهيار سلطاتها المركزية, تقترب أو تبتعد عن النموذج الصومالي حسب ظروفها الخاصة, كما حصل في لبنان أثناء الحرب الأهلية عندما تقاتلت ميليشيات أمراء السياسة والطوائف بشراسة رغم مسحة الحضارة والحداثة اللبنانية. كما ليس بعيداً عن ذلك الصراع الذي تخوضه المجموعات الإرهابية العراقية ممثلة لمذاهب متعددة, مستفيدة من عدم اكتمال بناء الدولة المركزية حتى الآن.
كما لا يستبعد أن تتحول الميليشيات الفلسطينية, الأذرع المسلحة للفصائل في الضفة والقطاع, إلى عصابات يخوض كل منها حربه ضد الآخرين, وحالياً تطور الانفلات الأمني لمهاجمة مراكز الشرطة واغتيال مسؤولين فيها واقتحام مبنى التلفزيون والمصارف والدوائر الحكومية..., وإنزال مسلحين في مناطق نفوذ كل فصيل بحجة حفظ الأمن, إلى جانب فوضى إطلاق "الصواريخ" العشوائي على إسرائيل دون حساب للنتائج...
هل تتجه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية نحو "الصوملة" ؟ لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال. فقد تم إضعاف السلطة الفلسطينية منذ بداية الانتفاضة بتوجيه ضربات إسرائيلية لمؤسساتها لتصبح عاجزة عن حصر السلاح في أجهزة الدولة. واستتبع ذلك تسلم حماس لسلطة غير مقتنعة أصلاً بضرورتها, فهي حسب فهمها لها نتاج انحراف اتفاقية أوسلو عن "الثوابت الوطنية". حكومة حماس تتصرف بعقلية سلطة الميليشيا وأولوية "ثوابتها" المزعومة على مسؤوليتها كحكومة عن جميع مواطنيها.
ما هي الحلول التي جربت لمواجهة انهيار الدولة وتفكك المجتمع وغياب الحكومة المركزية في الصومال؟ الجامعة العربية اكتفت بالبيانات والتصريحات ومحاولات فاشلة لعقد مؤتمرات مصالحة. أما مجلس الأمن فقد اتخذ تسع قرارات منذ العام 1992 لكن دون بنود ملزمة للتطبيق, وعندما نجحت جهود الدول المجاورة للصومال بإقناع أمراء الحرب بقيام حكومة انتقالية, لم تتوفر لها قوة كافية للسيطرة على مجمل البلاد حتى أنها اضطرت للتواجد في مدن بعيدة عن العاصمة, لتتحول لفصيل من فصائل ميليشيات الأمر الواقع.
ويطرح حالياً حلاً آخر للصوملة, إذ أنه منذ فترة وضع صوماليون ثقتهم في علماء دين أقاموا محاكم شرعية لتقاضي المواطنين أمامها, أتبعت بميليشيات مسلحة لتنفيذ أحكامها، ثم لنشر الأمن ومحاربة "الرذائل" وإعادة بعض الخدمات. ورغم أن معظم مقاتلي اتحاد المحاكم الإسلامية ينتمون لقبيلة واحدة (العير), فقد تحولت إلى قوة ضاربة حظيت بدعم السكان وبتمويل خارجي يقال أنه سعودي, لتبدأ بوضع حد لانفلات الميليشيات القبلية, ولتبسط نفوذها على مناطق واسعة, آخرها مقديشو التي سقطت في قبضتها بعد معارك متقطعة منذ شباط الماضي. حتى الآن لم يصطدم اتحاد المحاكم الإسلامية مباشرة مع الحكومة التي تحظى باعتراف دولي, وهو يعمل لحسابه الخاص بدل تمكينها من بسط سيطرتها.
ماذا سيفعل بعد إسقاطها وإقامة حكومته الإسلامية ؟ هل يبدأ بغزو العالم –مثل طالبان- للقضاء على "الكفر"؟! أم سيتفرغ أولاً للداخل لاستئصال كل من يختلف مع فهمه للشريعة الإسلامية؟!
تبدو العودة "للإسلام هو الحل" كعامل موحد للمجتمع فكرة "جذابة" ومقبولة ضمن حدود فهم قطاعات من مجتمع متخلف, مع تجاهل نتائج هذه الحلول عندما طبقت في بلدان أخرى مثل أفغانستان حيث استطاعت "طالبان", المماثلة لاتحاد المحاكم الإسلامية الصومالية, إعادة توحيد معظم أفغانستان بعد القضاء على الميليشيات المتقاتلة, لكنها أقامت دولة خلافة خارجة من التاريخ, وأعادت المجتمع للقرون الوسطى وسجنت نصفه في البيوت وقضت على كل المظاهر الحضارية وأشاعت خراباً في كافة مجالات الحياة... وأفسحت المجال لمنظمة إرهابية شهرت سيوفها في وجه العالم بأجمعه, ودعت ل"فتحه", وبدأت ذلك في "غزوة مانهاتن" كما أسمتها..!!
لن تكون نتائج "الإسلام هو الحل" في مقديشو أفضل, إذ أن الإسلاميين الصوماليين متهمون بتوفير ملاذ آمن وأمكنة للتدريب والانطلاق لعناصر من القاعدة نفذت عمليات إرهابية في كينيا وتنزانيا ودول أخرى مجاورة.
أما العراق فقد اعتمد لبناء دولة حديثة في مواجهة انهيار الحكومة المركزية نموذجاً يقوم على :
- بناء نظام يعترف بجميع مكوناته الطائفية والمذهبية والقومية المتصالحة والمتشاركة في الوطن، ينسق تعايشها في إطار مؤسسات ديمقراطية ودستور وقوانين وأحكام تراعي مصالح الجميع, تشرعها الأغلبية المنتخبة بحرية, على قاعدة قبول الآخر وعدم معاداته والسعي للحوار والتوافق معه, بالإضافة لمصالحة الآخر العالمي وإنهاء العداء المزمن معه - شيطنته- والانخراط في المسيرة العالمية..
– توفير دعم دولي وقوات متعددة الجنسيات كافية لتأمين الحماية للتجربة الوليدة إلى أن تقف على أقدامها, ولولا ذلك لانهارت منذ بداياتها. إلا أنه لا يمكن إعطاء رأي نهائي في التجربة إذ أنها لم تتجاوز بعد إمكانية الانتكاس في مواجهة العوامل والقوى التي تشد نحو العودة لمفاهيم وأساليب قديمة مؤداها انهيار الدولة وتفتت المجتمع .
يعتقد البعض أن التخلص من الاستبداد ممكن في مجتمع متخلف بجهود المواطنين المحلية, مع الطمأنة أن البديل لن يكون تفكك المجتمع, بل مؤسسات انتقالية تقود لنظام ديمقراطي دون الحاجة لتدخلات خارجية, خاصة العسكرية منها, وهو أمر ممكن حسب الظروف الخاصة بكل بلد، بالاعتماد على قطاعات مجتمعية واعية وقادرة على مواجهة القوى التي ستسعى لجر البلاد للفوضى.
إلا أنه لا يمكن تعميم ذلك في كل مكان وزمان, فالمجتمع الدولي الذي تزداد وحدته لم يعد يقبل أن يبقى لامبالياً أو منتظراً طويلاً لاستمرار التخلف والفوضى وانتشار الأفكار المحرضة على معاداة الآخر, والتي وصلت مفاعيلها المخربة إلى مراكزه المتقدمة. فبعد أن تخطت أعمال استئصال الآخر المختلف حدود الدول, لم يعد مبرراً للمجتمع الدولي احترام سيادة الدول التي تصدر الإرهاب كأفكار أو أعمال.
#جورج_كتن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟