|
التعليم عن بعد في زمن الحصار
ناجح شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 6524 - 2020 / 3 / 27 - 21:11
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
أحببنا أن نشير إلى أزمنة الحصار وليس المرض لأننا في فلسطين نعيش أشكالاً من الحصار بسبب مرض الاحتلال المزمن قبل أن تعيد البشرية مؤخراً اكتشاف معاني الحصار، نحن "أساتذة" في علوم منع التجول القصير والطويل على امتداد السنوات الطويلة منذ تحول المشروع الصهيوني إلى دولة، لكن هل يعني هذا أننا قد أتقنا طرائق التعليم بدون قاعات دروس ومعلمين وسبورة...الخ؟ قبل كل شيء نود أن نقر بواقعتين تميزان التعليم في فلسطين ومناطق أخرى كثيرة في هذا العالم التعس: أولاً يقوم المعلم بدور التفسير أو الترجمة، بمعنى أنه يشرح للتلاميذ معنى الكلمات الفصيحة بكلمات عامية تنتمي إلى لهجتهم الأم. ثانيا يقوم المعلم بتدريب التلاميذ على آلية مكررة من أجل حفظ طريقة حل التمارين في المواد "العلمية". ثالثا: يقوم التلاميذ بحفظ المحتوى وطرق الحل وكتابتها على ورقة الإجابة عندما يطلب منهم ذلك. ما الذي يجري (وسيجري) في سياق الإغلاق الراهن؟ بالطبع يمكن اللجوء إلى الدروس التي يبثها التلفاز، وعلى الرغم من أن هذه الطريقة شائعة أصلاً إلا أنه يمكن الآن تكثيفها للتعويض عن الاقفال التام للمدارس، وفي فلسطين تحديداً يوجد إضافة إلى تجارب التعليم في ظل منع التجول أيام الانتفاضة وغيرها تجارب إعلامية من قبيل تلفزيون القدس التربوي التابع لجامعة القدس أبوديس وكذلك تجربة التعليم المفتوح التي تقدمها جامعة القدس المفتوحة التي تعد أكبر تجمع تعليمي جامعي في فلسطين، ليس من السهل باستخدام هذه الطرق التوجه إلى ممارسة التعلم الذاتي، ذلك أنه لم يتم تدريب الطلبة على القراءة أو إعداد المشاريع أو كتابة التقارير ...الخ، ولذلك أيضاً ليس من السهل حتى في سياق التعليم الجامعي القيام باختبار الطلبة إلا عن طريق الأسئلة التي تقيس الحفظ، وهكذا فكرت جامعة القدس المفتوحة على سبيل المثال في إرسال امتحان "موضوعي" مكون من 40 فقرة ليقوم الطلبة بالإجابة عليه خلال مئة دقيقة، وهذا "يضمن" أن لا يحدث الغش عن طريق ضبط عنصر الوقت. بالطبع لا يهدف الاختبار العتيد إلى اكثر من فحص مدى حفظ الطبة للمعطيات أو "المعلومات"، وهو ما يتوافق مع جوهر التعليم الذي اشرنا إليه أعلاه، لذلك نتوهم أن هذا الاقتراح موفق في سياق تحقيقه لأهداف التعليم المحلي.
هناك مبادرات كثيرة لتقديم الدروس عبر الانترنت، وهي تشبه فكرة تسجيل حصة على الفيديو ليشاهدها التلاميذ، ولسنا نعرف ما الذي يجعلها أفضل بالنسبة للتلاميذ من الحصة العادية، ذلك أنها تقليد للحصة العادية يتم فيها القيام بالتفسير والترجمة التي أشرنا إليها في المقدمة دون أن يكون هناك إمكانية للتساؤل. لم نتقدم بعد باتجاه التفكير في بدائل مختلفة نوعيا للتعليم التقليدي، ونعمة كورونا لم تؤت أكلها حتى اللحظة، ونظن أن ما يحدث هو محاولة لتسجيل الحصة التي كانت تقدم في داخل الصف أو في قاعة المحاضرة الجامعية، بالطبع لا يمكن لهذه التسجيلات بأشكالها المختلفة أن تكون بديلاً للتفاعل الحي بين التلاميذ من جهة وبينهم وبين أستاذهم/مدربهم من ناحية أخرى، لكن التعليم عن بعد يفرض نفسه على نحو ضروري، لا يمكن تجنبه إذا أردنا أن نتجنب الانقطاع التام في عملية التعليم، غير أنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الممارسة التعلمية داخل المدرسة أو الجامعة عندما تكون المهارات والخبرات مجهزة لتتحقق في سياق الاحتكاك بين الطلبة والاساتذة، أو في نطاق المختبر أو المناقشة الصفية المباشرة وعمل المجموعات..الخ. ينبغي أن نكون واعين لطبيعة المهام التي تتحقق فعليا في "المبادرات" الراهنة في فلسطين وغيرها، ومثلما قلنا فإن ما يحدث حالياً هو تقليد لما كان يحدث في المدرسة، وإذا كان الأصل ضعيفاً فإن التقليد أضعف دون شك، باختصار نقول إن وضع الحصص أو المحاضرات على النت لا يمثل تعليماً عن بعد، بل هو مجرد توفير لمواد تعليمية عبر الإنترنت لا تختلف في شيء عن المواد المكتوبة أو المصورة أو المسموعة التي يحوزها الطالب، لكن هذه لا تسمن ولا تغني من جوع بالمقارنة مع التدريب والخبرات والمهارات التي يفترض أن تقدمها المدرسة والجامعة. حصص النت هي مجرد نقل للحصة أو المحاضرة من اطار الصف إلى اطار جهاز الحاسوب يقوم الطالب بالتعامل معها، مثلما يتعامل مع المواد الأخرى الموجودة في حوزته قبل فكرة التعليم عن بعد، هذا يعني أن الفكرة كلها فيما نتوهم لا تزيد عن وسيط آخر لنقل المعلومات "البسيطة"، أما تدريب الطلبة على المهارات النظرية أو العملية أو طرائق البحث والتفكير ...الخ فإنها ببساطة لن تتحقق بحسب الممارسة التي نشاهدها حاليا. لسوء حظ كاتب هذه السطور فإن أي شخص على اطلاع على واقع الممارسة المدرسية والجامعية الفلسطينية، وربما العربية، يستطيع أن يقول إن كل ما نفعله أصلا في مدراسنا وجامعاتنا هو نقل المعلومات، بالتالي لا يفسد التعليم عن بعد لتعليمنا العربي أية قضية، هكذا يبدو أن التعليم "اون لاين" هو نقل معلومات ومعطيات و"حقائق" اون لاين لا أكثر. لكن من المفترض أن يقدم التعليم الإلكتروني للتلاميذ أموراً تزيد على ما هو موجود في الكتاب المقرر، وفي الظروف النموذجية يفترض أن يسعى التعليم عن بعد إلى تقديم "التجربة" التعليمية الغنية المستندة إلى الاحتكاك المباشر بالمعلم أو المحاضر قدر الإمكان، ويفترض فيه أن يبني أسساً للتفاعل بالاستعانة بتقنيات الشبكة العنكبوتية الهائلة، وأن يقدم فرصاً فعلية كبيرة للتواصل بين التلاميذ وكذلك بين التلاميذ والأساتذة وبين الأساتذة والأهالي..الخ .
العالم كله في مواجهة تحد حقيقي يتصل بابتكار الطرق التي تمكن المعلم من استخدام التقنية الفريدة من نوعها من أجل المحافظة على تقديم تعليم جماعي عن بعد، يطور مهارات التعلم الذاتي ولا يتخلى عن التدريب على مهارات التفكير والبحث، والمهارات العملية في فروع المعرفة المختلفة. هل يمتلك المدرسون المهارات التقنية لاستخدام الأجهزة الحديثة والتقنيات الإلكترونية، التي تساعد في عملية التعلم الجماعي والتعلم الذاتي؟ نعلم أن البعض هنا وهناك سيحاول التظاهر بأنه "شاطر" في استخدام الحواسيب والإنترنت، وأنه لم يتأثر كثيراً أو قليلاً بغياب الحصة والمحاضرة والمختبر، لحسن الحظ نتوهم أنه من بين أقل الناس تضرراً من ذلك السلوك الزائف المدعي يأتي بنو قومي الذين لا يقدم التعليم عندهم أصلا الكثير، مما يزيد على المعطيات المعلوماتية التي تحفظ عن ظهر قلب، لهذا لم نحس بالخوف الشديد من أن يؤدي الواقع الجديد إلى تخفيض مستوى التعليم عندنا، إذ ما الذي سيخسره تعليم يكتفي بحفظ المعلومات من انتقال عملية تلقين المعطيات المعرفية من نطاق الغرفة الصفية إلى نطاق شاشة الحاسوب؟ لهذا كله نود أن نقول إن بالإمكان "استغلال" الواقع الراهن لوجودنا في المنزل ما دمنا "محشورين" كلنا أو جلنا ونحوله إلى مكان للتعليم، لكن بالطبع لا يمكن أن نقوم بتعليم المواد كلها، هذا عبث على الأرجح، لكن يمكن لنا أن نركز على تعليم اللغة العربية والرياضيات على سبيل المثال باعتبار أن هذه هي اللغات الأساس لقراءة العالم والمجتمع والطبيعة، يمكن لنا ايضاً في سياق فلسطين أن نقرا التاريخ وخصوصا تاريخ فلسطين الحديث، وكذلك يمكن لنا أن نقرأ شيئا بمقدار من المتعة عن الكائنات الدقيقة من قبيل البكتيريا والطحالب والفيروسات. هذا زمن ملائم جدا، لأن الأطفال يرغبون دون شك في معرفة هذا الوجود الغامض الذي يهيمن على حياتنا على نحو غريب، من المهم فيما نزعم أن نحاول أن نجعل وقت التعلم والتعليم وقتاً للعب والتفكير والفرح، وبهذا نكون قد حولنا نقمة منع التجول إلى نعمة.
#ناجح_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مأزق غانتس بين أيمن عودة وأفيغدور ليبرمان
-
فلسطين في زمن الكورونا
-
أهلا كورونا
-
السوريون في سباق يائس لتجاوز هجوم النظام لوحشي
-
من سوريا إلى السودان، هذا هو البرهان
-
سرقة القرن والافتقار إلى المفاجآت
-
إحياء ذكرى الهولوكوست في اسرائيل
-
أفراح -العرب المتأسلمين- بانتصارات أمريكا
-
استهداف الصين بالأقليات الدينية
-
المرأة بين سيداو وعشائر الخليل
-
الشيوعيون والبرجوازية المحلية
-
الإنتاج المعرفي في ظل التمويل والاحتلال
-
ألعاب الصدر وملهاة الفوضى العراقية المأساوية
-
كيف نفهم ما يجري في بلادنا؟
-
الجزيرة والتحول الديمقراطي العربي
-
من بوليفيا إلى إيران وصولاً إلى فلسطين ولبنان
-
لبنان بين التحركات الغاضبة وفرص الثورة الفعلية
-
موراليس/بوليفيا وأكذوبة الديمقراطية
-
انتهينا من احتفالية وعد بلفور
-
ماهية الثورة الممكنة في لبنان
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|