|
جدل حول ماسمي خطأ بالحجاب
توفيق بن عامر
الحوار المتمدن-العدد: 1573 - 2006 / 6 / 6 - 05:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جدل حول ما سمّي خطأ بالحجاب أ.د. توفيق بن عامر-جامعة تونس ما انفك الجدل حول ما يسمى اليوم خطأ بالحجاب يثور من حين لاخر في مشرق العالم الاسلامي ومغربه وبينه وبين بعض الدوائر والاوساط في العالم الغربي ايضا ولا سيما منذ اواخر القرن الماضي وصولا الى المرحلة الراهنة من بداية هذا القرن (1). وليس غرضنا من هذا التّدخّل ان ننخرط في ذلك الجدل او ان نساهم فيه بمناصرة او مقارعة اصحاب هذا الموقف اوذلك او ان نتبنى الدفاع عن خيار مذهبي او ايديولوجي بعينه. فليس ذلك مما نهدف اليه انما هدفنا محاولة تصحيح بعض المفاهيم والتذكير ببعض الاضواء على جوانب من هذه المسألة ويعين على تجاوز اسلوب الجدل العقيم ومنهج حوار الصم الى فتح الآفاق امام الحوار المثمر. لعل اول ما يتعين تصحيحه في هذا المجال ان مصطلح «الحجاب» قد وقع تداوله في ذلك الجدل بشكل خاطئ يحرّف معناه الاصلي كما عرّفه اللغويون وكما ورد في النصوص الدينية وفي مقدمتها النص القراني. فالحجاب في اللغة هو الساتر الذي يحجب كأن يكون ستارا او جدارا او اي حاجز يخفي ما وراءه (2) وقد ورد في النص القرآني بهذا المعنى في ثماني سور (3) ولم يرد في الآية المشهورة بآية الحجاب وهي الاية 53 من سورة الاحزاب للدلالة على نوع خاص من اللباس يوضع على الرأس سواء اكان خمارا او غيره. وهذا نص الآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي الا ان يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين اناه ولكن اذا دعيتم فادخلوا فاذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث ان ذلك كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق واذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك اطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا أزواجه من بعده ابدا ان ذلكم كان عند الله عظيما).
الستار الفاصل
لالحجاب كما هو واضح في هذه الآية قدورد بمعنى الستار الفاصل بين نساء الرسول عليه السلام والزائرين من المسلمين الذين كانوا يترددون على بيته. وقد تولى عليه السلام كما تواترت بذلك الأخبار اسدال ذلك الستار بنفسه امام مدخل البيت حتى اذا جاء المؤمنون لطلب حاجة من نسائه سألوهن من وراء حجاب اي من وراء ذلك الستار. يقول الطبري وهو الجامع لأقدم التفاسير واقربها الى عصر التنزيل في تفسيره لقوله تعالى : «فأسألوهنّ من وراء حجاب»: «يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن» (4) ويقول في عرضه لأسباب نزول الآية : «رواية عن انس بن مالك واصفا تصرف الرسول: «وضع رجله في اسكفة داخل البيت والاخرى خارجه اذ ارخى الستر بيني وبينه» (5) فالمستفاد من آلاية اذن امران اولهما ان المقصود بالحجاب هو وضع فاصل وحاجز يحجب عن العالم الخارجي وليس المقصود ارتداء لباس معين وثانيهما ان مسألة الحجاب هي مسألة خاصة بنساء الرسول ولا تشمل سائر النساء المسلمات وذلك مراعاة لمقامهن وتمييزا لهن عن عموم الناس وصونا لبيت النبوة فالخطاب في الاية يعنيهن دون غيرهن والمراد منه احتجابهن في بيوتهن ولزومهن لها وليس المراد الالتزام بزي خاص. حتى ان عمر بن الخطاب انتقد بعضهن عند خروجهن لقضاء حاجتهن بعد ضرب الحجاب عليهن وقال لسودة زوج النبي عندما مرت به: «قد عرفناك يا سودة» بالرغم من انها قد خرجت ليلا مجتهدة في الاختفاء عن الانظار لكنه تمكن من التعرف عليها من طول قامتها. لقد كان المراد اذن حجبهن عن الانظار ولزومهن بيوتهن لكن الاوضاع العمرانية ومرافق العيش كانت تضطرهن الى مغادرة البيت الى الخلاء لقضاء حاجتهن فاضطررن الى الاسترخاص من الرسول للقيام بذلك. يقول الطبري في روايتين عن عائشة قبل نزول الحجاب وبعده: الرواية الأولى: «ان ازواج النبي كن يخرجن بالليل اذا تبرزن الى المناصع وهو صعيد افيح وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر بأعلى صوته، قد عرفناك يا سودة، حرصا على ان ينزل الحجاب. قالت عائشة: فأنزل الله الحجاب»(6). الرواية الثانية: «خرجت سودة لحاجتها بعدما ضرب علينا الحجاب وكانت امرأة تفرع النساء طولا فأبصرها عمر فناداها يا سودة انك والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين او كيف تصنعين فانكفأت فرجعت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه ليتعشى فأخبرته بما كان وما قال لها وان في يده لعرقا فاوحي إليه ثم رفع عنه وان العرق لفي يده فقال: لقد اذن لكن ان تخرجن لحاجتكن» (7).
أحكام خاصة
ان الحكم الذي تضمنته الآية اذن هو حكم خاص بنساء الرسول والدليل القاطع على ذلك انه ورد في سياق احكام اخرى خاصة بهن تضمنتها الآية نفسها ولا يمكن بحال من الاحوال تعميمها على سائر المسلمات. فكما انه ليس لنساء الرسول ان يتزوجن من بعده فانهن لا يخاطبن الا من وراء حجاب مما يدل على خصوصية واضحة في هذه الاحكام تجعلها مقصورة على نساء الرسول دون بناته وامائه ومن باب أولى وأحرى دون سائر المؤمنات (8) وقد ادرك الصحابة هذه الخصوصية وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب نفسه الذي بينا دوره الفعال في مسألة الحجاب اذ روي ان احدى اماء الرسول وهي قيلة بنت الاشعث قد تزوجت بعد موته عكرمة بن ابي جهل ولما استاء ابو بكر الصديق من ذلك ذكّره عمر بانها ليست من نسائه وبأنه عليه السلام لم يحجبها وبذلك يتضح ان كلا من الحجاب ومن عدم الزواج هو امر خاص بزوجات النبي.(9) لكن بعض المفسرين والفقهاء من القدامى والمحدثين قد غضوا النظر عن تلك الخصوصية وتجاوزوها عن حسن نية وبدافع التقوى والحرص على ما نصت عليه الاية من «طهارة القلوب» المطلوبة من الجميع اقتداء بالرسول الكريم وبأمهات المسلمين (10) وانطلاقا من التمسك بذلك المبدإ مبدأ القدوة رأوا سحب ذلك الاجراء على سائر المؤمنات وتعميمه عليهن فما امر به الرسول واستجاب له من باب اولى وأحرى ان يستجيب له أتباعه وان يعملوا به وذلك قياسا على واجب الاتباع والطاعة لله ورسوله (11) بالرغم من انه عليه السلام قد نهى في بعض المناسبات عن ان يكلف المسلمون انفسهم ما يتكلفه لانه يتحمل من الامر ما لا يحتملونه ولكن دون جدوى (12) انه التوق الى المثل الأعلى وربما الافراط في في ذلك التوق والانجرار دون وعي الى ضرب من الغلو في الدين دين اليسر ودفع الحرج وعدم التكليف بما لا يطاق.
انزياح تاريخي
ولدينا انموذج من ذلك الانزياح نحو التعميم لعله من اقدم النماذج وهو ما جاء في تفسير الطبري لهذه الاية فهو رغم ادراكه لخصوصية الحكم المتعلق بمنع الزواج من نساء الرسول بعد موته معبرا عن ذلك بأسلوب الفقيه قائلا: «وما ينبغي لكم ان تنكحوا ازواجه من بعده ابدا لانهن امهاتكم ولا يحل للرجل ان يتزوج امه». (13) نراه ينزاح في تفسيره لقوله تعالى «فاسألوهن من وراء حجاب» عن المعنى الاصلي للخطاب الموجه صراحة الي ازواج الرسول فيقول «واذا سألتم ازواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي ليس لكم بازواج متاعا فاسألوهن من وراء حجاب» (14) ثم يمضي في هذا الانزياح الواضح الى التعميم المطلق على جميع النساء قائلا: «وقد قيل: ان سبب امر الله النساء بالحجاب.........»(15) وهكذا نكتشف ان تعميم الخاص في هذه المسألة هو من اجراء المفسرين والفقهاء منذ عصور قديمة تحدد على الاقل بفترة ظهور المدونة التفسيرية والفقهية. وقد كان ذلك الاجراء التعميمي القائم على عملية الانزياح عن الحقل الدلالي للآية سببا من الاسباب التي افضت بالمرأة المسلمة عبر التاريخ الى الانقطاع التدريجي عن الحياة العامة ولم يكن بدون شك السبب الوحيد فهنالك عدة عوامل تاريخية واجتماعية ونفسية قد تظافرت مع ذلك السبب وتقاطعت معه ليكون لها اثرها في تبني ذلك الخيار وفي املاء نوع من القراءة للنص الديني يستجيب لمقتضياتها ويقصي امكانات قرائية اخرى ولعل من ابرز تلك العوامل الدور الذي كان يضطلع به الرقيق في ذلك المجتمع باعتباره مجسما للقوى العاملة وقائما بشؤون الاسرة مما من شأنه ان يعفي المرأة الحرة من المشاركة في الحياة العامة ويحملها على نوع من التميز بلزوم بيتها. (16) وليست غايتنا في هذا السياق تفصيل القول في تلك الاسباب والعوامل بقدر ما تتمثل في التأكيد على ان الفكر الاسلامي قد امكنه ان يتجاوز منذ عصر النهضة وظهور الحركات الاصلاحية ماشكلته تلك النظرة من عقبات في سبيل نمو المجتمعات الاسلامية وتقدمها فخاض ذلك الفكر مع ابرز رموزه كقاسم امين (17) والطاهر الحداد0 18) معركة تحرير المرأة واندماجها في الحياة العامة اي معركة الحجاب لقد كان هم اولئك المصلحين مشاركة المرأة في شؤون المجتمع بقطع النظر عن نوع اللباس الذي ترتديه اذ لم يكن الجدل قد دار حوله اذاك. لقد انتهت اذن معركة الحجاب وخرجت المرأة من الحصار الذي ضرب عليها وارتادت مقاعد الدرس وورشات العمل واضحت عنصرا نشيطا ومساهما فاعلا في بناء المجتمعات الاسلامية الحديثة ليس لنا اذن ان نعود القهقرى لان تلك المعركة قد انتهت وخرجت منها المرأة المسلمة منتصرة. رغم ما في ذلك الانتصار من تفاوت في تحقيق الاندماج الكامل من مجتمع اسلامي الى اخر نظرا التفاوت تلك المجتمعات في مجال التنمية العامة وتطور انماط الانتاج وفي الاستجابة للدعوات الاصلاحية التي نشأت في أوساط النخبة لم يتح لها الانتشار والتغلغل في الاوساط الشعبية الا بعد ظهورها بعقود من الزمن. في معنى الخمار
فلنتخلّ اذن عن مصطلح الحجاب حتى لا نقع في خطإ مفهومي وتاريخي وديني ولنتبن مصطلحا آخر لان موضوع الجدل الراهن ومجال المعركة المعاصرة هو موضوع اخر ومجال اخر. انه يتصل رأسا بنوع خاص من اللباس يصطلح عليه بالخمار. وهو كما فسره اللغويون قناع تضعه المرأة على راسها (19) فنحن اذن ازاء معركة الخمار لا معركة الحجاب. وهذه المعركة الثانية تضاربت فيها وجهات النظر بين فريقين يرى احدهما ان الخمار لباس اسلامي وفريضة اسلامية ويرى الفريق الثاني أنه زي طائفي ابتدعته فئة من المسلمين في العقود الاخيرة وشذّت به عن مجموع الامة والاسلام براء منه (20) لنبدأ مع هذا الاختلاف وهذه المعركة من حيث بدأنا مع الخلاف السابق والمعركة الأولى وخير البدايات ان نعود الى التراث لنستنطقه فأين اخلمار من الاسلام وما هي منزلته الشرعية؟ ان ظاهرة الخمار هي من الظواهر التي نجدها في التراث الاسلامي بنوعيه الديني والتاريخي لكنها دينيا من اجتهاد الفقهاء في الفروع وليس فيها من النصوص ما هو قطعي الدلالة .(21) وما دامت كذلك فهي لا تعتبر من الاصول الملزمة التي يعتبر التخلي عنها معصية من المعاصي اما تاريخيا فقد وجدت هذه الظاهرة ولكنها لم تكن عامة او قارة او منتظمة في كل العصور اذ نجد المرأة المسلمة عبر التاريخ تلبس الخمار وقد تستعيض عنه بالقناع وقد تلبس نوعا اخر هو النقاب وقد تستغني عن كل ذلك وتكون سافرة وذلك حسب سنها ووضعها الاجتماعي (22). فلنتأمّلْ قبل النظر في اجتهاد الفقهاء في النصوص الدينية الاصلية وليس في النصوص الثواني ونعني النصوص الاصلية الكتاب والسنة وبالنصوص الثواني التفاسير والمدونات الفقهية. اجل لقد ورد مصطلح الخمار في النص القراني في صيغة الجمع «خُمُرٌ» وذلك في الاية 31 من سورة النور وهي الاية المشهورة عند المفسرين والفقهاء باية الخمار وهذا نصها: « وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها وليضربن بخمورهّن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهنّ او آبائهن أوآباء بعولتهن او ابنائهن او ابناء بعولتهن او إخوانهن أو بني إخوانهن او بني اخواتهن او نسائهن او ما ملكت أيمانهن او التابعين غير اولى الاربة من الرجال او الطفل الذين لم يظهروا على عوارات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا الى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون». ان الخطاب كما هو واضح في هذه الاية موجه الى عموم المسلمات لا كما كان الشأن بالنسبة الى اية الحجاب الخاصة بنساء الرسول عليه السلام فلنتأمل إذن في هذا الخطاب لنحاول ضبط دلالته والوقوف على المراد منه مستعينين في ذلك بالظروف والملابسات الخاصة بنزول الاية اي بما سماه العلماء «اسباب النزول». ان المطلوب من المسلمات في هذا الخطاب امران اولهما: ان يضربن بخمرهن على جيوبهن وعلّة هذا الامر فيما رواه المفسرون ان النساء في عصر الرسول كن يلبسن غطاء على رؤوسهن ولكنهن كن يسدلنه وراء ظهورهن فتنكشف بذلك صدورهن فجاءت الاية تأمرهن بجعل ما يتدلى من ذلك الغطاء على الصدر لاخفائه لانه موضع فتنة لا على الظهر كما كن يفعلن (23) والجيب هو اعلى الجلباب الذي كانت المرأة ترتديه اذاك (24). فالغاية من الامر اذن هي اخفاء الصّدر وستره عن الناظرين اما نوع اللباس سواء اكان خمارا او جيبا وجلبابا فقد كانت المرأة العربية ترتديه حسب التقاليد الاجتماعية قبل نزول الآية بهذا الامر فالنص اذن لم يأت بفرض نوع من اللباس خمارا كان او جلبابا (25) وانما اتى بالنهي عن كشف مواضع الفتنة والاغراء من جسد المرأة وهي المعبر عنها بالزينة التي لا ينبغي للمرأة ابداؤها الا لزوجها. وبناء على ذلك لا تعتبر الاية قطعية الدلالة في الامر بنوع خاص من اللباس هو الخمار وليس غيره ولا بضرورة تغطية الرأس وقد يعترض على ذلك بان الخمار مذكور في هذه الاية وبان مجرد ذكره يعني ان الاسلام قد تبناه وهو اعتراض مردود اذ كثيرة هي الاشياء التي ورد ذكرها في النص على سبيل وصف الموجود زمن التنزيل لا على وجه التّبنّي لها بالضرورة. وهي اشياء افرزها الواقع الاجتماعي. ولنا عبرة في ذلك بظاهرة الرق المذكورة في القرآن وهي سابقة لنزوله ولا يمكن ان نعتبر ذكره لها وتعامله معها تبنيا لها واقرارا وتزكية لاننا ندرك ان روح الرسالة يهدف الى المساواة وتحرير الانسان من العبودية. فليست العبرة اذن بحرفية النص وانما بالمبادئ والاهداف والمقاصد التي يرمي إليها. والاسلام في قضية الحال قد اتى بقيم ومقاصد ايضا ولم يأت بانواع من الفصالة للالبسة وتتمثل تلك القيم فيما نحن بصدد الخوض فيه في ضرورة التزام المسلمة بالمظهر المحتشم مراعاة للاخلاق الحميمة والسلوك المستقيم. تلك هي الدلالة القطعية لهذه الاية ويؤكدها ما تعرضت له من ضرورة ستر المؤمنات لزينتهن الا ما ظهر منها. قضية الزينة
وهنا نأتي الى ا لامر الثاني المطلوب من المرأة المسلمة والى القضية الثانية التي تثيرها هذه الآية: انها قضية الزينة التي تصنف فيها الى نوعين: زينة ظاهرة يمكن للمرأة إبداؤها للعموم وزينة خفية ليس لها ان تبديها الا لزوجها ومحارمها لكن الاية ليس فيها تفصيل لهذين النوعين ولاضبط للحدود الفاصلة بينهما. مما يفتح الباب للاجتهاد على مصراعيه لأن الدلالة هنا غير قطعية ايضا. وهو ما دفع بالعلماء الى الاستناد الى نصوص اخرى لتجاوز ظنية تلك الدلالة . فاعتمدوا الحديث النبوي المروي عن عائشة عن النبيّ انه قال: «لا يحلّ لآمرأة تؤمن بالله واليوم الاخر اذا عركت ان تظهر الا وجهها ويديها الى هاهنا» في اشارة الى نصف الذراع وكذلك الخبر الذي رواه ابوداود عن عائشة من ان اسماء بنت ابي بكر دخلت على رسول الله عليه السلام فقال لها: «يا اسماء ان المرأة اذا بلغت المحيض لم يصلح ان يرى فيها الا هذا» مشيرا الى وجهه وكفّيه لكن هذين الحديثين ليسا من الاحاديث الموثوق بها اذ لا تجدهما في الصحاح وقد انفرد بروايتهما ابوداود في سننه ولم يكن ابو داود من المتشددين في قبول الاحاديث. بالاضافة الى كونهما من آحاديث الاحاد أي ليسا من المتواتر ولا المشهور. ومن المتفق عليه بين العلماء ان احاديث الآحاد لا تعتبر اصولا في سن الاحكام. (26) وهكذا نجد انفسنا مع الحديث ايضا إزاء نصوص غير قطعية فلا مستندَ قطعيا اذن في الكتاب والسنة لوجوب التزام المرأة بنوع خاص من اللباس او بوضع غطاء على الرأس يعرف بالخمار. وما دامت تلك النصوص غير قطعية الدلالة فيما يتعلق بالكتاب وظنية الثبوت فيما يتصل بالحديث فقد اضحت المسألة مجالا مفتوحا لاجتهادات المفسرين والفقهاء فكيف كانت تلك الاجتهادات؟ لقد سبق ان قلنا ان من بين ماورد ظني الدلالة في النص القراني هو مسألة الزينة الظّاهرة اذ لم يقع تحديدها وتفصيل القول فيها فانبرى هؤلاء يحددونها ويفصلون القول فيها مستندين في ذلك الى اقوال السابقين والصحابة والتابعين كابن مسعود وابن عباس وقتادة وعطاء وسفيان الثوري وغيرهم. وقد اختلف العلماء في تحديد المقصود بالزينة الظاهرة فرأى بعضهم انه الحلي والكحل ورأى غيرهم ان المراد بالزينة التي يجوز للمرأة اظهارها لغير زوجها ومحارمها هو الثوب الذي ترتديه مستدلين على ذلك بقوله تعالى: «خذوا زينتكم عند كل مسجد» (27) في حين يرى فريق ثالث ان المراد بها الوجه والكفان (28) وطبيعي ان يقع الاختلاف في امر هو محل اجتهاد وليس محددا بالنص. ومع ذلك سعى بعض المفسرين والفقهاء الى تقنينه وتحديده بترجيح احد هذه الاقوال على سائرها. ومن اوائل الذين قاموا بعملية الترجيح هذه ابن جرير الطبري في تفسيره فرغم اقراره بأن «ذلك مختلف في المعني منه بهذه الاية» رأى ان اولى تلك الاقوال بالصواب هو الرأي الثالث الذي رواه عن سفيان الثوري وعن الضحاك واعتمد في تغليب ذلك الرأي وترجيحه على عملية قياسية ايضا فقام بقياس ما اختلف فيه العلماء على ما اجمعوا عليه ليصل بذلك الى موقف موحد. وفحوى ذلك القياس هو المطابقة بين هيأة المرأة في الحياة العامة وهيأتها عند اقامتها للصلاة فقال ما نصه: «وأولى الاقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُني بذلك الوجه والكفان يدخل في ذلك اذا كان كذلك: الكحل والخاتم والسوار والخضاب. وانما قلنا ذلك اولى الاقوال في ذلك بالتأويل لاجماع الجميع على أنّ على كل مصلّ ان يستر عورته في صلاته وان للمرأة ان تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وان عليها ان تستر ما عدا ذلك من بدنها الا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اباح لها ان تبديه من ذراعها الى قدر النصف. فاذا كان ذلك من جميعهم اجماعا كان معلوما بذلك ان لها ان تبدي من بدنها ما لم يكن عورة كما ذلك للرجال لان ما لم يكن عورة فغير حرام اظهاره. واذا كان لها اظهار ذلك كان معلوما انه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله «الا ما ظهر منها» لان كل ذلك ظاهر منها» (29). قياس عجيب
انه فعلا قياس عجيب! كما لو كان القصد منه جعل المرأة في حالة صلاة دائمة وعبادة مستمرة وكأنما ليس من حقها بعد أداء واجبها نحو خالقها ان تنتشر في الارض وان تبتغي من الرزق كغيرها من المخلوقات. كيف تجوز المماثلة والمقايسة بين الاوضاع المختلفة والهيئات المتباينة؟ وكيف تسوغ المطابقة بين مقام الصلاة وما يستوجبه من خشوع عند الوقوف بين يدي الله عز وجل ومن تجرّد من مشاغل الدنيا وسائر المقامات التي يحق للمرء فيها ان يخوض غمار الحياة؟ اليس في جعل المرأة في خشوع دائم حمل لها على نوع من الرهبانية حيث لارهبانية في الاسلام؟ ثم اليس في قوله عليه السلام «لا تقبل صلاة الحائض الا بخمار» دليل على انها في غير ذلك الموقف معفاة منه؟ لقد كان من نتائج ذلك القياس ان اعتبر الفقهاء جسد المرأة كله عورة ما عدا الوجه والكفّين وان قرئت النصوص ورشحت للدلالة على هذا الضرب من التأويل الرجولي لاهداف الرسالة ومقاصد الوحي. انها قراءة قد امتزج فيها الديني بالاجتماعي ووظّفت فيها النصوص لمقتضيات اعراف واوضاع اجتماعية كنا المحنا الى بعضها عندحديثنا عن مسألة الحجاب. وذلك هو دَيْدَنُ الفقهاء انهم يجتهدون في سنّ الاحكام على ضوء ملابسات واقعهم التاريخي وكما يعملون على تكييف الواقع لمقتضى النص يحاولون ايجاد الصيغ الدينية الكفيلة بملاءمة ذلك الواقع والمناسبة لما يمتزج به من مصالح واعراف. ولكن ما العمل والفقه جزء من الشريعة ان لم يكن الشريعة كلها؟ ذلك ما كنا نعنيه عندما قلنا ان ما يسمى بالخمار هو جزء من تراثنا الاسلامي والتاريخي صاغته الرؤى الفقهية على ضوء واقعها الاجتماعي. الا ان التراث الاسلامي قد تضمن الى جانب هذه الرؤية القائمة على القياس والتي كانت لها السيادة عبر مختلف العصور الاسلامية لاسباب ثقافية واجتماعية رؤية اخرى تبناها بعض المفسرين والفقهاء واعتمدوا فيها على العرف باعتباره عندهم اصلا من اصول التشريع فرأوا ان ضبط الجائز اظهاره من الزينة او تحديد المقصود بالظاهر منها موكول الى الاعراف والتقاليد التي تختلف باختلاف البيئات والعصور وجوّزوا كشف ما تدعو الضرورة او العادة الى كشفه وما الاصل فيه الظهور دون تعمّد الاظهار وذلك تجنبا للمشقة في عملية السّتر ورفعا للحرج (30). فقد تعددت الرؤى اذن حول هذه المسألة لصيغتها الاجتهادية ومن الواضح ايضا ان هذه الرؤية الثانية هي اكثر مراعاة للتطور وتبدل الاوضاع والعادات ولكنها قد همشت لصالح الرؤية الاولى. سبيل الاجتهاد
وهكذا نجد انفسنا اليوم امام خيارين لا ثالث لهما: اما ان نختار سبيل الاجتهاد في تلكم الرؤى على ضوء مقتضيات عصرنا وواقع مجتمعاتنا الراهن باعتماد قراءة واعية للنصوص التأسيسية تميز بين القيم الجوهرية والثابتة التي تشكل مقاصد الرسالة والتي منها نستمد عقيدتنا في خلودها واجتهادات السابقين في الصيغ التي تبنوها لتطبيق تلك القيم فتكون لنا بذلك رؤانا واجتهاداتنا ايضا في التعامل مع تلك القيم وفي تجسيمها على ارض الواقع.... او ان نختار سبيل التقليد لرؤى الماضين على انها هي المراد قطعا ونهائيا من رسالة الاسلام دونما تمييز بين ارادة السماء وتمثلات البشر وتصوراتهم واعتبار الخلود في تلك الرسالة مرادفا للجمود.واذا ادرك المسلم المعاصر ان الاجتهاد هو من واجباته الدينية المؤكدة وان لااجتهاد الا على ضوء اوضاع العصر وعلومه ومعارفه كان عليه ان يدرك ايضا ان نقطة الانطلاق في العملية الاجتهادية هي مراجعة التراث وان تلك المراجعة تقتضي التمييز فيه بين الابعاد الدينية والمكونات الاجتماعية.
الهوامش
1) انظر على سبيل المثال مجلة الملاحظ التونسية الصارة في 18 جانفي 2006 وبعض التصريحات الرسمية على الصحف اليومية والردود عليها على صفحات الانترنات. ويراجع ايضا الجدل الدائر بين مفتي الجمهورية المصرية والمستشار محمد سعيد العشماوي على صفحات مجلة «روز اليوسف» بتاريخ 12 و27 جوان .1994
2) مادة: حجب في لسان العرب والمعجم الوسيط.
3) سورة المطففين (15) والشورى وفصلت وص (32) والاحزاب (53) ومريم (17) والاسراء (45) والأعراف (46).
4) الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن ـ ط . بيروت 1405 هـ ج 18 ص 325
5) المصدر نفسه ص 323
6) المصدر نفسه ص 326
7) المصدر نفسه
8) مما يؤكد هذه الخصوصية ما جاء في سورة الاحزاب نفسها الاية 32 وهي قوله تعالى «يا نساء النبي لستن كأحد من النساء» وكذلك ما جاء في هذه السورة من مضاعفة العذاب لهن اذا أتين بفاحشة: «يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين» الاية .30 هذا فضلا عن نهي الرسول عن طلاقهن او استبدالهن بزوجات أخريات بعد نزول الاية 52 من سورة الاحزاب: «لا يحل لك النساء من بعد ولا ان تبدّل بهن من ازواج» 9) مما يثبت تلك الخصوصيّة أيضا أنّ الحجاب أضحى الرمز المميّز بين زوجات الرسول وإمائه وقد أدرك الصحابة أن صفيّة بنت حيي قد أضحت زوجة له عندما حجبها (أخرجه البخاري ومسلم)
10) ان الرسول هو القدوة وهو الذي ورد الامر بطاعته واتباعه ولم يرد مثل ذلك بالنسبة الى ازواجه.
11) سورة الاحزاب الآية 21 «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة».
12) من أمثلة ذلك النهي ما ورد فيما يتعلق بالاعتكاف وذلك عندما هم بعض الصحابة بتقليد الرسول .
13) الطبري جامع البيان ص .326
14 المصدر نفسه ص .325
15) المصدر نفسه.
16) راجع اطروحتنا حول «الحضارة الاسلامية وتجارة الرقيق» منشورات الجامعة التونسية مطبعة صوجيم تونس 1996 ـ 1998
17) ألّف قاسم أمين كتاب «تحرير المرأة» وكتاب «المرأة الجديدة».
18) الف الحداد كتابه المشهور: «امرأتنا في الشريعة والمجتمع».
19) راجع مادة: خمر في لسان العرب لابن منظور وفي القاموس المحيط لِلْفيروزابادي .
20) راجع تصريحات وزير الشؤون الدينية التونسي لبعض الصحف اليومية (الصباح والشروق).
21) المستشار محمد سعيد العشماوي: حقيقة الحجاب وحجية الحديث ـ الكتاب الذهبي مؤسسة روز اليوسف القاهرة 2002 ص 65 .
22) المرأة في البادية كانت سافرة وهي في ذلك تختلف عن نساء الحضر.
23) القرطبي ـ التفسيرـ طبعة دار الشعب ص 4622
24) جيب القميص هو ما ينفتح على الصدر انظر لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للْفيروز بادي)
25) الجلباب ثياب شامل لجسد المرأة وهو بمثابة الإزار وتعتبر آية الجلابيب وهي الاية 59 من سورة الاحزاب من المستندات المعتمدة في بيان ما امر به الشارع من ضرورة ستر المرأة والتزامها الحشمة في المظهر والسلوك وهي قوله تعالى: «يا ايها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك ادنى ان يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما». وبذلك يتضح ان التزام الحشمة يمكن تحقيقه بالبسة وهيئات مختلفة وليس بالتزام لباس محدد ضرورة قال تعالى: ولباس التقوى ذلك خير» الاعراف .26
26) انظر حول حجيّة حديث الآحاد: احمد محمد شاكر الباعث الحثيث في شرح اختمار علوم الحديث للحافظ ابن كثير ط .3 ص 20 وما بعدها.
27) سورة الاعراف ـ الاية 31
28) الطبري ـ جامع البيان ـ ص 304 ـ 305
29) المصدر نفسه ـ ص 306 ـ الملاحظ في هذا الشأن أن المفسر التونسي محمد الطاهر بن عاشور يرى ان الشعر هو من الزينة الظاهرة .
30) راجع ـ الكشاف ـ للزمخشري ـ ط . طهران والقدير للشوكاني ـ ط بيروت ـ ج 4 ص 24
(المصدر: العدد الثاني من مجلة "حقائق" بتاريخ 29 ماي 2006)
#توفيق_بن_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|