زاهر رفاعية
كاتب وناقد
(Zaher Refai)
الحوار المتمدن-العدد: 6526 - 2020 / 3 / 30 - 19:20
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
رماه مكتوفاً في اليمّ وقال إيّاك أن تبتلّ بالماء, ولا زالت الحكومات ومن ورائهم قطيع النّخبة يسعون جهدهم ليل نهار لتحميل المواطن الفرد مسؤوليته الخالصة عن بؤسه وشقاءه, بل وينتقدون أخلاقيّاً وقانونيّاً تعاطي الفرد مع المستنقع الذي أوصله إليه مرتزقة الدين والسلطة و المال في هذا العالم, وذلك لأجل تبرئة ساحة السلطة من المسؤولية عن أمراض المجتمع وآفاته, وأيضاً للتهرّب من مسؤولية البحث عن حلول جذرية لهذه الآفات. ....
حثالة ما أنتجه تطوّر الإنسان في التاريخ هم رأسماليو السلطة هؤلاء ومن ورائهم زبانيتهم وجلّاديهم من جنود وبوليس, وهم جاهزون دائماً للتصدّي المسلّح لأي ظاهرة تشير بدلالات واضحة لاضطراب اجتماعي صحّي عند الشعب, ومن هذه الاضطرابات سنتكلّم عن ظاهرة إدمان عقار "ترامادول"
بلغت مستويات طلب هذه المادّة و الاستهلاك اليومي لها في دولة مثل مصر مستويات غير مسبوقة بل وفاق انتشارها انتشار أي مادة مخدرّة أخرى حتى الحشيش بذاته!!!! ولو نظرنا للشريحة العظمى من مدمني الترامادول حول العالم وفي مصر, وأيضاً أسلوب تناول هذه المادّة من قبل المدمنين لوجدنا خصوصية لتلك المادة وطريقة تعاطيها, فالشريحة المستهلكة هي العمال المهنيين من الطبقات الفقيرة العاملة بأجور تغطي بالكاد قوت يومها, بالإضافة للأمّهات المربّيات في الطبقة ذاتها, وعادة يكون أسلوب التعاطي في البدء على شكل حبّة واحدة صباحاً للاستعانة بالترامادول على إخفاء الآلام النفسيّة والجسدية النّاجمة عن تعرّض الفقراء والعمّال والأمّهات لضغوط ماديّة وعضليّة ونفسيّة في العمل والحياة اليوميّة تفوق بكل المقاييس قدرة الكائن البشري على التحمّل, وقد يبقى المرء على هذه الوتيرة من التعاطي مدة تختلف باختلاف الأفراد, ولكن الترامادول مثله مثل أي مشتق أفيوني يحتاج لرفع الجرعة حين يريد المرء مضاعفة التأثير ليتماشى مع تسارع وتيرة الحياة وضغوطها, كما قد يتطوّر شكل التعاطي من الفموي إلى الحقن, ليقع المتعاطي المسكين في النهاية فريسة الإدمان والإفراط في الجرعة التي قد تقتله في نهاية المطاف.
والأدهى الأمرّ من كل ذلك أنّ دور الاستشفاء من الإدمان لاسيّما في الوطن العربي وبسبب شحّ الدّعم الحكومي ما هي إلّا عبارة عن مافيات مال ومرتزقة برعاية وزارة الصحّة , وهي دور استجمام لأولاد الأثرياء والمقتدرين إذا ما وقعوا فريسة لإدمان هذه المادّة او تلك, وذلك لأنّ الحكومات تفضّل صرف الميزانيّة على وزارة الدّاخلية لاعتقال المدمن وليس على وزارة الصحّة لعلاجه!!!
دور الاستشفاء هذه ليست موجّهة البتّة للشريحة الحقيقية المعرّضة لخطر إدمان الترامادول وهي طبقة الفقراء التي تعيش وكأن الحياة أسبوعاً من الدهر لا أكثر يجب ان يجتازه المرء بأي ثمن. وذلك لعدّة أسباب:
أولاً: هؤلاء الفقراء لا طاقة لهم على دفع تكاليف دور الاستشفاء فهم يتعاطون الترامادول كي يعينهم على العمل طوال الوقت, هذا العمل الذي يجلب لهم من المال ما بالكاد يكفي لسدّ الرمق فكيف لهم أن يجمعوا منه ليدفعوا أجور دار شفاء متخصص نظيف قائم على أسس علمية ويحترم آدمية المرء؟ فهذه الدّور موجّهة بالأساس لطبقة الأثرياء أو المتشبّهين بهم من الطبقة المتوسطة القادرين على دفع تكاليفها.
ثانياً: الاستشفاء يتطلّب التفرّغ التام للخضوع لعملية سحب المخدّر ثمّ فترة نقاهة مدة تتراوح بين شهر وستّة أشهر, فبالله عليكم من أين لفقير أن يصرف على نفسه وعائلته هذه المدّة دون أن يذهب للعمل لاسيّما وأنّ هؤلاء الفقراء يعملون بقوت يومهم , أي أنهم في اليوم الذي لا يعملون فيه لن يجدوا ما يسدّون به بطونهم وبطون عائلاتهم الجائعة. ثم يأتي مرتاح البال ليقول له عليك أن تتفرّغ ستّة أشهر وأن تدفع التكاليف الباهظة حتى تشفى من مشكلتك الصحيّة!!
ثالثاً: حتى لو دخل الفقير المستشفى وتابع العلاج على حساب أحد المحسنين أو بقرض من البنك (وبالمناسبة قروض البنوك لعلاج الإدمان هي جزء من الخطة المافيوية لدور الشفاء) المهم أنّ هذا الفقير حين سيخرج من المستشفى سيعود للإدمان بنسبة 80 بالمائة حسب الاحصائيات وهذه نتيجة طبيعية لأنّ الإدمان بالأصل جاء نتيجة لا سبب, فلا احد يختار بملء ارادته أن يخدّر عقله طوال الوقت كي يخفي آلام جسده وروحه تحت وهم الدوبامين الكاذب في الدماغ و ذلك من أجل أن يخدم بجهود جسده الخارق طغمة من الأوغاد الرأسماليين في شركات تتنافس على نهش لحمه طوال الوقت فتجعله يبذل أكبر مجهود ليحصل على أقلّ مردود. وعليه حين يعود المتعافى لبيئته السابقة فهو يعود ببساطة لنفس البيئة والأسباب التي أودت به للإدمان أوّل مرّة.
رابعة الأثافي حين تأتي هذه الحكومات وتعرض للإعلام الغربي ومبعوثيه جهودها في مكافحة آفة الإدمان وتعرض لهم هذه المستشفيات التي هي في الحقيقة مشافي خاصّة مافيوية لا تنفق عليها الدولة سنويّاً أكثر من مرتب وزير واحد في حكومتها!!! .. دعني أخبرك أنّ جلّ جهود الدّولة الفعليّة لمكافحة الترامادول تتلخّص في تعيين جواميس بشريّة في سلك الشرطة للتنمّر على مرضى الإدمان في الطرقات و الحافلات بعبارتهم المشهورة" اييييييييييه بتضرب ترامادول ياااااااااااض"
هنا أودّ التوجّه بكلمات من القلب للمبتلى بإدمان هذه المادة والاعتماد عليها في حياته اليوميّة:
حاصر حصارك لا مفرّ .. فلا أحد إلّاك في هذا المدى المفتوح للنسيان والآلام... ولا تأمل بالحل من مصدر المشكلة فالكل مستعدّ لتجريمك ونبذك كي ينفوا عن أنفسهم تهمة التسبب في بلائك وآلامك.. كلهم يعتمدون عليك لتخفي ألمك بأي ثمن كي تخدمهم وتجلب لهم مزيداً من الربح ليتخموا به بطونهم..
مديرك في شركة الشاحنات أو الحافلات التي تعمل بها على دراية تامّة بانّ الوقت الممنوح لك لا يكفي لتقطع به نصف المسافة التي يجب أن تقطعها لتوصل الحمولة إذا ما أردت الاستراحة حين تنعس عيناك, ولكنه يتغافل عن ذلك وهو يعلم أنك تستخدم ترامادول لتبقى يقظاً طوال الطريق معرّضاً نفسك والآخرين لخطر التسبب بحوادث قاتلة ولكن عنده لا مشكلة لأن التأمين سيدفع أضرار الحادث والتعويضات له ولشركته وليذهب الجميع للجحيم ! ..
وأنت أخي العامل المهني, حين تعمل على آلات خطرة تحت تأثير الترامادول فأنت تعرض نفسك لخطر قطع يدك أو تعرضك لصدمة كهربائيّة تودي بحياتك وحينها لن يدفع أحد تعويضاً لك على الضرر وعلى حياتك, ببساطة لأن تحليل الدم سيظهرك بمظهر مدمن المخدرات الذي تسبب لنفسه بالحادث, متجاهلين متناسين أنّك تتعاطى تلك المادة كي تعمل لهم وتجني لهم عشرة أضعاف ما تجنيه لنفسك من وراء هذا العمل!!
وأنت أخي الحمّال يا من تنقل لهم أكياس السكّر والرز مقابل بضع دراهم لا تكفي لشراء كيس أرز واحد مما تنقله لهم في المستودعات, وتعرّض نفسك تحت تأثير الترامادول لحمولة لا طاقة لجسدك بها وذلك بتخدير نفسك عن إشارات جسدك التي تطالبك بالرّفق به والتوازن في استعماله, مما يتسبب لك بأضرار خطيرة في عمودك الفقري ولا أحد سيدفع تعويضات حينها لأن الضرر تراكمي سيظهر مع الوقت على أنه وهن التقدّم في السن وليس إصابة عمل.... ويا سبحان الله كيف أن هذا النوع من وهن الشيخوخة يصيب الفقراء في الأربعين ولا يصيب الأغنياء في الثمانين.....!!!
وأنتِ أختي التي تقومين بمسؤولياتك المنزليّة تجاه الزوج النزق والأولاد الصغار, هم يحتاجون لكِ على المدى الطويل بل كل العمر وليس لبضعة أشهر تقومين بها بواجباتك المنزليّة على أتمّ وجه تحت تأثير الترامادول ثم ينتهي بك المطاف عاجلاً غير آجل تحت تأثير جرعة مفرطة أو فضيحة تعاطي بين الناس المعتاشين على الفضائح لينتهي بذلك دورك كأم وإنسانة وتبقين حطاماً تلوكه ألسنة العواهر ويضحك منك النّاس حين تجرؤين على البوح بانّك قد لجأتِ لتعاطي الترامادول للتضحية بنفسك في سبيل منح زوجك وأطفالك الخدمات التي يستحقونها.
لذلك هيّا بنا نساند بعضنا بعضاً, ولنفهم لا لنحكم ولندعم الأزواج و الأخوة والأصدقاء ماديّاً ومعنويّاً من المبتلين بآفة الترامادول فهؤلاء مجبرين لا مختارين. ثم علينا أن نحذر وأن نقوم بالجهود التي نستطيع في العمل والالتزامات العائلية وأن نعتذر عمّا لا نستطيع فلا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها , وليس من العدل ولا احترام هديّة الله لنا أن نضحي بعقلنا وجسدنا في سبيل أن يرضى النّاس عن جهدنا !
وحين تدرك وتدركين هذه الحقيقة صدّقوني لن تحتاجوا لدور علاج كي تتعافوا من الإدمان بل ستتخلصون منه كما لو لم يكن, والأمثلة عندي كثيرة ..
#زاهر_رفاعية (هاشتاغ)
Zaher_Refai#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟