|
احتلال الجولان وانتقاص مقومات الوطنية السورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1579 - 2006 / 6 / 12 - 13:13
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
احتلت إسرائيل الجولان السوري في حرب حزيران 1967، أي أن قرابة أربعة عقود قد انقضت، وسوريا تعاني من احتلال قسم من أرضها. كان الاحتلال لطمة قوية لسلامة الدولة السورية التي لم تتميز قبله بالاستقرار. وسيسهم كذلك في تخريب الحياة السياسية والمعنوية للبلد، وتشويه سلم الأولويات الوطنية. ورغم أنه ليس ثمة سببية ميكانيكية مباشرة بين الاحتلال الإسرائيلي والتشوهات المشار إليها، ورغم أن هياكل النظام السياسي وتفضيلات نخبة السلطة وأولوياتها تتوسط بين تلك الأسباب ونتائجها الراهنة غير السارة، إلا أن الاحتلال ضاعف تلك التشوهات وزادها تعقيدا. بل يمكن القول إنه توسط، بدوره، بين هياكل السلطة وتفاعلات السوريين معها وحيالها، وعمل على العموم على إضعافهم وعزلهم وتوهين سيطرتهم على مصيرهم. يلبي الجولان اليوم ثلث الحاجة الإسرائيلية المفرطة من المياه، ومنه تروى بعض أراضي النقب. ويحوز أهمية استراتيجية لا مجال للمبالغة فيها. فوعورة تضاريسه وكثرة مرتفعاته ووديانه تجعل الاستحكام فيه سهل وانتزاعه عسير جدا. وثمة لوبي إسرائيلي خاص، يجعل من التمسك بالجولان تحت السيادة الإسرائيلية قضيته الوجودية. ومن هؤلاء المستوطنون الذين يلغ عددهم الورقي 14 ألفا (العدد الحقيقي أقل: بعضهم مسجل في الجولان من أجل الحصول على تعويضات خاصة). لكن الخطط الإسرائيلية الحالية تطمح إلى رفع عدد المستوطنين إلى 50 ألفا في السنوات القادمة. استعادت سوريا قرابة 50 كيلومترا في اتفاقية فصل القوات عام 1974، الاتفاقية التي كفلت استقرارا مطلقا على جبهة لم يسبق أن استقرت أبداً طوال 26 عاما، المدة الفاصلة بين قيام إسرائيل وآخر ربيع 1974. إلا وكانت حرب حزيران قد تسببت في نزوح ما ينوف على 130 ألفا من الجولان، إلى ضواحي مدينة دمشق بصورة أساسية. ويقدر اليوم أن عددهم لا يقل عن نصف مليون. ووقتها بقي في الجولان حول 7000 من أهلها، ما يقارب اليوم 20 ألفا، موزعين على خمس قرى. وبينما تمنع سلطات الاحتلال عودة النازحين وتبادل الزيارات بين من ظلوا في قراهم ومن نزحوا، فإنها تسعى بطرق أخرى إلى نزع سورية المواطنين الواقعين تحت احتلالها. في عام 1981 ضمت حكومة بيغن الجولان إلى إسرائيل، وحاولت فرض الهوية الإسرائيلية على سكانه. على الأثر أعلن مواطنو الجولان إضرابا عاما مفتوحا استمر ستة أشهر، سلم المحتلون في نهايته برفض الجولانيين المواطنة الإسرائيلية. "الأسرلة" المرفوضة على صعيد الجنسية انتحلت قناعا مختلفا: أسرلة المناهج التعليمية، وذلك بمزيج من إلغاء مناهج التعليم السورية و"تدريز" المناهج المفروضة على مواطني الجولان (إضفاء طابع درزي عليها) حسب تعبير أحد ناشطي الجولان. "يدرس طلاب الجولان المواد المقررة التالية بصورة إلزامية: التراث الدرزي، تاريخ الدروز، جغرافيا خاصة بالدروز، فضلا عن لغتين عربية وعبرية، مخصصتان للدروز أيضا". الغرض هو فصل الجولانيين عن عمقهم الثقافي الوطني، وصنع ذاكرة خاصة بهم تعزلهم عن مواطنيهم الآخرين. لا يملك مواطنو الجولان غير بطاقة إقامة، تعتبرهم "مقيمين في إسرائيل"، وتتركهم بلا جنسية. ويعتقد ناشطون جولانيون أن على السلطات السورية تسجيل مواطني الجولان كسوريين ومنحهم جنسية وطنهم، لكن يخشى آخرون أن ذلك سيحرر سلطات الاحتلال من أي التزام تجاههم، وقد تمنعهم من العودة إلى ديارهم أن حصل أن غادروها، لكونهم حائزين على جنسية بلد آخر في العرف الإسرائيلي. بيد أن من شأن سياسية أكثر ديناميكية أن تضع تثبيت جنسية مواطنية الجولان في سياق تسليط الضوء على حرمانهم من هويتهم واعتبارهم محض مقيمين في أرض آبائهم واجدادهم، وأن تدرج ذلك كله في سياق إثارة الاهتمام العالمي بقضية الجولان ورفع الضغط السياسي والقانوني والأخلاقي ضد المحتلين، وتقوية معنويات المجتمع الجولاني وتفاعلاته الداخلية وتكثيف روابطه مع الوطن الأم. بمعنى آخر، يمكن لفتح معركة حول تسجيل سكان الجولان أن يشكل جزءا من معركة هوية الجولان وتسليط الضوء على احتلاله المتمادي. والحال إن ما هو أسوأ من وقوع الجولان تحت الاحتلال هو عدم إحاطة قضية الجولان بدينامية سياسة نشطة تشد من أزر سكانه وتضع العالم أمام مسؤولياته عن دوام الاحتلال. بالمقابل، ليس من شأن سياسة سكونية، مبنية على يقين ذاتي بالعدالة، أن تغير شيئا في الأمر الواقع. وكما هو الحال دوما في ظل احتلال متماد، تتعارض وقائع الحياة المعاشة مع مقتضيات العقائد المعلنة. هناك مواطنون انساقوا إلى قبول الجنسية الإسرائيلية (سكان قرية "الغجر"، وما لا يتعدى 6% من القرى الأربعة الأخرى)، ثم أضحوا أسرى لها، في غياب ما يشجعهم على التخلي عنها أو يسهل لهم التنصل منها، وفي ظل رفض الاحتلال سحب جنسيته عمن انسحبوا منها علانية. هذه أيضا إحدى المشكلات التي يفترض أن تستهدف معالجتها سياسة فعالة ومتبصرة. فما لا ينبغي أن ينسى في هذا المقام أن الاحتلال هو الشرط اليومي لسوريي الجولان طوال 39 عاما، إن على المستوى الأمني أو المعيشي أو الإداري أو التعليمي أو الصحي. إن دخلا فرديا يبلغ حوالي 3000 دولار أميركي سنويا (في سوريا بين 1000 و1200 دولار)، ونظام تأمينات فعال، وتفاعلات اقتصادية متنوعة وكثيفة مع الاقتصاد الإسرائيلي.. هي وقائع عنيدة، يتعين على أية سياسة وطنية حيال الجولان أن تأخذها بعين الاعتبار. رغم هذه الوقائع أثار الاحتلال الإسرائيلي مقاومات متنوعة، منها رفض الجنسية الإسرائيلية الذي أشرنا إليه؛ ومنها مقاومة مسلحة اعتقل بسببها كثيرون، كان بينهم هايل أبو زيد الذي توفي الصيف الماضي عن 37 عاما، عشرون منها في سجون الاحتلال؛ ومنها مقاومة ثقافية، تتعزز اليوم بالخصوص بالتواصل مع الحياة الثقافية في سوريا. الفضل في ذلك لشبكة الانترنت ومبادرات فردية لنشطاء وأسرى سابقين (بين 5 و9 حزيران جرى، لأول مرة في الجولان، عرض أفلام لثلاثة من أهم المخرجين السينمائيين السوريين). اليوم هناك 11 أسيرا سوريا في السجون الإسرائيلية. وبعد صفقة تبادل الأسرى التي جرت بين حزب الله وإسرائيل عام 2004، اقترح عديدون منهم مبادلتهم وسجناء فلسطينيين آخرين برفات الجاسوس الإسرائيلي كوهين الذي أعدم في دمشق عام 1965. لكن لم يكتب لهذا الاقتراح أن يندرج في مبادرة سياسية سورية. إن استمرار احتلال الجولان انتقاص مستمر من الوطنية السورية، وتقييد مادي ومعنوي للمجتمع السوري كله. ولا ريب أن التجاهل الدولي لاحتلال الجولان يفاقم من عزلة الشعب السوري وضعفه. ويزداد هذا الواقع تعقيدا بفعل ما يحظى به المحتل الإسرائيلي من دعم مطلق وحماية مستمرة من قبل الولايات المتحدة، ما يقلل من كلفة احتلاله ويشجعه على التمادي فيه. لقد اعتدنا أن نقول لمخاطبينا الغربيين إن استرجاع الجولان هي أكبر خدمة تؤدى لقضية الديمقراطية في سوريا. بالقدر نفسه لم نكف عن القول إن الديمقراطية في سوريا أو عقلنة الحياة السياسية فيها هي أكبر جهد يبذل من أجل استعادة الجولان. وإنما باسترجاع الجولان والتحول نحو الديمقراطية في سوريا تسير الوطنية السورية نحو استكمال مقوماتها.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحت ظلال العار..!
-
ميشيل كيلو وولادة المثقف السوري
-
من -العروبة أولا- و-سوريا أولا- إلى الوطنية الدستورية
-
-انغماس في العيب- حقاً!
-
أوربا ومخاطر انفجار قيامي للشرق الأوسط
-
خارج السلطة: تحول موقع الماركسية الثقافي
-
تساؤلات بصدد الحرب الأهلية والحرب الطائفية
-
في أية شروط تغدو الطوائف فاعلين سياسيين؟
-
من سلطة غير دستورية إلى أخرى
-
إعادة تنشيط التمركز الأمني للسياسة السورية
-
هل يمكن للمقاومة الانتحارية أن تكون شرعية؟
-
مقاربتان حولاوان في التفكير السياسي العربي
-
العدو ذات تنقذ نفسها، ونحن ينقذنا التاريخ، لكن بأن نغدو موضو
...
-
ماذا يفعل السلاح في الشارع؟
-
التلفزيون والسجن: صندوقا السلطة
-
لماذا يخسر الديمقراطيون العرب لعبتهم الديمقراطية، دائما؟
-
عيد الكراهية الوطني الثالث والأربعون
-
القوميون الجدد وسياسة الهوية
-
-إعلانُ دمشق- واكتشاف سوريّا!
-
طاقة الرمزي والعقلانية الرثة
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|