أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - تموز14: الضرورة والماهية 4-4















المزيد.....


تموز14: الضرورة والماهية 4-4


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 1574 - 2006 / 6 / 7 - 10:58
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


(تموز14: الضرورة والماهية(4-4
وتأسيساً على ذلك " وفي اعتقادي, إن ثورة الرابع عشر من تموز, وهي الثورة الأصيلة, كما راينا, أعظم حدث في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ أولاً, لأنها أخرجت الاستعمار من قلعته الرئيسة في هذه المنطقة المركزية التي تؤلف حلقة الصلة بين اوربا وآسيا؛ وليس بخاف ما ينطوي عليه هذا العمل الجبار من خطورة, وهو الذي انفصمت به حلقة رئيسية في سلسلة المحالفات العدوانية الممتدة من المحيط الاطلسي في أقصى الغرب إلى جنوب شرق آسيا في آقصى الشرق؛ وليس بخافٍِ أيضاً خطورة موقع العراق بالنسبة لحرية شعوب الشرق الاوسط برمتها, لا سيما حرية الشعوب العربية التي كان العراق في العهد المباد, مقر التآمر ضدها والكيد لها. وثانياً, لأن هذه الثورة اطلقت الشعب العراقي الذي كابد الظلم والطغيان مدى قرون, فوعي ويلاته ومسوءه, حتى كان تصميمه على الخلاص من الظلم والطغيان جزءاً أصيلاً من كيانه, فتفجرت فيه قناة الثورة الحقه التي لا تلين. وثالثاً, لأن ثورة الرابع عشر من تموز, على الوجه الذي اوضحناه, تعبر في الواقع عن أماني شعوب الشرق الأوسط كله, العربية وغير العربية, إذ تقوم بأسس سليمة وقويمة, وبالمحتوى الذي كشف عنه قائده الأمين؛ وتنسجم كل الانسجام مع حركة التحرر في الشرق الأقصى, وتتوافر فيها شروط التعاون الوثيق مع قوى الحرية والسلام في العالم كله. وهذه الأسباب مجتمعة كانت الباعث الحقيق لإستبشار الشعوب المتحررة بفجر الرابع عشر من تموز؛ وللهلع الذي أنتاب عالم الاستعمار حتى كاد أن يفقد صوابه...[1] ". وعليه فإن " المبادئ الاساسية التي تقوم عليها ثورة الرابع عشر من تموز, باعتبار ،ها ثورة وطنية تحررية ضد الاستعمار, وإنها ثورة تقدمية ذد الاقطاع والرجعية, وثورة شعبية تعتمد الديمقراطية والقومية المتحررة؛ وهذه المبادئ تنطوي اجمالا على المخطط العام انظرية اثورة وخطتها...[2] ".

في الوقت نفسه, أتفق مع الفكرة التي مفادها أن ثورة 14تموز تفرض ذاتها علينا, ليس على وفق رغائبنا, بل باعتبارها تمثل بداية التاريخ الفعلي للعراق الحديث, خاصةً في المنعطفات والأزمات الحادة, بغية دراستها بعمق والتأمل الموضوعي (الصادق والصحيح) الواعي في تاريخيتها، وفي صيرورة ارتقاء مسيرتها، فيما حققته وما أخفقت فيه، في مدى ضرورتها وواقعية مشروعها، وفي تماثل مفردات برنامجها والواقع العراقي ومتطلباته آنذاك. بمعنى آخر لا يمكن الكشف عن مضامينها الحقيقية إلا بمعرفة درجة ترابطها وتجانسها مع ضرورات العلاقات الاجتماعية والأوضاع التاريخية الملموسة التي ظهرت فيها، ليس بصورة مجردة, بل لابد من الأخذ بالحسبان, الضرورات الملموسة والمصادفات المفاجئة ودورها وأدوار القادة وممارساتهم وتغيرات الزمن وتأثيراته على مسار تحقيق ذات الثورة, كعبرة للامس المنصرم وللحاضر المأزوم والقادم المأمول وكدلالة لتوحيد القوى الاجتماعية من أجل: الخلاص من كابوس القهر المزمن والتخلف الدائم والاضطهاد العنفي وتعزيز الهوية الوطنية بإطارها الفيدرالي وبكل تلاوينها والحد من هوة اللا مساواة الاجتصادية والجغرافية الجاثمة على واقع تكويننا الاجتماعي/السياسي ولإلغاء حكم الأقلية (بغض النظر عن مسمياتها) والنظرات الضيقة التي لا تعبر عن وحدة واقع التكوينات الاجتماعية، ومن الاستقلال السياسي والاقتصادي وإنهاء الاحتلال وتبعاته, ومن أجل الغد بما يحمل من مهام جسام على العديد من الأصعدة مثل:

1- الانسان والجماعة وحقوقهما الطبيعية والمكتسبة, الاجتصادية والسياسية والثقافية بالتوافق مع روح العصر ومستقبله والعراق وتطوره؛

2- البناء الاقتصادي/المادي وتطويرهما وفقا لسنن التطور وقوانينها وحراكها بالاستناد إلى ثروات البلد الطبيعية والبشرية وتحقيق ما أمكن من إنهاء التبعية الاقتصادية للمراكز الراسمالية بما يخدم مصلحة العراق؛

3- البناء الاجتماعي وتحقيق، ما أمكن، من فكرة المساواة وعدالة التوزيع للثروة المادية والحد من فعالية قانون التطور غير المتكافئ على المستويين الاجتماعي (بين الطبقات والتكوينات الاجتماعية) والجغرافي (بين المناطق)؛

4- البناء السياسي المنطلق من واقعية العراق وتركيبته الاجتماعية/ الاثنية، ومن جدلية أربع عناصر مترابطة: النظام الجمهوري؛ الاستقلال السياسي؛ الوحدة الوطنية؛ والإنتماء للأمة العربية، وبما يحقق التداول السلمي للسلطة ضمن التعددية السياسية ببعدها الفيدرالي, وتمتع كل المكونات الاجتماعية والاثنية والقومية بحقوقها الثقافية والسياسية والدينية ومساهمتها النسبية في القرار المركزي للسلطة , ومن أجل إنهاء الإحتلال وقاعدته الفكرية والعسكرية باعتباره المهمة الانية؛

5- البناء الفوقي[3] المنبثق من واقع جدلية علاقات الإنتاج السائدة وتلك المتبقية من الزمن المنصرم وهذه الحاملة بأجنة المستقبل المستهدف، التي تتعلق بالمكونات الفكرية والثقافية واللغوية، وماله من صلة بالعلاقات الأسرية المتحضرة، واحترم كينونة المرأة وحقوقها الطبيعية والاجتماعية، منطلقين في ذلك من أرأس ماهيات قانون الأحوال المدنية التي شرعته الثورة وعجزت كل حكومات عراق القرن العشرين من الإتيان بما يماثله أو حتى ما يقاربه؛

6- وغيرها من المهام الأرأسية، وما يتفرع منها ويستنبط عنها، والتي اضطلعت الثورة في إرساء قواعدها المادية وقطعت أشواطا في إرسائها، رغم عمرها الزمني القصير، التي كانت مرساة على قاعدة المعاناة الاجتماعية والسياسية والثقافية لعراق النصف الأول من القرن المنصرم، مما أبعدتها, بقدر الإمكان, عن العوم في فضاء (الاغتراب) والاستلاب[4] الإنساني بكل أشكال تحققه. وكانت مسألة إجتثاث الفقر وتحقيق اساسيات الحياة المادية والروحية والمساواة بين الجنسين تمثل أحد أبرز معالم ثورة تموز.

هذه المهام تنطبق على ما رسمته الثورة لذاتها من أجل تغيير العلاقات الاقتصادية الأرأسية السائدة آنذاك ومن ثم بالتعاقب, الاجتماعية مما أتاح لها ولوج صيرورة الارتقاء للزمن القادم، وذلك بما هيأته من ظروف ملائمة للتطور من خلال هدمها ما استطاعت، من أسس المجتمع القديم وعلاقاته الاجنماعية-الاقتصادية وتفكك طبقاته وفئاته كمحاولة لإخراجها من التأثيرعلى القرارات المركزية بأقل ما يمكن من العنف، وإن استخدمته بصورة مؤقتة وحسب الظرف الحسي فكان لأجل إيقاف العنف ذاته, رغم ما له من دور بإعتباره ( مولّد التاريخ) .[5]

كما اقترن كل هذا، بتغيير سلم أولويات الأنماط الاقتصادية التي كانت سائدة وتطويرها لاحقا ، وكمحصلة لذلك تغييرت أسس المجتمع الطبقية، وذلك عندما طردت من مسرح الحياة الاقتصادية/ السياسية طبقة (الإقطاع) ومنظومة قيمها وضوابطها ونسق عملها وذلك عندما غيرت علاقات الملكية الحقوقية للأراضي الزراعية وما ترتب عنها من إلغاء لعلاقات الانتاج شبه الاقطاعية وإلغاء النظم القانونية للمناطق الريفية ودمجها في التشريع الوطني الموحد، بغية إنشاء المقومات المادية للهوية الوطنية العراقية ووحدته ولترسي مقومات للمجتمع الجديد ، وتعول في ذلك على ما تنتجه الدولة من ثروات، طالما كانت الدولة بصورة عامة، ومنها العراقية منذ نشأتها بمثابة عتلة التغيير التي" تدفع حركة التطورالمفروضة عالميا[6] ". بمعنى آخر, كانت الثورة شرطا للتطور وتسارعه مثلما هي نتيجة له ولضروراته. وبقدر تغييرها لواقع المجتمع تغيرت هي بذاتها, طوعاٌ أو قسراٌ، بوعي قيادتها أو بدونه, بفعل أواليات ( ميكانزمات) التطور ذاته وواقع الصراع والحراك الاجتماعيين. يضاف إلى ذلك ما أرسته الثورة من قيم ومفاهيم واجتماعية ذات ابعاد إنسانية عبرت عن مدى شفافيتها كوسيلة لاستشراف للمستقبل المرجو بلوغه من خلال { ترجمة ذاتها من ليل الإمكانية إلى نهار التحقق} , عبر تطوير مجمل القوى والقابليات الاجتماعيتين والطاقات الفردية من خلال مساهمتها العضوية والفاعلة وليس من خلال التنظير المجرد أو التأمل والتلقي طالما إن انتاج هذه الأخيرة, هو في البدء من خلال التلاقح المباشر مع الفعالية المادية ومع علاقات البشر المادية التي هي بمثابة لغة الحياة الواقعية.. فالمفاهيم والتصورات والعلاقات الذهنية تظهر هنا كنتاج مباشر لسلوكهم المادي. كما أرست ثورة 14 تموز اللبنات المادية الأساسية لتطوير المجتمع المدني الذي هو بمثابة " عملية اجتماعية واقتصادية وثقافية مركبة[7] " والتي تسارعت خطاها بمسافات زمنية كبيرة بعد الثورة، لغاية الارتداد الكبير الذي بدأ مع إسقاطها المصطنع في شباط 1963 وتعمق بصورة كبيرة منذ منتصف السبعينيات ولغاية سقوط نظام البعث العراقي الثاني عام 2003.

لقد وعت قيادة الثورة شروط ذلك الظرف وتاريخيته، وكذلك إفضاءاته المستقبلية .. وحتى تلك الاهداف غير المنجزة، التي تنتمي إلى ذلك الزمن المحدد والمرتهن بالقوى الاجتماعية المعنية التي سادت آنذاك وعقليتها السياسية ورؤياها. أما ما تحقق من أهداف فإنها تنتمي إلى الزمن المستقبلي المفتوح والقوى الجديدة في تكوينها وإدراكها وفي أساليب عملها والواقع الجديد المتغير الذي تمخض عنها.. كأهداف وليس إرتدادات إسترجاعية للزمن ومتطلباته .

لقد مثلت ثورة 14 تموز مستقبل العراق الحقيقي والصحيح، مما أكسبها طابعها الموضوعي، الذي سيتخذ أشكالاً جديدة ربما لا تمت بصلة لتلك التي كانت عليها قبل الثورة، طالما من الناحية العلمية إن خطوط العلاقات بين الماضي والمستقبل، لا يحدده خط التواصل الإرتقائي للزمن، وإنما يكتمل شكله الحقيقي ومضمونه الأساسي بالانقطاعات الزمنية التي تعبر عنها الارتدادات في صيرورة الظاهرة ذاتها، حيث تتمظهر التناقضات بصورة أكثر تعقيداً وتأخذ سماتها من طبيعة القوة الاجتماعية المسيطرة. وهذا ما تمخض عنه الارتداد الذي تم منذ غياب التجربة التموزية/القاسمية في شباط 1963، والذي جسد، في أرأس وجوهه، التناقض التناحري الجوهري العميق لما مثلته ثورة 14 تموز وما نحتته في مكونات التركيبة الاجتماعية وتجديدها وما نجم عنها من تطوير للوعي الاجتماعي وفعاليته العضوية وقدرته على الممارسة الواعية.

في الوقت نفسه لعبت السمات الشخصية لقائد الثورة عبد الكريم قاسم, ومنظومة تركيبتها النفسية والثقافية وضبواطها الاجتماعية دوراً مهماً في حرث وتهيأت تربة التغيير في تاريخ عراق الحديث كما ساهمت بدورها في تحقيق التغيير ذاته كصيرورة إقتضتها الظروف الموضوعية.. كل هذا أهله إلى أن يضفي على الثورة وسيرورتها بعض من سماته ونظراته الفلسفية إلى الحياة وكيفية حل الإشكاليات الاجتصادية؛ كما أدى ذلك إلى تبوئه مكانة إجتماعية سياسية متميزة ذات طابع محوري, أُستنبط من خلال تخطيطه وتنفيذه لعملية التغيير ذاته يوم 14 تموز من جهة, ولكونه ساهم في تحقيق عملية التغيير من خلال إدارته السياسية والاجتصادية في البلد من جهة ثانية.. يضاف إلى ذلك إنطلاقه في إدارته للصراع الاجتماعي وإدارة الدولة من منطلق الأيمان بجملة من المبادئ السامية ووسائل استنبطت من ذات الغاية السامية لعملية التغيير ذاتها, ولم يكن يؤمن بفكرة (الغاية تبرر الوسيلة), بل سنَّ وأسس لجملة من القيم الاجتماعية والقانونية تصب في عملية بناء مجتمع لا عنفي وكان من هذه القيم:{عفا الله عما سلف} وطورها لاحقاً إلى قاعدة قانونية تنص على: {الرحمة فوق القانون } وهو منهج بقدر ما هو أخلاقي بذات القدر ذو جذور إنسانية عميقة نحتاج إليه دوماً لتطهير الذات البشرية, اليوم أكثر من الأمس, لأنه أحد العتلات الرئيسية في تعميق فكرة التسامح و شيوعها.. ولم يأخذ الزعيم قاسم بفكرة الأسكندر المقدوني { قطع العقدة بدلاً من حلها} والتي إتبعها كل الحكام الذين جاءوا من بعده بعد إغتياله والطرد القسري لمنهج ثورة 14 تموز عام 1963.. وكان من أهم ميزات قاسم وهو الضابط (كمختص محترف للعنف) تكراره المستمر وبأعلى صوته المقولة المشهورة { الجيش فوق الميول والاتجاهات} بغية الحفاظ على هوية الثورة وتحديد المهمة المركزية للجيش , بغية كبح جماحات الانقسامات في أخطر مؤسسة في الدولة ولمنع الانقلابات العسكرية وما يعقبها وإلغاء ما أمكن من ثقافة وممارسة العنف المادي كما نستطيع من السلوكية العملية لقاسم, إستقراء جملة من المبادئ السامية التي تعبر في حد ذاتها عن مثل حضارية تنافي ما كان سائداَ اجتماعياً مثل: " الرأفة ؛ النزاهة ؛ الزهد في الحكم ؛ عفة اليد ؛ المساواة أمام القانون ؛ التسامح ؛ كما أنه لم يستعمل أساليب غوغائية لردم الهوة السحيقة بين حقائق الواقع والأماني المراد تحقيقها ؛ ولم يلعب على خيبة الأمل الكاذب, بل حاول تحقيق ما أمكن تحقيقه رغم الصعاب وعدم الاستقرار [8] ".

في الوقت نفسه تستوجب الضرورة هنا الإشارة إلى السمات الثقافية والتعليمية التي رافقت هذا التغيير الكبير ومديات اختماراتها وانفتاحها على الكثير من الفلسفات عبر (دمقرطة الثقافة) التي حررت الثورة ابعاد امواجها، موسعة من فرص التعليم الذي اصبح مجانياً في كل مراحله[9] وإمكانيات التمتع بثمار الثقافة إلى جانب ما أوجدته أو ارتقت بما كان قائماً من مختلف أشكال التعبير الحديثة ومضامينها في الثقافة السياسية والأدبية والتصورات الشعبية وغيرها من المجالات. كما انها أنزلت ضربة قوية بالقيم الاجتماعية للعلاقات ما قبل الرأسمالية وبالمحصلة مهدت لسيادة الوعي المديني على الوعي الريفي. بمعنى شرعت الثورة الأبواب للحداثة الثقافية وما يرتبط بها من نهضة عامة وما يستنبط منها من مهام انعكست جدليا في الانعطافات الاجتماعية التي شهدها المجنمع بصورة جذرية.

إن سعي الثورة لاستيعاب الحداثة والانفتاح عليها، كممارسة عملية مستهدفة وعتلة للاندماج العضوي في ماهية العصر، أدى إلى تفتح المواهب والكفاءات الفردية بصورة ملحوظة، حتى أصبحت المواهب قوة اجتماعية بفضل ما وفرته الثورة من شروط مادية ومعنوية لتطورها الذاتي ونضجها الاجتماعي. هذا التحول أصاب وبهذا الكم الكبير، على الأخص، الفئات الاجتماعية الوسطى والانتلجنسيا (المدنية والعسكرية) وما دونها من فئات، لأول مرة في تاريخ العراق الحديث، بحيث أهلها لأداء أدوار لم تكن ظروف المرحلة الملكية تسمح لها بأدائها، وعلى الأخص ليس في رسمها للقرار المركزي للدولة وإنما في اتخاذ القرار على المستويين الاقتصادي والسياسي . مثلت هذه الجوانب أحد المضامين التاريخية لثورة 14 تموز. كل ذلك يؤهلنا القول:

لم تستنفذ الثورة مقوماتها، ولم تنتهي من استكمال المهمات التي أخذت على عاتقها تنفيذها، ولم تترك مسرح التاريخ نتيجة ذلك. قدر ما تضمنته الظاهرة العراقية ذات المكونات المتعددة والمتباينة والمعقدة، من مسارات داخلية متعرجة وتوترات اجتماعية مضطربة وصراعات سياسية عنفيه حادة، فُرض بعضها بصورة مصطنعة من قبل القوى المتضررة من الثورة ومسارها اللاحق، داخلية كانت أم خارجية، وبوَّصلتها لمسارات التوجه والصراع بغية القضاء عليها. ومما ساعد على ذلك عدم موافقة قيادتها على إيجاد قاعدة راسخة وثابتة للثورة والدفاع عن ماهيتها.

لذا تعتبر ثورة 14 تموز إحدى أهم المشاريع النهضوية إن لم تكن أهمها، في عراق العصر الحديث. وهي كما اشرنا سابقاً، نقلة حضارية نوعية وممارسة اجتماعية عضوية غيرت من واقع التركيبة الاقتصادية وانعكاسها الجدلي على العلاقات الاجتماعية والمناخ السياسي ودمقرطة الثقافية، ومن ثم شملت الكثير من معالم الحياة. إذ نقلت البلد إلى مرحلة أرقى بأغلب المقاييس. وكان لها امتدادا تأثيرياً (غير توسعياً) على دول المنطقة. بمعنى أخر أن الثورة كانت أهم عامل تحديث وتحفيز في عراق القرن العشرين، وربما في المنطقة برمتها، نظراٌ لما أحدثته من تأثيرات وتغييرات في التطلعات الممكنة للتطور، وفي خلخلتها لمعادلات توازن القوى الدولية في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسيةَ. أنها بمثابة (الثورة الفرنسية الكبرى) في محيطها الاقليمي وزمنها المعاصر. وهذا كان بحد ذاته عاملاَ مهماَ أرعب، بكل معنى الكلمة، المراكز الامبريالية الكبرى فتدخلت بكل الوسائل المادية وغير المادية لتقويض ماهيات الثورة، حتى لا تصبح قوة مثل وعنصر جذب لشعوب المنطقة, وهذا ما تم لها في {الزمن القبيح} الذي هو " عام 1963 نقطته الأولى التي إنقلبت فيها قيم وآمال ثورة 14 تموز ظهراً على عقب. ومنذ ذلك الحين أصبح تحطيم مؤسسات الدولة والمجتمع أسلوباً لترسيخ الرذيلة التي تجسدت تاريخياً في (بعث) الإستبداد الذي بلغ ذروته الكبرى عام 2003 وهو ايضاً عام سقوطه المخزي. وبهذا يكون العراق قد مر بمرحلة عمرها اربعون سنة هي مرحلة ( العقود المظلمة) التي تشكل بمعايير التاريخ السياسي (مرحلة ماضية) وبمعايير الرؤية الايديولوجية (حقبة بائدة) وبمعايير الثقافة (همجية خالصة) وبمعايير الجمال (قبحاً تاماً) وبمعايير الأخلاق (رذيلة لا مثيل لها) وهي أحكام سليمة [10] " .

وتأسياً على ذلك واستنباطا ًمما ذكر أعلاه، فإن حركة التغيير الجذري التي قادها الزعيم قاسم والعديد من الضباط الأحرار ضمن الائتلاف المحسوس وغير المرئي، في الوقت نفسه، مع بعض الأحزاب الفعالة والعضوية في جبهة الاتحاد الوطني (الحزبين الوطني الديمقراطي والشيوعي على وجه الحصوص), تعتبر الثورة الوحيدة في العراق في العصر الحديث والمشروع الحضاري الأول في القرن العشرين. والخطوة الأرأسية الأولى في ولوج عالم الحضارة وبناء القاعدة المادية للأنماط الاقتصادية الحديثة.

هكذا يخبرنا الحاضر عن مآل ثورة 14 تموز.. وما إنتهى إليه مصير الجمهورية الأولى ( تموز 1958- شباط 1963), حيث توقف التاريخ الفعلي للعراق المعاصر وإبتدأت الردة في المضمون الاجتصادي التي قادتها الفئات الوسطى أو بالأحرى الشرائح العليا لهذه الفئات ذوات المنطق والمنطلق العراقي والتي كانت مدعومة من قبل القوى اليسارية ذي الزوايا الفلسفية المختلفة؛ وشملت الردة كذلك في االماهيات السياسية والفكرية وتهديم الغايات النبيلة التي حاولت الثورة إرسائها حيث خلخلت مركزية الدولة وتحطمت التوازنات بين القوى الاجتماعية. ترى هل يمكن ان تعاد ثورة 14 تموز من حيث قيادتها وقواها الاجتماعية وبرنامجيتها ؟؟؟ في إعتقادي أن واقع العراق الحالي ونتيجة لطبيعة سياسة سلطات ما بعد إنقلاب 1963, وما اعقب الاحتلال الثالث من تدمير للبنى الأساسية للمجتمع, أدت هذه الاوضاع كلها وغيرها إلى عودة للعلاقات التقليدية والعشائرية والطائفية والعودة بقوة للولاءات الدنيا والدخول المكثف للإسلام السياسي.

هذه الظروف تستوجب العودة لثورة 14 تموز من حيث برنامجيتها العامة من جهة وطبيعتها الطبيقية من حيث قواها السياسية من جهة ثانية ومضامينها الاجتصادية من جهة ثالثة وأخيراً أفقها التاريخي. والأهم من حيث كون أن تكون الدولة غير تسلطية. هذا الاستنتاج مستنبط من حالات الصراع القائم بين القوى السياسية ضمن واقع الاحتلال (الثالث) وما يرسمه لمستقبل البلد وتطوره. كما أن المهام الانية والمستقبلية ستتمحور حول جملة من القضايا منها ما يتعلق بالحريات المدنية الخاصة والعامة؛ حول الحداثة والتقليد؛ حول العدالة الاجتماعية النسبية الطبقية والجغرافية؛ عن اللبرالية والديمقراطية؛ بين وجهات النظر الدينية واللا دينية؛ وعن مؤسسات المجتمع المدني؛ وعن طبيعة الدولة في علاقتها مع قوى الاحتلال.. ضمن آفق الواقع المادي الملموس


--------------------------------------------------------------------------------

[1] عبد الفتاح إبراهيم, معنى الثورة, , ص. 84, مصدر سابق.

[2] المصدر السابق, ص. 46.

[3] يقصد بالبناء الفوقي " مجمل أراء المجتمع السياسية والحقوقية والفلسفية والسلوكية والجمالية والدينية، كذلك العلاقات والمؤسسات والتنظيمات المطابقة لها ". وهذه الآراء تعكس واقع البناء التحتي (العلاقات الاقتصادية) المباشرة، وتتميز باحتفاظها باستقلاليتها النسبية عن هذه العلاقات، وبديمومة جزء من بقايا العلاقات القديمة، كما تشمل أجنة العلاقات المستقبلية. وهذه جميعها تؤثر بدورها على البنية التحتية، وهذا ما يعرف بالتأثير المتبادل بين القاعدة (السبب) والبنية الفوقية (النتيجة). أما البنية التحتية فهي " جملة العلاقات الاجتماعية السائدة في حقول إنتاج المادي والتبادل والتي تؤلف البنية الاقتصادية للتشكيلة الاجتماعية ".

[4] من الناحية النظرية " اكتسب مفهوم الاغتراب 0أو لااستلاب) حق الوجود الفكري الراسخ منذ أواخر القرن الثامن عشر وما يزال حتى يومنا هذا بين المفاهيم الفكرية البارزة في الفلسفات وفي علم الاجتماع. ورغم أن تاريخ المفهوم يرجع في بداياته الأولى إلى اللاهوت البروتستانتي ( لوثر إلأى كالفن), فإن استخداماته تشعبت وتنوعت على مدى قرنين من تطور الفكر الفلسفي والاجتماعي الأوربي... في الماضي كما في الحاضر نجد ان استخدامات هذا المفهوم متعددة على نحو ملفت إلى الانتباه , إلى حد أن مفهوم الاغتراب [ Entfremdung , alienation ] بات يخدم في توصيف أشد الظاهرات تبايناً وتنوعاً في ميدان الاقتصاد والسيسيولوجيا وعلم النفس إلى جانب الفلسفة واللاهوت..." راجع د. فالح عبد الجبار، المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب، مؤسسة عيبال للنشر، نيقوسيا 1991. والمفهوم يعبر في بعض استعمالاته عن احتجاج ضد الصفة اللا انسانية التي تتصف بها علاقات الملكية الخاصة.

[5] كان هذا الطريق محفوف بالمخاطر وهو الطريق الذي أقرته الثورة من أول يوم من أيامها ولم تنته منه ووجدت نفسها مغمورة فيه اضطراراً بفعل محاولات القوى المتضررة منها ومن مسيرتها اللاحقة ، الداخلية والخارجية. وكذلك من ردود الافعال وممما تمخض عنه صراع القوى الاجتماعية والسياسية الاقرب الى ماهيات الثورة.

[6] فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق ص.53، مركز دراسات ابن خلدون، القاهرة 1995.

[7] د. فالح عبد الجبار المصدر السابق ، ص. 52 ،

[8] د. عقيل الناصري,قراءة أولية في سيرة, ص. 97,, مصدر سابق.

[9] لقد " ازداد عدد طلاب الكليات الحكومية من 99 في العام 1921- 1922 إلى 1218 في العام 1940-1941 وإلى 8568 في العام 1958- 1959. وارتفع عدد طلاب المدارس الثانوية الحكومية من 229 إلى 13969، ثم إلى 73911، في السنوات نفسها. وحقق التعليم الابتدائي تقدما مماثلا. ومن ناحية أخرى لم يكن التقدم النوعي بهذه الإثارة نفسها على كل المستويات وأكثر من ذلك، ففي العام 1958 كان أكثر من ستة أسباع السكان لا يزال أميا". حنا بطاطو ،. ج. 1 ص. 52 مصدر سابق. كما " أن مجموع البعثات حسب سجلات البعثات الرسمية منذ 1921وحتى 1958(2021) فكان لهذه السجلات بعد الثورة أن وصلت إلى (2400)... وفي خلال هذه السنة 1959 تم إرسال أكثر من 3 الاف طالب وطالبه للدراسات العليا والتعليم العلمي, فضلاً على ألف منهم على نصف نفقاتهم الخاصة " عبد الكريم قاسم , حقيقة التاريخ وتاريخ الحقيقة, شهادة طالب حامد قاسم و رواية عبد العباس عبد الجاسم, ص. 102, دار الكتاب العربي, بغداد. التاريخ بلا.

[10] د. ميثم الجنابي’ العراق ومعاصرة المستقبل, ص. 6, دار المدى بغداد 2004.




#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 14 تموز : الضرورة والماهية 3-4
- 14 تموز.. الضرورة والماهية 2-4
- 14 تموز.. الضرورة والماهية
- الزعيم قاسم و الجواهري ولقائهما الأول:
- دراسة عن حركة الضباط الأحرار 6-6
- دراسة عن حركة الضباطالأحرا ر 5-6
- دراسة في حركة الضباط الأحرار4-6
- دراسة عن حركة الضباط الأحرار 3-6
- دراسة عن حركة الضباط الأحرا ر2-6
- دراسة في حركة الضباط الاحرار في العراق
- النضوج والتكتل الغائي 1948-1958
- حركة الضباط الأحرار- التكوين والتكتل الغائي
- النواتات الأولى لحركة الضباط الأحرار
- 14 تموز.. ضرورات الواقع وتناقضاته
- 1- عبد الكريم قاسم في عوالم الحياة العسكرية:
- مــن ماهيــات سيرة عيد الكريم قاسم
- في:الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لعراق مطلع القرن الماضي
- الضباط والسياسة في العراق الحديث :مدخل تاريخي
- عودٌ إلى البدء في أرأسيات التطور: 14 تموز: جدلية الفهم والمو ...
- البيئة الاجتماعية لبغداد ومحلاتها الشعبية


المزيد.....




- -لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د ...
- كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
- بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه ...
- هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
- أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال ...
- السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا ...
- -يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على ...
- نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
- مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
- نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عقيل الناصري - تموز14: الضرورة والماهية 4-4