أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وديع العبيدي - الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [25]















المزيد.....


الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [25]


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 6512 - 2020 / 3 / 12 - 20:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


(39)
قراءة ابن الجوزي البغدادي [1116- 1200م] في مناسخ القرآن..
[صعبٌ عليكَ أنْ ترفُسَ مَناخِسَ]- (اع 9: 5)
[مرّ عليّ على قاضٍ فقالَ لَهُ: أتعرِفُ النّاسِخَ مِنَ المَنْسُوخِ، قالَ لَا قال: هَلَكْتَ وَأهْلَكْتَ]-(ورد منسوبا لابن عباس أيضا)
[ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا]- (البقرة 2: 269):الحكمة: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحرامه وحلاله وأمثاله/ علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
[أكبرُ وَأبشعُ جَريمةٍ في تاريخِ الإسلامِ هِيَ فِقْهُ النّاسِخِ وَالمَنْسُوخِ]- د. طارق حميد
(1)
بين العامين الثامن والتاسع للهجرة، أي بعد (فتح مكة)/(8 هـ)، وقبل وفاته بعام وبضعة، جاءت سورة (توبة/ براءة)، وفيها (آيات) تنقض جملة المبادئ والأصول المتعلقة بالمعاملات بين الناس، وبين المسلمين وغير المسلمين، سواء كانوا من أهل الكتاب أو سواهم.
بعد موت محمّد، صار أتباعه يتدبرون (القرآن)، لاشتقاق منهج للحكم والسياسة العامة، حتى وجدوا أنفسهم في حيص بيص. وهنا برزت شخصيتان للحكم في الأمر، وتدبّر الدين والسياسة العامة، أحدهما علي بن عبد مناف: القاضي والفقيه، وعمر ابن الخطاب: الخليفة والسلطان.
الفقه عند عليّ في تلك الأيام المبكرة للاجتهاد والتدبّر عقب موت (النبيّ)، لم يكن بالمعنى الذي ترسخ لاحقا في أيام بني العبّاس، أو المعنى الجامد السائد اليوم. كان الفقه والتفقه يومها، بابا من أبواب إعمال العقل والتفلسف، لاستكناه النص وتقليب الأمر على أوجهه، لاستنتاج الرأيي/ الحكم.
وكان عليّ أسوة بنبيّه، مواطِنا لأحبار اليهود وعلماء الكتاب، العارفين بفنون الحرف ولغة المنطق والقصص والأساطير الخاصة بالحكام والأمم والأنبياء، واختلاف مدارس التفسير والتأويل . ولم يتعلم النبيّ والوليّ تلك العلوم والفنون والقصص فحسب، إنما تعلما طرق التعامل مع المعلومة/(الفكرة)، وطرق معالجتها الفكرية وصياغتها اللغوية والتفنن بنحوهاوإعرابها، وخلطها بالغريب والوحشي، حتى يلتبس النص على القارئ، ويختلط المبنى والمعنى، والمتشابه والحوشي والماقبل والمابعد.
وفي ذلك يستدرك ابن الجوزي على صياغة آية السيف/(9: 5) التي نسفت (114، 124) موضعا في القرآن، أنها مقطوعة بحرف الإستثناء: (إلا)، والتي اعتبر المفسّرون ما بعد الاستثناء، ناسخا، لما قبلها؛ الذي نسخ كلّ نصوص الموادعة والمسالمة والإنسانية واحترام الآخر، في القرآن.
من هذا الباب خرج ابن الجوزي بقاعدة لا تعتبر (الاستثناء) نسخا. بينما يتخذ فقهاء الناسخ والمنسوخ وواضعي التصانيف فيه، الاستثناء ضمن النسخ. ونحن نذهب مذهبهم، ولا نأخذ بفذلكة ابن الجوزي، الذي ينكر ظاهرة الناسخ والمنسوخ، ويكرّس جهده، للمراوغة والمداورة والالتفاف على مرويات الرواة، لتفنيد الظاهرة، واعتبار جملة النصوص الإشكالية في باب (المحكم). وهو ما كرّس له كتابه الذي نستعرض فيه فنون اللف والدوران ومراوغة النص لتضليل القارئ، وتعجيز/ تعطيل عقله أمام نص القرآن وأحاجيج الرواة والمحدثين.
عليّ هو مؤسس المدرسة الفيقهية الهارونية التي انتهى أمرها بأيدي العجم من بنيي بويه، في مقابل دخول البرامكة في صف سلاطين بني العباس. ولم يثبت لعليّ كتاب في الحديث أو الرواية أو التفسير والتأويل/ مما انتثر بشكل مشوّه بين جمهرة الرواة والمحدثين.
أما كتاب (نهج البلاغة) الذي يخالف عنوانه الفخم مضمونه الفجّ، فهو إساءة بالغة، أحسن الصنمان/(ابو الحديد والرضيّ) توجيهها، لمن ظهر في أعين العامة (تعظيما) له. فليس في النهج غير السباب واللعان التي اختصّ بها ضحايا التشيّع، ظنا منهم أنهم بها غالبون، وأن بلوغ الحق لا يكون بغير الشتائم واللعان وطعن الأعراض.
عمر الخطاب كان رجلا. وعندما يكون رجل في مرحلة خناثة، يستحق الرجل صفة التعظيم: (عمر رجل عظيم). وكان أحد رجلين، إلى جانب عبدالله بن أبي بن سلول/(ت 631م)، يهابهما محمّد لمكانتهما وشجاعتهما؛ فلم يرفض لهما طلبا، وقدّمهما في الرأي على الآخرين.
عمر الخليفة والسلطان، هو باني الدولة العربية ومهندس قواعدها، قبل أن تتحول إلى مطمع للمهاليس ومطيّة لأدعياء الوراثة المطلبية، أسوة بملوك الفرس والروم، وراثة مادية ودينية، وولاية تسلطية إقطاعية على دين ودنيا المخدوعين بالألقاب والمظاهر، من المغضوب عليهم والضالّين.
فلا غرو، أن يستخدم الدجل العباسي البرمكي، هاتين الشخصيتين؛ لترسيخ الانشقاق والفتنة في المجتمع الحجازي، وتفتيت العروبة والإسلام بين أتباع عمر وأتباع عليّ. ورغم انسجام الرجلين وتوافقهما وتعاونهما في الحياة العامة والخاصة، في الدين والدنيا؛ فقد افتعل النفر البائس، ما يؤجج الضغائن ويشحن النفوس بالشرور والظنون، لتشويه الانسان وتدمير الأمة، خدمة للعدوّ المتربّص. وعجبا لمن يفتخر بالعار، ولا يستحي من الشنار.
(2)
أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري. فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم [1116 -1200مـ) ، أصله من البصرة/ مرفأ فرضة الجوز، من أسرة ثرية، كان والده تاجر نحاس، توفي الوالد وابنه في الثالثة. ولد وتوفي في بغداد. تفرغ للدراسة والكتابة والتأليف حتى ربت تصانيفه على (300)؛ ويعدّ من غزيري التآليف.
لكن الصفة العامة لكتبه هي الجمع والنقل، وليس له شيء يختص به، سوى ملاحظاته المحدودة عن الحياة وطرائفها ومواقفها. عدّه ابن كثير [1301- 1373م] من العلماء المبرزين في علوم كثيرة، والمكثرين في مختلف التصانيف. ولعلّ فريدته عندي، اهتمامه المبكر بتدوين سيرته الذاتية، وما ترشح عنه من مشاعر ذاتية، وأفكار عن زمانه وأهل زمانه.
[كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء. فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم...فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه، وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيت في ترف، فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى؛ أثر معي مرضا قطعني عن كثير من التعبد، حتى أني قرأت في أيام: كلّ يوم خمسة أجزاء من القرآن. فتناولت يوما ما لا يصلح، فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها. فقلت: إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء، بكلّ حرف عشر حسنات. إن تناوله لطاعة عظيمة، وإن مطعما يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر، فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه/ (صيد الخاطر)].
وطبيعة تآليفه المتنوعة لا تضعه في مصاف الفقهاء وأدعياء التدين؛ وهذا ما يعلل نظرته التوفيقية، أو (الطهرانية) للدين/(الإسلام)، وجهده الانتقائي في رسم صورة مهذبة معقلنة، واستبعاد الاتهامات والشبهات وأبواب المعايب من النص والسيرة وتاريخ الإسلام.
جمع ابن الجوزي بين جاه الغنى وصيت الثقافة العالية لزمانه، مزيدة بجاه نسبه المنتهي بمحمد ابن أبي بكر التيمي/(شقيق أمّ المؤمنين عائشة) الذي ولاه عليّ على مصر، مكافأة له على دوره الرئيس في مقتل عثمان الأموي. فهو من ندرة العلماء الطالعين من نسب السّلَف الإسلامي الأول، الذين اختلفوا وقاتل بعضهم بعضا، بعد موت نبيّهم.
ان قراءة متمعنة لكتابات ابن الجوزي، يتكشف عن ظاهرة مهمة، لم يرد ذكرها، ولم يسبق تأشير احتمالها في التاريخ الإسلامي، ألا وهي: (الارستقراطية الثقافية/ الأرستقراطية الإسلامية)؛ وابن الجوزي هو الرمز الأول والأبرز لها. ولا تغيب عن كتاباته، نظرته الفوقية المزدرية لعوام المسلمين.
وتقوم نظرة ابن الجوزي إلى العامة اجتماعيا، والحوشي من الكتاب، على كلّ من: العامل الاقتصادي الطبقي من جهة؛ والعامل الفكري النخبوي الأرستقراطي، الذي أسس شخصيته الثقافية عليه، منذ نعومة أظفاره. بل أن وفاة والده المبكرة، لم تثر فيه مشاعر اليتم، أو الانحياز للطبقة الكادحة ومعاناة أطفالها.
هاته المعيارية النخبوية الفكرية والأرستقراطية الاجتماعية، شكلت معيارا أدبيا وفنيا، في ممارسته الكتابية؛ وكأني به، يسعى لتأسيس قواعد وأصول ثقافية اجتماعية منزهة ومنقحة، يقوم عليها جيل/ مجتمع عربي/ إسلامي جديد، مفارق، لمجتمعات الجهل والبداوة والعبودية، التي شكلت حاضنة التقاليد والإسلام المضطرب والمنقسم بين الحضر والبدو، وبين الروح القبلية وعقدة الزعامة النرجسية المطلقة.
من خصائصه في التأليف الانحياز للعقل والعقلانية، ونبذ الشائع بين العامة، وجمعه بين المذهب الفقهي والمذهب اللغوي النحوي، منهجا لقراءة النص، من غير الخلط بينهما. لكنه أميل لترجيح اللغة والإسلوب وفنون الخطاب على تخريجات الفقه المتعرجة، وغير المؤيدة بسند صحيح.
إلى أيّ حدّ يصحّ هذا الاستنتاج؟.. وهل أدرك معاصروه حقا، خاصيته الذاتية هاته،ومنهجيته التأسيسية؟.. لقد حظى ابن الجوزي بصيت ومكانة، قريبة من الصف/(صفوة) العليا في مجتمع العلماء والفقهاء، وهذا ينطوي على فهم خصوصيته، إلى حدّ ما. لكن مدى ظهور مدرسة (جوزية) ممتدة، سؤال يتجاوز هاته المحايثة!.
إهمال الخصوصية والمنهجية الجوزية، يشكل خسارة فادحة لفرصة تاريخية، كانت ستنقل الفكر والمجتمع الإسلامي، من حالها المتخلفة، إلى عتبة العقل والعقلانية والعلمانية. ولا ننسى، أنّ الإسلام منذ عهده اليثربي، تحديدا؛ صار مطيّة للأعراب/(البداة) والدهماء والطرق البلطحية للإعتياش والتسلط، وتغييب أبسط المعايير الخلقية والإنسانية، في العبادة والمعاملات؛ سواء مع المجتمع الداخلي، أو الأمم الأخرى، وسيما مع المختلفين عرقيا ودينيا وثقافيا.
وعندما ننظر اليوم، وننتقد النص والواقع الإجتماعي المسلم، لا يخفي، أننا ننتقد إسلام الغوغاء والسوقة والمتخلفين اجتماعيا وثقافيا، وهو المسمى عرفا، بـ(الدين الشعبي). ان طامة الأديان عموما، أنها (أديان شعبية). وأنها نتاج مخيال شعبي مشوّه وقراءات ذهنية واطئة لمفاهيم الغيب والألوهة والحقّ والخلق القويم.
وأنا شخصيا، كما ذكرت مرارا، تشربت المفاهيم الدينية والغيبية من والدتي. ورغم أن أفكارها أفرزت في داخلي نفورا من الدين والغيب والحرام؛ فأن جملة قراءاتي الفلسفية والمادية المبكرة، لم تنسف، ما أودعته في نفسي وذهني حتى الآن. لقد تشرّبت جرعات مركزة عالية من السموم، تحت عنوان (حليب الرضاعة).
على الفرد الحذر، أكبر الحذر من والدته. الوالدة التي تسخر كلّ مواهبها الحميمة، لزرع مشاعرها ومعتقداتها وعقدها وما تعتبره حكمة ونصيحة، لتسميم تكوين الابن/(لجعله نسخة مطابقة لهزيمتها). الفرد لا يفكر أن التعليم الذي تلقاه ف زمنه، أعلى بكثير كما ونوعا، من ثقافة والدته.
وبدرجة أعلى؛ لا يريد أن يعرف ويدرك، أنّ ثقافته وتعليمه وإدراكه اليوم، أعلى بكثير من مستوى ثقافة الفقهاء والملالي قبل قرون، بل هو أكبر من معارف وعلوم نبيّه وووصاياه الفكرية والأخلاقية، المنبتة في سطور القرآن والحديث والسنّة، وتخاريف التراث المشوّه والمصطنع والمفارق للعقل والعصر وسنّة التطور.
(3)
ثمة ثلاث اتجاهات في الموقف من الناسخ والمنسوخ؛ اتجاه ينكر وجودها، واتجاه يقرّها، واتجاه ثالث متذبذب بين بين. وما بين الاتجاه الأول والثالث، يقف ابن الجوزي. فهو باذل حقَّ جهده، لإنكاره؛ فإن استعسر، أخذ برأي القائلين به من رواة الحديث.
ومن المبادئ التي يبني عليها موقفه من الناسخ والمنسوخ..
- اعتبار (الناسخ) من المحكمات، وبذلك يجعلها في نفس المستوى مع النصوص المكية. والمحكمات هي المكية السابقة، ما خلا المنسوخ منها. واليثربيات جملة تدخل في (المتشابهة)، لأنها مستجدة، خارجة على سياق الخطاب المكي، وهي سبب الاختلاف والتناقض والانقلاب في الفكر والعمل الإسلامي. وما يزال الخلاف والنسخ مستمرا وعارما في الاسلام السياسي والموقف من التكفير والاغتصاب . واليوم ظهرت اتجاهات تكفر المسلمين أنفسهم لأدنى تفاهة، وتحل دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ولا تقتصر في ذلك على غير المسلمين. بينما يقف الفكر والفقه الإسلامي عاجزا ومكتوما، عن حلّ عقدة النسخ والمتشابه. فحياة الإنسان ودماء البشرية والنهب والاغتصاب لا اعتبار لها في (الإسلام) أو عند سماسرته ورعاة غنمه!.
- نفي النسخ عن الخبر/ الأخبار.
- نفي النسخ بالاستثناء.
- نفي النسخ في النصوص غير اليثربية.
- نفي النسخ بين نصين متوافقين/(النص لا ينافي ولا يناقض الثاني).
- التمييز بين حالات التخصيص والتعميم. والخاص لا ينفي ولا ينسخ العام.
- استخدام النحو إذا استعصت قاعدة الفقه.
- التنصيص على أوابد تاريخية، لتفسير وتفنيد تعليمات قرآنية مستجدة/(توريث المهاجرين لبعضهم- مثلا).
من هذا المنظور، فأن غاية ابن الجوزي في التعرض لمنسوخات القرآن، /(وعنوان (نواسخ القرآن) هو عكس المقصود. نواسخ: جمع تكسير للفظ (ناسخ). أما (منسوخ)، فجمعه (منسوخات) أو (مناسخ) ولذا استخدمت (مناسخ القرآن) تصحيحا للسهو).
(4)
مقدمة ابن الجوزي عن النسخ..
اتفق جمهور علماء الأمم على جواز النسخ عقلا وشرعا.
وانقسم اليهود في ذلك ثلاثة أقسام؛ فالقسم الأول: قالوا لا يجوز عقلا ولا شرعا.
وزعموا أن النسخ: هو عين البداء. والقسم الثاني: قالوا يجوز عقلا، ويمنع الشرع من ذلك. ومن هؤلاء من قال لا يجوز النسخ إلا في موضع واحد؛ وهو أنه يجوز نسخ عبادة أمر الله بها، بما هو أثقل على سبيل العقوبة لا غير. والقسم الثالث: قالوا يجوز شرعا لا عقلا.
واختلف هؤلاء في يسوع ومحمّد. فمنهم من قال لم يكونا نبيين، لأنّهما لم يأتيا بمعجزة؛ وإنما أتيا بما هو من جنس الشعوذة. ومنهم من قال كانا نبيّين صادقين، غير أنهما لم يبعثا بنسخ شريعة موسى، ولا بعثا إلى بني إسرائيل؛ إنما بعثا إلى العرب والأميّين.
وأما الدليل على جواز النسخ عقلا فهو أن التكليف لا يخلو أن يكون موقوفا على مشيئة المكلف، أو على مصلحة المكلف؛ فإن كان الأول فلا يمتنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني فجائز أن تكون المصلحة للعباد في فعل عبادة زمان دون زمان.
ويوضح هذا أنه قد جاز في العقل تكليف عبادة متناهية كصوم يوم. وهذا تكليف انقضى بانقضاء زمان ثم قد ثبت أن الله ينقل من الفقر إلى الغنى، ومن الصحة إلى السقم. ثم قد رتب الحر والبرد والليل والنهار وهو أعلم بالمصالح، وله الحكم.
والدليل على جواز النسخ شرعا: أنه قد ثبت أن من دين آدم وطائفة من أولاده جواز نكاح الأخوات وذوات المحارم والعمل في يوم السبت، ثم نسخ ذلك في شريعة موسى وكذلك الشحوم كانت مباحة ثم حرمت في دين موسى. فإن ادعوا أن هذا ليس بنسخ فقد خالفوا في اللفظ دون المعنى.
وأما من قال: لا يجوز النسخ: إلا على وجه العقوبة، فليس بشئ. لأنه إذا أجاز النسخ في الجملة، جاز أن يكون للرفق بالمكلف. كما جاز للتشديد عليه. أما دعوى من ادعى أن موسى أخبر أن شريعته لا تنسخ فمحال. ويقال ان ابن الراوندي [827- 911م] علّمهم أن يقولوا: أنّ موسى قال: (لا نبي بعدي): ويدل على انه لو صحّ قولهم، لما ظهرت المعجزات على يد يسوع؛ لأن الله لا يصدّق بالمعجزة مَنْ كذّب موسى.
فإن أنكروا معجزة يسوع لزمهم ذلك في معجزة موسى، فإن اعترفوا ببعض معجزاته، لزمهم تكذيب من نقل عن موسى، لأنه قال: (لا نبي بعدي).
أمّا الفرق بين النسخ والبداء: فذلك من وجهين، الأول: أنّ النسخ تغيير عبادة أمر بها المكلف. وقد علم الآمر حين الأمر أن لتكليف المكلف بها غاية، ينتهي الإيجاب إليها، ثم يرتفع بنسخها؛ والبداء أن ينتقل الأمر عن ما أمر به وأراده دائما، بأمر حادث لا بعلم سابق.
والثاني: أن سبب النسخ، لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالا على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول؛ مثل أن يأمره بعمل يقصد به مطلوبا، فيتبين أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل، فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه. وكلا الأمرين يدلّ على قصور في العلم، والحقّ منزه عن ذلك.
الشروط المعتبرة في ثبوت النسخ: خمسة.
الشرط الأول: أن يكون الحكم في الناسخ والمنسوخ متناقضا؛ بحيث لا يمكن العمل بهما جميعا. فإن كان ممكنا لم يكن أحدهما ناسخا للآخر.
وذلك قد يكون على وجهين، الوجه الأول: أن يكون أحد الحكمين متناولا لما تناوله الثاني بدليل العموم؛ والآخر متناولا لما تناوله الأول بدليل الخصوص، فالدليل الخاص لا يوجب نسخ دليل العموم، بل يبين أنه إنما تناوله التخصيص لم يدخل تحت دليل العموم.
والوجه الثاني: أن يكون كلّ واحد من الحكمين ثابتا، في حال غير الحالة التي ثبت فيها الحكم الآخر؛ مثل تحريم المطلقة ثلاثا فإنها محرمة على مطلقها في حال، وهي ما دامت خالية عن زوج وإصابة، فإذا أصابها زوج ثان ارتفعت الحالة الأولى وانقضت بارتفاعها مدة التحريم؛ فشرعت في حالة أخرى حصل فيها حكم الإباحة للزوج المطلق ثلاثا فلا يكون هذا ناسخا، لاختلاف حالة التحريم والتحليل.
والشرط الثاني: أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ؛ فذلك يقع بطريقتين: أحدهما من جهة النطق، كقوله [الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]- (الانفال 8: 66)
وقوله: [فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا]- (البقرة 2: 187).
والثاني أن يعلم بطريق التاريخ، وهو أن ينقل بالرواية بأن يكون الحكم الأول ثبوته متقدما على الآخر، فمتى ورد الحكمان مختلفين على وجه لا يمكن العمل بأحدهما، إلا بترك الآخر، ولم يثبت تقديم أحدهما على صاحبه بأحد الطريقين، امتنع ادعاء النسخ في أحدهما.
والشرط الثالث: أن يكون الحكم المنسوخ مشروعا: أيّ أنه ثبت بخطاب الشرع.
فاما إن كان ثابتا بالعادة والتعارف، لم يكن رافعه ناسخا، بل يكون ابتداء شرع. وهذا شئ ذكر عند المفسرين: فإنهم قالوا كان الطلاق في الجاهلية لا إلى غاية، فنسخه قوله: [الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان]- (البقرة 2: 229)، وهذا لا يصدر ممن يفقه. لأن الفقيه يفهم أن هذا ابتداء شرع لا نسخ.
والشرط الرابع: أن يكون ثبوث الحكم الناسخ مشروعا كثبوت المنسوخ؛ فأما ما ليس بمشروع بطريق النقل فلا يجوز أن يكون ناسخا للمنقول. ولهذا إذا ثبت حكم منقول، لم يجز نسخه بإجماع ولا بقياس.
والشرط الخامس: أن يكون الطريق الذي ثبت به الناسخ مثل الطريق الذي ثبت به المنسوخ، أو أقوى منه؛ فأما إن كان دونه فلا يجوز ان يكون الأضعف ناسخا للأقوى.
السور التي تتضمن الناسخ والمنسوخ أو أحدهما أو خلت عنهما..
(25) سورة تضمنت الناسخ والمنسوخ، هي: المدنية: [البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، والأنفال، التوبة، النور، الحجّ،الأحزاب، المجادلة] = (10)
والمكية: [إبراهيم، النحل، مريم، الأنبياء، الفرقان، الشعراء، سبأ، غافر، الشورى، الذاريات، الطور، الواقعة، المزمل، التكوير، العصر] = (25).
وهذا مخالف لمنطق الواقع، لكون ظاهرة الناسخ ظهرت في يثرب، فالمشمول بها النصوص المدنية، فكيف يعقل ابتداع نواسخ في النصوص المكية. فهذا يزيد الطين بلّة، ويجرّد نصوص القرآن من المصداقية تماما. ولذا، فأن تضميين النصوص المكية آيات ناسخة، مخالف للعقل والمنطق وتاريخية القرآن.
والمفارَقة.. أنّ النواسخ المكية في تعداد ابن الجوزي، تزيد على نواسخ المدنية بمرة ونصف؛ وهو الذي ينفي بعض المواضع، بذريعة أن النسخ لم يحصل قبل الهجرة إلى (يثرب)!.
(40) سورة تضمنت المنسوخ دون الناسخ، هي: المكيّة: [الأنعام، الأعراف، يونس، هود، الحجر، الاسراء، الكهف، طه، المؤمنون، النمل، القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، الملائكة، الصافات، ص، الزمر، المصابيح، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، ق، النجم، القمر، القلم، المعارج، المدثر، القيامة، عبس، الطارق، الغاشية، التين، الكافرون] = (36). والمدنية: [الرعد، محمد، الممتحنة، الانسان] = (4)
(6) سورة اشتملت الناسخ دون المنسوخ، هي: المدنية:[الفتح، الحشر، المنافقون، التغابن، الطلاق] = (5). والمكيّة [الأعلى]. وينطبق على سورة الأعلى المكيّة ما سبق قوله من قبل. إلا أن يكون تنسيبها للمكة خطأ، ويقتضي التصحيح.
(43) سورة محكمة خالية من ناسخ ومنسوخ، هي:المكيّة: [الفاتحة، يوسف، يس، الملك، الحاقة، نوح، الجن، المرسلات، النبأ، النازعات، الانفطار، المطففين، الانشقاق، البروج، الفجر، البلد، الشمس، الليل، الضحى، الشرح، القلم، القدر، الانفكاك، العاديات، القارعة، التكاثر، الهمزة، الفيل، قريش، الماعون، الكوثر، النصر، المسد، الإخلاص، الفلق، الناس] = (36). والمدنية: [الحجرات، الرحمن، الحديد، الصف، الجمعة، التحريم، الزلزلة] = (7)
()يتبع..



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [24]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [23]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [22]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [21]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [20]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [19]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [18]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [17]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [16]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [15]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [14]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [13]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [12]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [11]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [10]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [9]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [8]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [7]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [6]
- الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [5]


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي ...
- أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع ...
- الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى ...
- الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي- ...
- استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو ...
- في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف ...
- ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا ...
- فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
- ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وديع العبيدي - الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [25]