زاهر رفاعية
كاتب وناقد
(Zaher Refai)
الحوار المتمدن-العدد: 6538 - 2020 / 4 / 15 - 17:29
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
كيفما أدار المرء ناظريه في مواقع التباعد الاجتماعي مثل فيسبوك وغيره ستطالعه نقاشات المؤمنين مع الملحدين حول قضايا تتدرّج في أهميتها الفلسفيّة, ابتداءً من محاولة فهم الوجود من حيث هو موجود, وانتهاءً بسؤال أحد الطرفين عن الأعضاء التناسليّة لوالدة الطرف الآخر.
بين هذين السؤالين تقع ساحة تراشق الاتّهامات حول أيّ منهما-الدّين أم الإلحاد- هو المسؤول عن تردّي أحوال البشر بشكل عام والعرب بشكل خاص, وفي أي منهما يوجد الحل للمشاكل التي يعاني منها الإنسان. وإنني لأجد هذا التراشق علامة من علائم السير على درب التقدّم والحضارة على الطريقة الهيغليّة, حيث انّ كل فكرة ستستجلب نقيضها , ومن ثمّ هذا النقيض سيستدعي نقيضه وهكذا يتطوّر الفكر ..
المهم ألا ينتقل هذا التراشق من التراشق بالكلمات إلى التراشق بالقذائف والرّصاص.. ولا حتى للتراشق بالأحذية على طريقة بعض قنوات العار العربية, والتي لا تمثّل سوى مموّليها والعاملين فيها.
من بين جملة هذه الاتّهامات ما يمكن صياغته في هذا الحوار القصير:
- الملحد: هل يمكنك أن تخبرني بواحد من إنجازات هؤلاء الشيوخ الذين تسمّيهم علماء الدين؟ نحن لا نحتاج إلى رجال الدين ولا إلى ربّهم ولا أدعيتهم هم وأتباعهم, بل نحتاج إلى علماء الطبيعة الملاحدة الكفرة الذين يساهمون في تقدّم العلوم ورقيّ المجتمعات.
- المؤمن: وبماذا ساهمت أنت أيها الملحد العربي في العمل على تقدّم مجتمعك والإنسانيّة؟ أنت إنسان فارغ تريد شرب الكحول ومضاجعة العاهرات لذلك تركت دينك, امّا عدا ذلك فلا يحق لك أن تتشبّه لا بالعلماء ولا برجال الدّين ولا حتّى بالمؤمنين, فأين هي انجازاتك العلميّة والحضاريّة؟!! أنتم أناس لا قيمة لكم ولا غاية من وجودكم ولا هدف, وذلك باعترافكم انتم أيها العبثيّون الملاحدة.
- ( تنكح ^&% أيها الملحد%-$-%أحة-$-قرد-$-# أمك ^^%4 ولن ترضى عنك &^الفيل% المؤمن^%# قاتلوا&^-$- الجزية&^% دارون&^% دوكنز&%-$-* أصل الإنسان ^*%#عرص-$-% الانفجار العظيم^%# )
نلاحظ في هذه الحجّة أنّ المؤمن يرى أنه لا فضل للملحد العربي ولا للإلحاد بذاته في الوصول للمكتسبات العلميّة ولا للتقدّم الحضاري, وأنّه لا تعارض بين العلم والدّين , بل ويذهب المؤمن أحياناً أبعد من ذلك ليتغوّط في المنطق حرفياً بقوله أنّ سبب التخلّف الحضاري عند العرب هو البعد عن الدّين "يقصدون الإسلام تحديداً" !!! .. وفي الحقيقة فهذا الكلام باطل جملة وتفصيلاً, وذلك للاعتبارات التاليّة:
- الملحد يساهم بطرح السؤال المناسب الذي يؤدي البحث عن جواب له إلى تقدّم العلم والمعرفة, وأقصد السؤال عن الـ"سبب" الذي أفضى لحدوث الظاهرة, وهذا ما يعرف بالفلسفة باسم "التفكير السببي.. أو العلّية" , ويقوم على مبدأ أنّ كل حدث لابدّ ان يكون له سبب, وهذا السبب لابدّ أن يكون قابل للمعرفة والإحاطة, سواء أعرفناه أم لازلنا نبحث عنه, المهم أنّه لا يمكن ردّ أسباب حدوث الظواهر الطبيعية إلى مشيئة كائن مفارق يحصي على البشر سلوكيّاتهم الجنسيّة طوال الوقت. فمثلاً : الملحد يطرح السؤال (ما هي أسباب انتشار العدوى الفيروسيّة؟) وليس (ما هي الحكمة من وجود الفيروسات!)
أهمّ ما في هذا المبدأ -مبدأ السببية- هو لزوم ووجوب واشتراط ملازمة الحادث الطبيعي لأسبابه الطبيعية دائماً, وهذا اللزوم لا يسقط في حالة جهلنا المؤقت بتلك الأسباب. وعلى فرض أننا لاحظنا عدم اقتران الحوادث بالأسباب المعهودة في حادثة معيّنة, فهنا يبحث الملحد عن الأسباب التي أدّت لانعدام الاقتران السببي في تلك الحالة, ولا يحيل بأيّ حال إلى المعجزة ولا إلى المشيئة الإلهية ولا إلى السّحر وفعل الشياطين وغيرها, بل يبحث عن السبب "الطبيعي" الذي أدّى لظهور الشذوذ في حالة عدم الاقتران السببي عند حادثة ما.
- هذا التفكير السببي أو "العلّي" الذي يبحث عن العلل هو على النّقيض تماماً من التفكير الديني, والذي هو تفكير "غائي" يبحث عن "الغاية" أو "الحكمة" من حصول الحادث الطبيعي وليس عن "سبب" حصول هذا الحادث, وهذا التفسير الغائي هو الذي يعتمد عليه الدّين ورجال الدين في شرح آلية عمل الطبيعة لأتباعهم!! فهؤلاء يسألون عن الغاية الإلهية من وجود الكون والإنسان ومن حدوث الزلازل ومن انتشار الأوبئة ومن الانهيارات الاقتصاديّة وهلمّ جرّاً..
بل أكثر من ذلك, إذ أنّ المؤمن يعتبر أنّ القول بالضرورة و السببية والحتميّة -التي يقول بها الملحد- هي ألفاظ كفر, لأنّها تلغي أثر المشيئة الإلهيّة في العالم.
فمثلاً: العلم يقوم على مبدأ "حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء يساوي طاقته" (غصباً عن ربّك) وهذه العبارة التي بين قوسين لا يلفظها علماء الطبيعة عادة, وذلك مراعاة لمشاعر المؤمنين المرهفة, ولكنهم يعملون بموجبها حتماً, لأنه وبدونها لن يكون هناك شيء اسمه "العلم" !
بينما منهج الدين يقوم على مبدأ لخّصه شيخ العداء للمنطق "أبو حامد الغزّالي" بقوله:
«الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببًا، وبين ما يعتقد مسبّبًا، ليس ضروريًا عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمّنًا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنًا لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما، وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما، عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجزّ الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن… فإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه، بخلقها على التساوق لا لكونه ضروريًّا في نفسه، غير قابل للفوت، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة». (راجع كتاب تهافت الفلاسفة)
مما تقدّم, ومن خلال فهمنا للفرق بين السببية والتي هي مطلب العلم وبين الغائية و التي هي مطلب الدّين, يتبيّن لنا أن القول الرومانسي بأنّ العلم والدين لا يتعارضان هو قول صائب, فليس هناك تعارض بل "تناقض" , فالدّين تحديداً هو "اللا-علم" والعلم تحديداً هو "اللا-دين" .
لذلك فالإيمان هو العائق الأساسي الذي يحول بين المؤمن وبين طرح الصيغة المنطقية للتساؤل, وبالتالي فأنت حين تطرح سؤالاً لا-منطقيّاً فسوف لن تبحث عن الإجابة حيث يجب أن تبحث, بل ستبحث عن الإنسان في بطون الحيتان وستبحث عن الحمير بين المركبات الفضائية وعن الأرانب بين الحشرات!
لنضع النقاط على الحروف:
الدين ومروّجوه يتحمّلون كامل المسؤولية عن التخلّف العلمي والحضاري لبني الإنسان عامّة وللإنسان العربي خاصّة, لأنّهم -رجال الدين- يبنون أجيالاً ويعلّموهم طرح السؤال العلمي بصيغة البحث عن "الحكمة من الشيء" وليس البحث عن "أسباب حصول الشيء", ولذلك تراهم – أي جحافل المؤمنين- يبحثون عن الإجابات عند المشعوذين وليس عند العلماء, وأقصد بالمشعوذين هنا "رجال الدّين" .
فأنت حين تعلّم الطفل منذ نعومة أفكاره أنّ الله قادر على كل شيء وبكلمة واحدة, كأن يحوّل الماء إلى نبيذ أو أن يرسل البدو في رحلات فضائيّة على ظهر الحمير, وأنّ السماء تمسكها أعمدة غير مرئيّة.. وغيرها الكثير من "المعجزات" , فأنت صديقي المؤمن تحرم الإنسانيّة من مشروع عالِم طبيعة أو فيلسوف ربّما كانت على يديه ستشهد البشريّة حلولاً لمشاكل طالما بحثت عن حلول لها فلم تجد.
أنت "تمسخ" الإنسان العاقل حرفيّاً وتجعل منه ماكينة تسجيل وترديد للأجوبة اللاعلميّة, وذلك بدلاً من حثّه على التفكير والبحث عن صيغة عقلانيّة لطرح الأسئلة العلميّة والبحث عن أجوبة موضوعيّة تفسّر الحدث وتساهم بتطوّر العلم وتقدّمه.
أنت صديقي المؤمن تدفع بالطفل للبحث عن أجوبة سحريّة عند المشعوذين و الدّجالين ورجال الدّين, وأيضاً تدفعه لعدم الثقة بالعلم الطبيعي وحتميّته السببية, كما تدفعه -أي الطفل- لأن ينظر للعلم على أنّه عدوّ يجب الحذر منه أو القضاء عليه لأنّه -العلم- ينفي الأجوبة المقدّسة التي زوّده بها هؤلاء المشعوذون. (وخير دليل على ذلك , انظر إلى جحافل المؤمنين الذين يسألون الشيوخ على الانترنت حول ما إذا كان أحمد الغندور الملقّب بالـ"دحيح" ينشر العلم أم الإلحاد؟ )
لذلك: فالملحد يخدم العلم حتى على مستوى الصمت وعدم الإجابة بما لم يحط به خبرا..
الملحد يخدم العلم حين يطرح السؤال "السببي" الذي ستجلب الإجابة عنه تقدّم العلم والبشريّة ..
الملحد يخدم العلم حين يعلّم أولاده أنّ المطر هو نتاج تكاثف بخار الماء وليس نعمة من عند الله يجب أن نصلي كي يهطل...
الملحد لا يجعل البشرية تخسر عقلاً من عقول أبنائها كما يفعل المؤمن حين يقوم بتوجيه عقل ابنه منذ الطفولة نحو قراءة كتب الحيض ودفع الجزية ووطئ السبيّة وغزوات وحروب مقدّسة, بدلاً من توجيهه لقراءة مبادئ الفيزياء والمنطق والرّياضيات...
الملحد لا يضيع أبهى المراحل العقليّة في عمر الطفل , وذلك في محاولة جعله يوفّق بين مادتي العلوم الطبيعية والتربية الإسلاميّة... كما لا يقضي الملحد شطر عمره في محاولة التوفيق بين ضرورة إجراء الحسابات وبين حتميّة الدعاء والاستخارة!!!
والأهم من ذلك هو أن الملحد لا يقضي يومه في شتم علماء الطبيعة والدّعاء عليهم وتحذير الناس منهم كما يفعل مشعوذ الدين, الذي يبثّ مقاطع الفيديو لتحذير الناس من العلم و مناهجه باستخدام كاميرات وشاشات الأجهزة التقنيّة, والتي هي نتاج مبادئ العلوم الطبيعية ومناهجها السببيّة الزنديقة !!! .
الملحد لا يلجأ لإله الفراغات كي يبرر كسل الإنسان عن البحث في الأسباب الطبيعية, ولا يلجأ لإله الفراغات كي يملأ الفجوات التي يملؤها المؤمن عادة بكلمات لا تسمن ولا تغني من جوع ثم يقدّمها على انّها الجواب المفحم لجميع أسئلة أبو ملحم.. لأنه وحين تنتهي معرفة الملحد وعلمه بالشيء فإنه يقف ويصمت ويعلّق السؤال حتى يأتي من يجدّ اكثر منه في البحث ويحصل على الإجابة, ولا يلجأ الملحد إطلاقاً لترديد إجابات تم علكها وبصقها ملايين المرات وحشوها في رؤوس مليارات البشر حتى تمنعهم من التفكير بأي شكل آخر من أشكال الإجابة.
الخلاصة : إنّ القول مثلاً بأنّ الإنسان جاء عبر سلسلة تطوّر منطقيّة في البيولوجيا, استطعنا اكتشاف جزء كبير منها كما ننتظر من ذوي الاختصاص اكتشاف بقيّة الأجزاء الغامضة, لهي إجابة تجعل الوافدين على ميدان الوعي من الأطفال الصغار يتوجّهون بأنظارهم وعقولهم نحو الكشف عن طبيعة الموجودات الحيّة واكتشاف آليات عمل أعضائها الحيويّة, ومن ثمّ يبدؤون بطرح الأسئلة والبحث عن إجاباتها في مختبرات علوم الأحياء. بينما القول بأنّ الإنسان الأول تحوّل من "طين" إلى "بشر" مكتمل من خلال كلمة سحريّة "هابراكا دابرا" , لهي إجابة تجعل الطفل على استعداد لقضاء عمره كله وهو يعلّق أسباب ما يراه ويعيشه في هذا العالم على هذه الشمّاعة المريحة "كن فيكون" ثم يعقبها بعبارة (تمّ التفسير وحصل البرهان) ثم انتهى الأمر!
حتى لو كان اللاديني هو شخص يؤمن بوجود إله, إلّا أنه لا يتعامل مع هذا الإله بالشكل الذي يتعامل معه أتباع الأديان, فالله عند الربوبي قد ينفع لملء الفجوة المعرفية ولكن فقط بين المرء وذاته, ولا ينتقل الربوبي لتعميم إيمانه هذا على كتب العلوم والفيزياء والرياضيات والسياسة والاقتصاد على طريقة مرتزقة الدين, الذين ما إن يلحظوا بأنّ الكفة تميل لصالح العقل وأنّ النّاس قد بدأوا بنبذ شعوذاتهم, حتى يسارعوا للتهديد والوعيد تارة بالسيف وتارة بجهنّم , وذلك من أجل فرض الجهل بسيف القداسة.
#زاهر_رفاعية (هاشتاغ)
Zaher_Refai#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟