|
الأديان بين الفائدة والضرر
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 6527 - 2020 / 4 / 1 - 02:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من المعلوم أن وظائف الأديان متعدّدة ومتنافرة بحسب استخدامها، ليس من قِبَل «المستهلِك النهائي» لو جارينا عالم الاجتماع الألماني الكبير ماكس فيبر في استعارته للمجاز الاقتصادي عند تناوله للمؤسسات الدينية بوصفها تُشرف على ما أسماه «سوق سِلع الخلاص» ليس من قِبَل «المستهلِك النهائي» إذاً وحسب، بل وبالدرجة الأولى بحسب استخدام الأديان من قِبَل بائعي «سِلع الخلاص»، أي رجال الدين أنفسهم. فقد تراوحت وظائف الأديان منذ الأزمنة الغابرة بين مفيدة للبشر وأخرى مضرّة. ولو أخذنا انتشار الأوبئة على سبيل المثال، وجدنا فارقاً نوعياً عظيماً بل تضاداً بين توفير الدين بلسماً للجراح المعنوية، لاسيما في مواجهة الفَرد للموت ومواجهة الفَرد أو الجماعة لوفاة القريب أو الحبيب، تماشياً مع مساهمة رجال الدين في حثّ الناس على ما يعِز به علم الطبّ بغية حفظ حياتهم وهي غاية كل دين حنيف، هذا من جهة، وبين استغلال المشعوذين باسم الدين لحالات القلَق الاجتماعي، من جهة أخرى، كي يروّجوا بضاعتهم الأيديولوجية والسياسية في «سوق سِلع الخلاص» ويحثّوا الناس على مسالك من شأنها أن تُعرّض المزيد من الأرواح للخطر وتُفاقم الكارثة. هكذا نجد أن رجل الدين ذا النفوذ الأكبر على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو قِسّ إنجيلي («الإنجيلية» أقرب ما تكون إلى مرادف بروتستانتي للسلفيّة في الإسلام) يُدعى رالف درولِّنجِر، قد أسرع إلى ما يختصّ به المشعوذون، ألا وهو تفسير الكوارث الطبيعية بإحالتها إلى إله يتقمصّونه، فينسبون إليه ما يوافق أغراضهم الأخلاقية والسياسية التي هي دائماً غارقة في الرجعية والكراهية. فبعد تمحصّه في «دراسة متبصّرة للوباء في ضوء التوراة» (كذا)، فسّر قِسّ البيت الأبيض استفحال وباء كوفيد-19 في الولايات المتّحدة بأنه «غضبٌ من الله» سببه انتشار «الديانة البيئوية» (أي أنه عزا الوباء إلى من يكافحون الشروط التي أدّت بالمقام الأول إلى انتشاره!) وتسامح المجتمع إزاء «السحاق واللواط» (في الأمس عزا هذا النوع من المشعوذين مرض الإيدز للمثلية الجنسية وكانت حجّتهم انتشاره في بداية الأمر بين المثليين بصورة رئيسية، أما حجّة القِسّ هذه المرّة، فالله أعلم!).
وحسب تحقيق نشره موقع «ذي إنترسبت»، يُحيي درولِّنجِر حلقة دراسة للتوراة كل يوم أربعاء يحضرها أربعة وزراء من إدارة ترامب، منهم وزير خارجيته مايك بومبيو وعضوان في اللجنة المختصّة بمواجهة وباء كوفيد ـ 19. فليس تلكؤ ترامب في مواجهة الوباء بما سوف يكلّف بلده عدداً من الضحايا يفوق بكثير ما كان ليحصل لو اتخّذ التدابير الضرورية في وقت مبكّر، ليس تلكؤ الرئيس الأمريكي بلا علاقة مع توقّع القِسّ أن الوباء لا يعدو كونه «شكلاً خفيفاً» من الغضب الإلهي سوف يوجد له «علاجٌ بشري» في وقت قريب. وليس من الصدفة أن يكون القِسّ نفسه كارهاً للمسلمين والكاثوليكيين ومؤيّداً لنبذ المهاجرين وتخفيض الضرائب على الأثرياء. هذا وثمة قِسّ آخر من داعمي ترامب، يُدعى ريك وايلز، يتميّز بكرهه لليهود، وقد زعم أن الوباء انطلق من مؤتمر آيباك، منظمة أصدقاء إسرائيل، فخاطب اليهود قائلاً «إن الله ينشر الوباء في معابدكم لأنكم تعارضون ابنه المسيح، فتوبوا وسوف يتوقف الوباء» (كذا). وهكذا نجد أن الرئيس البرازيلي اليميني المتطرّف، جايير بولسونارو، أيّد إصرار الكنائس الإنجيلية في بلده على إقامة القداديس واستقبال آلاف المصلّين، مثلما فعل نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي يعتمد على تأييد قادة الكنيسة الأرثوذكسية الرجعيين في بلده. ولولا إصرار قائد الكنيسة الكاثوليكية الحالي، البابا فرنسيس، على موقف عقلاني إزاء الوباء، لحذا العديد من الكنائس الكاثوليكية حذو الإنجيليين والأرثوذكس الرجعيين، لاسيما في البلدان ذات الأغلبية الكاثوليكية والخاضعة لحكم يميني متشدّد على غرار بولندا والمجر. أما اليهود المتشدّدون في شتى أنحاء العالم، بما في ذلك داخل الدولة الصهيونية، فيصرّون هم أيضاً على التجمهر لتأدية الصلاة بالرغم من المحاذير الطبّية. وهكذا دواليك من ديانة إلى أخرى في سائر القارات، من شرق آسيا (مثال كوريا الجنوبية معروف حيث ساهمت جماعة دينية محلّية مساهمة ملحوظة في انتشار الوباء) إلى غربها وفي عموم أفريقيا. وطبعاً لا عجب على الإطلاق لما نشاهده في الشرق الأوسط من تنافس بين المشعوذين باسم الأديان والمذاهب، سواء أكانوا من المسيحيين أم من المسلمين ومن الشيعة أم من أهل السنّة، تنافُسهم على عزو الوباء إلى الديانة الأخرى أو المذهب الآخر أو إلى خصومهم السياسيين، وتنافسهم كذلك في الإصرار على أن فتح دور العبادة للمصلّين لا ينطوي على خطر لأنها تحت رعاية إلهية. فهؤلاء مثل أولئك مجرمون بحق شعوبهم مثلما هم مجرمون بحق الله الذي يتحجّجون به للحثّ على تصرّفٍ منافٍ للعقل وللمصلحة العامة.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البشرية والوباء والاشتراكية
-
وباءٌ مضاد للثورة؟
-
المملكة السعودية وحرب النفط
-
مهمة مستحيلة: الأمم المتحدة والملف الليبي
-
تصدّياً للحملة العالمية على المسلمين
-
تحية لشبيبة السودان الثورية
-
أردوغان ومخاطر لعب الشطرنج مع بوتين
-
هل فشلت اتفاقيات أوسلو أم نجحت؟
-
أرادها نتنياهو “فرصة القرن” فهل ينتزعها الفلسطينيون؟
-
دعهم إذاً يأكلون الكعك…
-
تكامل الأدوار بين تركيا وروسيا
-
لا أمريكا ولا إيران…
-
2019 وداعاً…
-
دراسة الدولة والثورة في المنطقة العربيّة من منظورٍ ماركسي
-
البلطجة الفكرية وخدّام الاستبداد
-
حكم آل الأسد: رفعت نموذجاً
-
تحية لشعب إيران الثائر والمعارضة الوطنية
-
الطائفية بوصفها سلاحاً أيديولوجياً
-
الثورة على أصحاب المليارات
-
«الممانعة» والطغيان الأجنبي
المزيد.....
-
24 ساعة أغاني.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على النايل
...
-
قائد الثورة الاسلامية:فئة قليلة ستتغلب على العدو المتغطرس با
...
-
قائد الثورة الاسلامية:غزة الصغيرة ستتغلب على قوة عسكرية عظمى
...
-
المشاركون في المسابقة الدولية للقرآن الكريم يلتقون قائد الثو
...
-
استهداف ممتلكات ليهود في أستراليا برسوم غرافيتي
-
مكتبة المسجد الأقصى.. كنوز علمية تروي تاريخ الأمة
-
مصر.. حديث رجل دين عن الجيش المصري و-تهجير غزة- يشعل تفاعلا
...
-
غواتيمالا تعتقل زعيما في طائفة يهودية بتهمة الاتجار بالبشر
-
أمين عام الجهادالاسلامي زياد نخالة ونائبه يستقبلان المحررين
...
-
أجهزة أمن السلطة تحاصر منزلا في محيط جامع التوحيد بمدينة طوب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|