|
كورونا وتمرحل التاريخ
علي أوعسري
الحوار المتمدن-العدد: 6533 - 2020 / 4 / 9 - 16:21
المحور:
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
لم أعد أكتب كثيرا في السياسة والاجتماع والفكر لأسباب متعددة يطول شرحها. يمكن تعليل ذلك الانعزال بظروف مهنية وانشغالات متعددة في البحث العلمي والتدريس والتكوين والتأطير، لكن ليس هذا هو السبب الجوهري على كل حال. السبب هو فلسفي اخلاقي يجد أساسه في الهدف من الكتابة في زمن يتسيد فيه كل من هب ودب المشهد السوريالي الانحرافي الأناني الانتهازي الوصولي الغارق في التخلف بالرغم مما يبديه هذا المشهد حداثة وتحديثا وهو من ذلك بعيد بعد السموات عن الأرض. كورونا جاءت لتدق ناقوس الخطر وتنبه الى ما وصلت اليه البشرية من ملهات وأزمات ولا معنى. البشرية في أزمة وجودية اخلاقية اقتصادية سياسية ديمقراطية بيئية و و و و ... السبب الرئيس في كل هذه الأزمات هو مأزق تطور الرأسمالية العالمية في طورها الراهن. على الأقل منذ الألفية الحالية استباحت الرأسمالية العالمية (خاصة المالية منها) كل الحدود المنطقية والشرعية والأخلاقية، فصارت تطيح بالدول وبالأنظمة وتفكك الشعوب، بداية بالتدخل العسكري المباشر كما في افغانستان والعراق وليبيا ثم لاحقا باستعمال الجيوش الارهابية الآتية من كل فج عميق تحت يافطة الجهاد"، وبتمويل البترودولار الخليجي (الحالة السورية). اسفرت كل هذه الحروب على مدى ما يقارب عشرين عاما (منذ احداث 11 نونبر 2001) على محو الكثير من الأنظمة من على الخارطة السياسية الدولية، ولأن الأنطمة هي هي الدول في الدول المتخلفة، فقد انهارت الدول بانهيار الانظمة السائدة فيها، الا ما كان من سوريا حيث كانت ساحة معقدة وبؤرة لصراع دولي بين محورين أحدهما بزعامة الرأسمالية العالمية مستعينة بأدوات ارهابية وصهيونية واقليمية رجعية، أما المحور الاخر (سوريا ايران حزب الله) مدعوما سياسيا وعسكريا من روسيا بشكل مباشر والصين من وراء ستار. هذا الصراع الدولي ودون الخوض في حيثياته وسيروراته لم ينته بعد، وهو أخذ، ويأخذ، أشكالا متعددة بحسب الظروف الجيوسياسية الدولية والاقليمية، أخرها كان الاتفاق في موسكو بين الرئيسسن بوتين وأردوغان حول ادلب وتحديدا الطرق الرئيسية (M4, M5). ما كان ليتم تنزيل وأجرأة هذا الاتفاق، حتى اعلنت منظمة الصحة العالمية كورونا وباء وجائحة عالمية. لم تتنفس الشعوب المقهورة والمشردة واللاجئة بين الحدود الدولية الصعداء (تركيا واليونان كمثال) حتى وجدت نفسها في مهب رياح كورونا. فاذا كانت الدول المتقدمة كالاتحاد الاروبي ان بقي هناك اتحاد بعد البريكسيت، وامريكا و و و مع استثناء العصر في الصين التي أخرجت كل طاقتها الكامنة لمحاصرة كورونا في معقله (يوهان)، اذاكانت هذه الدولة اليوم مشلولة فما بالكم بالشعوب المقهورة المشردة الاجئة وهي في مرمى كورونا عارية لا مأوى ولا ماء ولا تنظيف ولا شروط صحية. انها مأساة البشرية التي ما بعدها مأساة ... والتي كانت النتيجة الطبيعة لكل تلك القصة التي سميت يوما ما "الربيع العربي". على كل حال، ان ما قبل كورونا ليس هو ما بعده، وهذا على كل المستويات الحياتية والوجودية للبشرية التي تواجه شبح انقراض الملايين. ولأول مرة يجد سكان المعمور أنفسهم في مواجهة اشكالية كبرى ومعقدة تطرح تحديات وجودية وتاريخية تتجاوز ما هو منظور، والمنظور هنا سياسي (اعادة تنظيم الدولة في ماهيتها كدولة) اقتصادي (كيفية التعامل مع البطالة، وانهيار المؤسسات المالية،...)، الى ما هو بعيد يهم ليس فقط تنظيم كل مجتمع في دولة على حدة، بل يهم مجموع سكان المعمور، من ناحية اعادة تنظيم العلاقات الدولية على قواعد جديدة وعقلانية وانسانية، بعد افلاس كل المؤسسات الدولية التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية (الامم المتحدة، مجلس الامن، منظمة الصحة العالمي و و و ) وعدم قدرتها على احتواء الحروب والنزاعات الدولية ومخاطر اخرى لا تقل أهمية عن الحروب. العالم اليوم بات قرية صغيرة بعد الطفرات الكبرى التي حصلت في تكنلوجيا الاتصال والتواصل والذكاء الاصطناعي الذي يسيغير وجه العالم الى الآبد. ولذا على البشرية النفكير الجدي والعقلاني في مصيرها في عالم جديد لا يرحم. الأزمة اذن معقدة وطويلة المدى، بسبب من ذلك الانتقال التاريخي الكبير الذي دخلته البشرية، وهذا الانتقال كان يجري منذ مدة، غير ان ملامحه لم تتكشف بشكل واضح الا مع كورونا. ان التطور التاريخي هو ضرورة موضوعية من زاوية التحليل الماركسي، وهو كذلك ضرورة منطقية عقلية من وجهة النظر الهيجلي. يجري التطور التاريخي في مراحل وشروط معينة بشكل سلس ومتصل (continu) بحيث لا يخلق اشكالات وأزمات كبرى واضحة، لكن التاريخ في شروط محددة وبسبب من تراكم تلك الأزمات غير الواضحة قد يتطور بشكل فجائي غير متصل (discontinu) (كما هو الحال مع كورونا. ان ذلك التطور المفاجئ غير المتصل (القفزة) ليس سوى تكثيفا لما كان يجري في التطور المتصل، وهو تتويج له في لحظات وشروط محددة. ولئن كانت هناك شروط موضوعية (أزمة الرأسمالية، الحروب، الأوبئة...) وراء تلك القفزة التاريخية، الا أن مفاعيلها –أي مفاعيل تلك القفزة- تتجاوز كل القدرات الآنية للتحكم في تلك الشروط بسبب من أن هذه الشروط باتت من الماضي ولا فاعلية لها في الوضع الجديد، أي أنها خاصة بمرحلة ما قبل القفزة وليست هي هي الشروط المتولدة عن القفزة التاريخية. ان الشروط الجديدة بما هي مميزة وفاعلة في الوضع الجديد تستدعي أوقاتا عصيبة لفهمها والتحكم فيها وتوجيهيها لبناء الوضع الجديد. هذا تحديدا ما يجري علميا وطبيا مع فيروس كورونا. كل التراكم العلمي المعرفي التكنلوجي الخارق قبل كورونا (شروط ما قبل القفزة) بات عاجزا عن التحكم في الوضع الجديد، لأنه ببساطة لأن المفاهيم والمعرفة الخاصة بما قبل كورونا لم تعد قادرة على التعاطي مع كورونا باعتبارها طفرة (قفزة) في تطور الفيروسات. هل من الصدفة أن يتمرحلا تطور الفيروسات وتطور النظام العالمي الرأسمالي، هل من الصدفة أن يفاجئنا كورونا في زمن الحروب السالفة الذكر? أو قل للدقة في زمن أفول تلك الحروب بعد استعصاء سوريا (وهي هنا ساحة وبؤرة دولية للصراع) على الراسمالية العالمية، وهل? وهل? لا نتوسل في سبيل توضيح ذلك بنظرية المؤامرة التي سقطت أياما معدودات بعد تفشي الفيروس، وبنظريات أخرى يلجأ اليها ما يسمون أنفسهم باحثون، وهم في الحقيقة لا يقومون سوى بالتهريج. ليس في التاريخ صدفة، هناك انسجام قي التطور التاريخي من حيث هو كل متكامل يجري في بنية معقدة، لكنها موحدة بالرغم مما يبدو من تفاوتات بين عناصرها المتصارعة والمترابطة في آن واحد (لا وجود لصراع الا في ترابط)، فالسياسي والاقتصادي وهما مرتبطان بينهما أشد الارتباط، يحدد أحدهما الآخر ويتحدد به في الآن نفسه، يتطوران زمنيا بشكل متفاوت. وكذلك الشأن بالنسبة للعناصر الآخرى من قبيل الثقاقي والايديولوجي في علاقتهما بالسياسي والاقتصادي. والشيء نفسه ينطبق على المستويات المعرفية العلمية الابستملوجية والتقنية، فهي وان تفاوتت في تطورها الا أنها أشد ما تكون ارتباطا وترابطا في ما بينها من جهة كمستويات معرفية، وفي ما بينها وبين المستويات الاخرى وتحديدا السياسية والاقتصادية. لذا ما كان صدفة أن تفاجئ كورونا العالم وهو في مأزق سياسي واقتصادي ومالي وأخلاقي بسبب من مأزق التطور الرأسمالي في شقه المالي تحديدا، وهو نمط رأسمالي في صراع حاد مع نمط الانتاج الرأسمالي الواقعي. ليس هذا موضوعنا لكن من الافادة التذكير ان هذا الصراع الحاد كان يجري في أمريكا منذ أمد طويل، لكنه صار حادا منذ وصول ترامب الى الرئاسة، وهو يسعى لاعادة بناء الاقتصاد الواقعي المعتمد على الانتاج، فانه يواجه الدولة العميقة اللمثلة للراسمالية المالية المضارباتية المتوحسة. وهذا نقاش أخر لسنا بصدده في هذا المقال. ان التطور الرأسمالي بشكل عام يخلق فائض القيمة عند ثلة قليلة من الرأسماليين الذي يستولون ليس فقط على قوة العمل المأجور المنتزعة من العمال المقهورين البؤساء، بل أيضا يستولون على مقدرات الشعوب المفككة بسبب من الهجمة الرأسمالية العالمية كما وضحنا سالفا. يعمل الرأسماليون على تدمير النظام البيئي بلا هوادة. الولايات المتحدة الامريكية بصفتها مركز الرأسمالية العالمية انسحبت من كثير من الاتفاقيات المبرمة في هذا المجال وفي مجالات اخرى. لم تستثمر الرأسمالية في الصحة وهو ما تبدى في زمن كورونا، كل شغل الرأسمالية وديدنها هو الاستيلاء على فائض القيمة ومقدرات الشعوب أينما كان وتحت يافطات حقوق الانسان، حقوق الاثنيات، حقوق المرأة، الديمقراطية، و و و و. كورونا ليس فيروسا أو وباء فقط، فقد مرت البشرية من أوبءة وأمراض خطيرة حصدت أرواح الملايين، خاصة من المقهورين على وجه هذه البسيطة. زمن كورونا هو لحظة انتقال الى عالم جديد شديد التعقيد على الانسان والمجتمع والدولة والعلاقات الدولية. العالم القديم بكل مؤسساته السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية والرياضية وو... ينهار، وهو انهيار ضخم وشديد المفاعيل. لكن ملامح عالم الغد لم تتبين بعد؛ وكل ما هو مؤكد الى حدود اليوم أن البشرية ستواجه مشاكل معقدة وغير معتادة عليها من قبل. الانهيار كامل ولابد من اعادة البناء من جديد على قواعد تنصف الانسان قبل كل شيء. وهذه مهمة أساسية لمن سيبقون أحياء بعد زوال كورونا. أما الأموات فلهم الرحمة، وربما استراحوا في عالمهم الغيبي أكثر ممن هم ينتظرون في هذا العالم الفاني على كل حال.
#علي_أوعسري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في استشهاد الكاتب ناهض حتر
-
في نقض ما ورد في -يساريون وليبراليون يدعمون بنكيران.. ديمقرا
...
-
تركيا في المعادلات الإقليمية والدولية بعد الانقلاب الفاشل
-
في خلفيات الدولة العميقة، دولة الظل والتحكم
-
لعبة حقوق الإنسان وتفكيك الدول: يا حقوقيو أمريكا اتعظوا !
-
لعبة الإرهاب باتت مكشوفة وروسيا الأشد حزما ووضوحا في محاربته
-
الأصالة والحداثة في البادية على عكس ما يروجون
-
بمناسبة انتخاب الباجي قائد السبسي رئيسا لتونس
-
رسائل مغربية في ضوء نتائج استحقاقات 25 نونبر
-
قوى اليسار ومواجهة التحديات الراهنة في ضوء ما تعرفه منطقة ال
...
-
ملاحظات في الدولة، الأحزاب والحداثة السياسية
-
متى كان إسقاط الأنظمة بدعم امبريالي -تحريرا-!
-
إشكالية تقرير المصير وبناء الدولة المدنية في ظل الحراك الجما
...
-
قراءة متأنية في تطورات الوضع الليبي وتداعياته الاستراتيجية
-
تأملات في المسألة الدستورية في ظل المتغيرات الإقليمية والوطن
...
-
في نقد البيان الديمقراطي
-
أية آفاق بعد إقصاء دكاترة التعليم المدرسي من نتائج الحوار ال
...
-
في اعتصام الدكاترة العاملين بقطاع التعليم المدرسي: يوم مأساو
...
-
في مخاطر الأزمة الليبية على منطقة شمال إفريقيا
-
في إضراب دكاترة قطاع التعليم المدرسي تتكثف أزمة السياسة التع
...
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
الآثار القانونية الناتجة عن تلقي اللقاحات التجريبية المضادة
...
/ محمد أوبالاك
-
جائحة الرأسمالية، فيروس كورونا والأزمة الاقتصادية
/ اريك توسان
-
الرواسب الثقافية وأساليب التعامل مع المرض في صعيد مصر فيروس
...
/ الفنجري أحمد محمد محمد
-
التعاون الدولي في زمن -كوفيد-19-
/ محمد أوبالاك
المزيد.....
|