هل ولد الكتاب المقدس في بابل؟

آزاد أحمد علي

الحوار المتمدن-العدد: 6531 - 2020 / 4 / 7 - 14:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

ينهي جان بوتيرو كتابه وبالتالي أطروحته الفكرية حول الأديان المقارنة وتطور المعتقدات الدينية عبر التاريخ بالعبارة التالية: "ليس فقط أن علم الآشوريات غير مفيد بل أنه, في نظري, يملك امتيازاً عظيماً جداً وثميناً جداً: لقد جعلني عاجزاً عن إيذاء أي كان في العالم, عن إزعاج أي كان, عن تعكير صفو أحد. ألا يعتبر ذلك في هذه الأوقات, امتيازاً مدهشاً وشديد القدرة؟ .... لقد حيدني علم الآشوريات وجعلني جذرياً, غير مؤذ." ص300

لنفترض ما قاله صحيحاً فهل هو كافٍ؟! هل نزعة الرهبنة هذه كافية بالنسبة لعالم لغويات وأديان ومعتقدات قديمة؟ وكيف له أن يحدد بها ومن خلالها سقف عمله النظري المضني طوال عقود من الزمن؟
اعتقد أن المسألة ليست مجرد إيذاء بقدر ما هي تفاعل لوجهات النظر وأفكار، علماً أن بوتيرو هنا يخلط بين رؤيا منبثقة من عقلية رجل ناسك وآخرى لعالم بمجاهل التاريخ, مازالا يتصارعان فكرياً.
جان بوتيرو انخرط في سلك الرهبانية الدومينكية وعمره 17 عاماً. وبعد أن أتم دراسة الكتاب المقدس وباشر في تدريسه بدأ يعالج المستوى التاريخي لبعض مقاطع النص المقدس بمنهجية علمية تعتمد الشاهد والوثيقة التاريخية أساساً لها. مما أوقعه في خلاف مع المؤسسة الدينية فطرد منها واضطر للتوجه الى التدريس والبحث العلمي. بين تلك البداية والنتائج التي توصل إليها بوتيرو في مجمل أبحاثه، هنالك نصف قرن من المعاناة والعمل الشاق والبحث العلمي الرصين. موجز هذه المسيرة العلمية والحياتية نجدها في سرديته "بابل والكتاب المقدس", الذي جاء على شكل حوار سلس وطويل أجرته هيلين مونسا كرية مع الباحث، وقد أجادت هيلين في استنطاق هذا المفكر الى أقصى الحدود. فتحدث بإسهاب في موضوعات متشعبة ومترابطة ضمن خطة حوار ممنهج تم توزيعه على ثمانية محاور جاءت على شكل أقسام للكتاب وكانت على التوالي:
• سنوات التعلم
• ذاكرة من طين
• أسطورة الإشارات: اختراع الكتابة
• مفهوم الكون والمنظومة الدينية لسكان ما بين النهرين
• الأعمال والأيام
• تعدد آلهة بابل ووحدانية الإله في الكتاب المقدس
• جلجامش
• تاريخ الأديان وقصتها ..... نظرة عالم آشوريات

هذا الكتاب يتصف أولاً بعدم القابلية للاختزال نظراً لطابعه السجالي من جهة وكثرة الموضوعات التي ترد فيه من جهة أخرى. كما أن الكتاب يشكل بحد ذاته اختصاراً لأعمال وطروحات بوتيرو وهي في الوقت نفسه سرد لمراحل حياته العلمية المبعثرة على نصف قرن من الزمن المتخم بالقراءة والبحث العلمي، وكذلك فك ألغاز كتابات بلاد الرافدين. ومع ذلك يمكن التذكير بمجموعة من الثوابت الفكرية والمنهجية التي يرتكز عليها الباحث.
كانت انطلاقته العلمية مع قراءة كتاب رودولف أوتو "المقدس" فكان هذا النص بمثابة الخميرة التي جمعت شتات أفكاره وبلورت طروحاته الأساسية حول الديانة البابلية الأولى.
وبذلك يكون قد أسس فكره على نص منجز لباحث سبقه.
إضافة إلى ذلك فهو يعتمد على النص الرافدي المدون "الرقيم" كوثيقة أساسية لصياغة أفكاره حول المنظومات الدينية الرافدية الأولى وترابطها مع الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الحقبة التي ازدهرت فيها بلاد الرافدين.
علماً أن هذا الاعتماد الكلي على النص المسماري تطلب منه وقتاً وجهوداً مضنية. إذ تعلم أغلب اللغات الرافدية وخاصة السومرية والأكادية والبابلية والآشورية وتبحر في فك الإشارات والنصوص المسمارية التي بدأت المعرفة العلمية بها من قبله خاصة حوالي عام 1850 م.
يبين بوتيرو بالوثائق أن بداية التفكير الديني لدى الإنسان كانت في بابل وظهرت على شكل ديانة متعددة الآلهة، ثم توحدت في إسرائيل أخيراً كديانة موحدة مع ظهور "الكتاب المقدس" وبالتالي يؤكد بوتيرو أن ديانة " ما قبل تاريخية" كانت قد ظهرت في بابل وتطورت ونمت بطريقتها المتراخية خلال ألف عام لتصل الى ديانة متشددة ومنجزة ارتقت الى "ديانة تاريخية"
حرة ومراقبة بهذا الشكل في إسرائيل.
أخيراً لا يمكن لنا الجزم على منهج جان بوتيرو وأسلوبه العلمي والى أي مدى اندمج وتعاطف مع موضوع بحثه, ولكن يبدو بشكل جلي أنه – وإن لم يؤذ أحداً – قد ضخم ما هو آشوري في تراث المشرق على حساب ما هو رافدي عموماً، حيث أهمل ما هو شرق متوسطي خصوصاً. لأنه على الأرجح ينتمي إلى تلك المدرسة الاستشراقية ـ أو التيار ـ الذي يتجاهل تراث المنطقة الروحي الغني الذي ساهم في تأسيس أسست حضارات متعددة ومتراكبة خاصة على أرض كوردستان.
ــــــــــــــــ
الكتاب : بابل والكتاب المقدس
المؤلف : جان بوتيرو – هيلين مونسا كريه
ترجمة : روز مخلوف
الناشر : دار كنعان – دمشق – 2000

#آزاد_أحمد_علي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات