|
من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث حضارة عصر الراسمالية د- الازمة العامة للحضارة وعصر الحضارة الديمقراطية 1-2
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1573 - 2006 / 6 / 6 - 05:26
المحور:
القضية الكردية
إذا كانت الثورة العلمية التقنية أمراً لا بد منه وترغم المجتمعات الطبقية على التحول والتبدل، فإنه يجب معرفة كيفية تطوير هوية إيديولوجية جديدة وبرنامج سياسي جديد لأهميتهما الكبيرة. حيث يظهر التاريخ في كل حين مداً لإستقصاءات ونقاشات كبيرة في هذا المراحل. 1 ـ تتجه الرأسمالية نحو الانهيار كنظام حضاري، إذ لم يقتصر الانهيار على الاشتراكية المشيدة فقط، فهزيمة الفاشية تعني في الوقت ذاته هزيمة للرأسمالية، كما أن الهزيمة في المستعمرات هي الجزء الآخر لهذه الهزيمة، كذلك تعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام هي هزيمة للاستعمار الجديد، وفي الحقيقة إن الذي مني بالهزيمة في الحرب العالمية الثانية هو بنى كلا النظامين المعتمدين على الفلسفة والعلمية التقنية القديمة، إن هاتان البنيتان كانتا تعتمدان على الأرجح على تفسيرات الفكر الفلسفي والعلمية التقنية الميكانيكية، وهكذا فان المستوى التقني هو عبارة عن تطبيقات القوانين الميكانيكية في المصانع حيث هناك حاجة كبيرة للأيدي العاملة. كما لا يمكن للمستوى العلمي إلا أن يرفد الوضعية " Positivism"، وقد بدا واضحاً بان تحلي السياسة بقيمة كانت عن طريق المؤسسات القديمة والمواقف الميثولوجي،. ففي حين كانت الليبرالية البرجوازية تؤول الى الفاشية والقومية الشوفينية في نهايتها، فان الاشتراكية آلت الى قومية اجتماعية والتحول لدولة متطورة إلى أبعد حد على المستوى الديكتاتوري والاستبدادي. لم تكن الحرب العالمية الثانية حرباً اعتيادية، إذ إنها اعتمدت على ترميم جذري للحضارة الرأسمالية التي دخلت في أعمق أزماتها، ويعد النمط التعاوني الذي يقوم كل نظام طبقي بتطويره لأجل الصمود أثناء مرحلة الانهيار هو نوع من التحول إلى دولة متطرفة، من جهة أخرى فإن "أممية الاشتراكية الثالثة" التي تم وضعها كمسار نحو هدف إسقاط النظام الرأسمالي عن طريق الثورة، لم تستطع أن تحمي نفسها من الانهيار بسبب مآزقها الإيديولوجية رغم انتصارها في الحرب ورغم كل النجاحات التي حققتها في كافة الميادين في مرحلة ما بعد الحرب. إذا دققنا قليلاً فإننا سنجد أن كلا النظامين لم يخرجا من الأزمة اعتماداً على النجاحات التي حققاها، بل اعتماداً على وضع التوازن. فالمفهوم المؤكد هو أن النظام الرأسمالي لن يستطيع تقوية نفسه عن طريق الحرب، والحقيقة المؤكدة الأخرى هي أن الهيمنة المطلقة أصبحت من ذكريات الماضي، اما التطور الهام الآخر الذي ظهر هو خطأ مفهوم القطبين؛ الأصح هو ظهور أخطاء وعدم ملائمة مسار الصراع المتطور بين الطبقات والأمم المسحوقة من جهة والرأسمالية الإمبريالية من جهة أخرى، وفي النهاية أن هذا العصر ليس عصر "نهاية التاريخ" ولا هو بعصر ديكتاتورية البروليتاريا؛ انه عصر الأزمة العميقة للمرحلة الأخيرة من النظام الرأسمالي التي يشهدها النظام الحضاري المعتمد في جوهره على المجتمع الطبقي. إن عدم وضع نتائج الثورة العلمية التقنية في خدمة الإنسانية، تلك الثورة التي أعطت إمكانيات كل أشكال الوفرة والثراء التي من شأنها توفير الأجهزة المادية والمعنوية الجديدة لكل البشرية بعد الحرب، هو دليل هام آخر على هذه الأزمة، فلولا وجود الإيديولوجيات والسياسات المهيمنة لاستطاعت التقنية التي تمتلك اساساً ملائماً أن تحل كافة الخلافات القومية والطبقية دون حروب ولاستطاعت الوصول إلى مجتمع الوفرة، ولكن مؤسسات البنى الفوقية للنظام وعلاقات الملكية حالت دون ظهور النظام الجديد. تعد البورصات العالمية نظام الربح المفضل للرأسمال، فمرحلة الربح عن طريق البورصات التي اعتمد عليها النظام الرأسمالي تعني تأمين الربح الأقصى دون أي عمل، أي أنه نوع من أنواع مراهنة النظام على نفسه في لعبة قمار، ولا نعتقد بوجود وسيلة أفضل من هذه الوسيلة، لإظهار عدم ضرورة وجود هذا النظام. إن هذا الوضع، أي وجود علاقات الملكية الساقطة وعلاقات الإنتاج المهيمنة لم تكتف بفتح الطريق أمام الآثار الضارة التي زرعت أسلوب القمار لدى كل المجتمع فحسب، بل الأنكى من ذلك انها عملت وباستمرار على تأجيل فرصة نشوء نظام جديد، انه نظام يفسد أخلاق المجتمع ويجعله متعصباً عن طريق تعويده على أسلوب الربح السهل "بورصات، كمبيالات، تحويلات عملة صعبة " كما ويناهض كل التطورات المستجدة والخلاّقة. إن هذا الوضع الذي وصل إليه النظام ليس موضعياً بل هو وضع معاش بشكل عام، فلو تحول الأساس التقني والرأسمال الموجود إلى استثمارات في ميادين صحيحة مثل تأمين الحاجات والبيئة والصحة والتعليم والعمل، لانخفضت الفروقات الطبقية إلى أدنى مستوى من جهة ولاستطاعت بسهولة حل كافة الصراعات القائمة والتي يمكن أن تظهر دون اللجوء إلى العنف من جهة أخرى. هنا يجب الانتباه إلى نقطة هامة، وهي مثلما كان نشوء نظام حضارة المجتمع الطبقي هو إحدى نتائج التقنية، فإن زواله أيضاً سيكون نتيجة لمستوى جديد من التطور التقني ذاته. وكما كانت التقنية هي القوة الدافعة إلى خلق حضارة النظام العبودي فهي ذاتها ستكون القوة الدافعة لإلغاء وجود المجتمع الطبقي. إن هذا الوضع يجعل كل شخص يملك شيئاً من الوعي، قادراً على أن يكون شاهداً على هذه الحقيقة دون العودة إلى التحليلات النظرية المعمقة. 2 ـ النقطة الهامة الثانية في هذا الموضوع هي الوقوف على الخطوط الرئيسية للبديل الواجب طرحه في الحالة التي ذكرناها. حيث فقدت الثورات الدموية جدواها في الوصول إلى ما هو ضروري، وبالأحرى إن الأساس التقني قد ألغى ذلك النظام، وفتح أقنية الاتصال والمعلوماتية هذا المجال، وبات الراعي الذي يعيش في الجبل يعلم كل شيء عن العالم في آنه بواسطة الهاتف الخلوي وعلى اتصال به، وكل حظر على العلاقات قد فقد معناه وهذه الظروف تجعل أساليب العنف غير مجدية فيما عدا حالات الدفاع عن النفس. وتبين الأمثلة الموجودة في كل بقعة من العالم أن أقسى أنظمة الدولة لا تستطيع تحطيم قوة التقنية، فهي لا توفر الإمكانيات غير المحدودة للإنتاج الوفير فحسب، بل أنها تقدم إمكانيات عظيمة على صعيد التنظيم والوعي الضروري من أجل إزالة العراقيل السياسية الموجودة أمامها، وهي بهذا الاتجاه تجعل نظام المجتمع الطبقي لا حول له ولا قوة بل تجعله لاغياً. لعدم توفر تقنية كهذه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين بما في ذلك المراحل التاريخية السابقة لها، فإن التنظيمات السرية والانتفاضات والحروب طويلة الأمد قد لعبت دوراً أساسياً لكونها أساليب ضرورية. حيث قضت الثورات الجذرية التي تحققت لأول مرة في التاريخ خلال النصف الثاني من القرن العشرين على هذا الوضع. ويقسم البعض من علماء التاريخ، التاريخ البشري إلى ثلاثة مراحل: أولها مرحلة الثورة الزراعية ومجتمع القرية والتي تحدثنا عنها مطولاً، تبدأ مع تأسيس أول دولة مدينة حوالي أعوام 10000 ق.م وتستمر حتى حوالي 3000 ق.م. اما المرحلة الثانية فهي مرحلة مجتمع المدينة التي تطورت فيها الحرف والمشاغل والصناعة وتشمل الفترة التاريخية الممتدة من 3000ق .م ـ 1950 م. وأما مرحلة التاريخ الحديث فهي المرحلة التي تلت عام 1950م والتي تحددها التطورات التي نتجت عن أكبر ثورة علمية تقنية عرفها التاريخ. حتى وان كان هذا التقسيم يتضمن على نقاط ضعف جادة إلا أنه ضروري لأنه أرجع العلاقة الموجودة بين التقنية والإنتاج والمجتمع إلى أسبابها الأساسية. من الواضح أن البنى التي تعتمد على المستوى العلمي التقني لهذه المرحلة الجديدة لن تبلور الطابع الطبقي، بل إن التحكم المهني سيعمل على بلورة الشكل الاجتماعي الذي سيتكون. وكذلك لن تكون النوعية السياسية مصيرية بالمعنى القديم، بل سيتم الاعتماد على التنسيق العام وعلى هندسة التشغيل. فلن تكون المشكلة هي التشغيل القسري وإدارتها، بل سيحل محلها التقييم المهني الصحيح حسب القدرات والإدارة المعطاء، وبالأحرى أن المرحلة ستكون مرحلة تجاوز العنف والإرغام إلى مرحلة المشاركة في الإدارة الطوعية، التي ستحول العمل إلى حالة من المتعة والذوق وتجعله ضرباً من العادة التي لا تنفصل عن الحياة. وبالمعنى الحقيقي للكلمة تطبيق نظام العمل المقترح من أجل النظام الاشتراكي، لقد وصلت البشرية لأول مرة إلى إمكانية نظام عمل كهذا بفضل الأسس العلمية والتقنية. 3 ـ لقد أظهر الوضع التاريخي الذي تبلور في نهاية الحرب العالمية الثانية عدم إمكانية إدارة نظام الحضارة بواسطة أشكال الدولة والسياسة الكلاسيكية، ومن هنا تبين الدور المصيري للثورة العلمية التقنية. وأما السبب الهام الآخر فهو أن المستوى الذي وصلت إليه التكنولوجيا العسكرية قد فتح الطريق أمام تطورات جديدة، ووصلت إلى أبعاد قد تدمر البشرية برمتها. وبالتأكيد على أن المفاهيم السياسة والدولة التقليدية قد فقدت قدرتها على الإدارة عن طريق الحروب التي تخوضها على نطاق عالمي، حينها كان لا بد من تجاوز المؤسسات السياسية القائمة، والموضوع الذي يكمن هنا هو إفلاس الحضارة القديمة من الزاوية السياسة والقدرة على تقديم الحلول، وبدا واضحاً ان علاقات الإله القائمة والمستندة الى المؤسسات والمفاهيم الأساسية التي تكمن خلفها غير قادرة على الاستمرار. كما أتضح أن وضع التوازن بين الأقطاب التي تعتمد على القوى النووية لن يكون دائماً وخاصة بعد انهيار النظام السوفيتي. وليس من الواقعية اعتبار الحلف المضاد على أنه خرج منتصراً، ولكن هذا يؤكد على أن العناد في المأزق فقط لا يشكل حلاً، وأن الأزمة لها طابع جذري، لقد أظهرت كافة نماذج الحلول بعد الحرب العالمية الثانية إفلاسها وعدم صلاحيتها، كما وأتضح بأن تجارب الجيش الأوروبي الصغير وتجارب الدرع الصاروخي الأمريكي لم تضع حلولاً جذريةً بل تحمل مهام إنقاذ يومها أو تأمين بعض المصالح العابرة. تؤكد هذه التقييمات القصيرة حقيقة أن المرحلة الانتقالية هي ضرورة تاريخية، وهذه الضرورة تنبع من التأثيرات القوية لآثار النظام الحضاري القديم، ومن عدم تبلور حملة الانطلاقة الإنسانية الجديدة بعد. كما ويبين التاريخ بان هذه المراحل الانتقالية تستغرق أمداً طويلاً، لدرجة أن بعض الأنظمة تمثل هذه الفترات على شكل نظام إمبراطوري، ولقد شهدت حضارة النظام العبودي بين أشكال نشأتها الأولى ومرحلة الذروة والانهيار أمثلة انتقالية مذهلة، فلقد لعب الحثيون والهوريون والميتانيون والفينيقيون والفريغايين دور الحامل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والميثولوجي والتقني والعلمي في مرحلة انتقالية نموذجية بين مراحل النشوء الأولى للإمبراطورتين المصرية والسومرية وبين الإمبراطوريات الإغريقية الرومانية اللتان كانتا في مرحلة الذروة، وبذلك يكون الشرق وسيلة نقل للمكاسب الحضارية الكبرى إلى الغرب وإلى مناطقه المحلية، وأكثر من ذلك فقد أخذت طابع المرحلة الانتقالية على هذا التوجه. وهناك مثال آخر وهو ان الحضارتان البيزنطية والساسانية لعبتا دورهما كمرحلة انتقالية بين حضارة النظام العبودي وحضارة النظام الإقطاعي، وشكلتا حلقة مرحلية بين العصور القديمة والعصور الوسطى، أي في مرحلة الانتقال من النظام العبودي إلى النظام الإقطاع،. وكذلك يمكن تقديم مثال آخر وهو أن مونارشيات أوروبا الغربية لعبت دور الجسر في الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، حيث كانت تلك المونارشيات أشكالاً مرحلية للانتقال من الإقطاعية الى الرأسمالية، وبالرغم من وجود بعض الفروقات يمكن تقديم القيصرية الروسية والإمبراطورية العثمانية أمثلة على المرحلة الانتقالية، وتشكل هذه المراحل الانتقالية النموذجية وتعبيرها المتمأسس جسراً بين الحضارة القديمة والحضارة الجديدة، حيث تتوحد أطرافهما في كنفها. إن ما تقتضيه الفلسفة العلمية هو أن قيام الوحدة المؤقتة للقطبين القديم والجديد تعتبر مرحلة انتقالية ضرورية، فكل التطورات الموجودة في الطبيعة مضطرة للعبور في مراحل الوحدة الانتقالية، يعد ديالكتيك التطور هذا ضروري من أجل المجتمع الذي يعتبر في جوهره استمراراً للطبيعة.
4 ـ من الأنسب أن نطلق اسم "عصر الحضارة الديمقراطية" على هذه المرحلة الانتقالية أي بين نظام الحضارة القديم بأزمته المتفاقمة والمستمرة وبين الانطلاقة الحضارية الجديدة التي لم تتبلور بعد. فانتقال الأساليب الديمقراطية كونها نظام وفاق تم التوصل إليه في نهاية القرن العشرين، إلى وضع المسيطر والسائد لم يتم بناءً على خيارات مزاجية وعشوائية بل كان نتيجة لشروط موضوعية، وقد لعب إفلاس الخيار الفاشي واستبدادية الاشتراكية المشيدة دوراً مصيرياً في وصول الديمقراطية إلى هذا الوضع. لا يمكن تقييم الخيار الفاشي للرأسمالية بالشكل الهتلري فحسب، بل هو عبارة عن مرحلة تولدت من وصول الطغمة المالية إلى مرحلة الهيمنة وكذلك عن حقيقة النظام الدموي لرجعية الرأسمالية بشكل كلي، ومن المعلوم أنها لم تنتشر في المراكز الرأسمالية فحسب، بل تم العمل على نشرها في علاقاتها مع الدول المحيطة وفي دول الأطراف. إن الخوف والرعب اللذان نجما عن ظروف الانهيار والطابع الشوفيني للقومية الذي فاق التعصب الديني واحتمال أن تتحول الاشتراكية إلى نظام، كل هذه الأمور جعلتها من أكثر الأنظمة ظلماً وقسوة في التاريخ. أما أسباب فشلها فقد جاءت من مستوى الحرية الذي اكتسبته البشرية بشكل عام، ومن نجاحات الثورات العلمية التقنية، ولقد أرغم هذا الوضع النظام الرأسمالي على الخيار الجديد، وبما ان النظام لن يقبل بالانهيار، ولما كان انتصار الفاشية الشامل أمراً مستحيلاً، حينها كان لا بد من نظام توفيقي طويل الأمد، ولم يكن غريباً عندما أطلقوا على هذا الوفاق اسم الديمقراطية، وخاصة أن النجاحات الكبرى للثورة التقنية لم تكتف باعتماد الديمقراطية فحسب، بل برهنت على أنها أفضل نظام يمكن أن يحقق التطور، مما أدى إلى فتح الطريق أمام أمن النظام الرأسمالي، ورغم الممارسات المحدودة في البداية فقد تم قبول الديمقراطية كنمط للإدارة وللحياة الأنسب للوصول إلى نظام كوني في نهاية القرن العشرين، وشيئاً فشيئاً انتشرت في كل مكان. يتناقض توجه الاشتراكية المشيدة نحو التوتاليتارية مع مبدأ الحرية اللازم من أجل تقدم الاشتراكية، حيث لم يعد هناك مفر من فشل النظام عندما اتضح أن إذابة الفرد باسم المجتمع حتى لو كان بهدف المساواة، لن يجعل الفرد خلاّقاً حتى بتلك الدرجة التي تجعله الليبرالية البرجوازية. فلقد كانت المساواة تامة في النظام العبودي وكل ما ينقصه هو الحرية فقط، ومنذ تلك المرحلة أصبح طلب المزيد من الحرية هدفاً لكل الممارسات التي قامت بها البشرية، إن الاشتراكية المشيدة هي ضرب من النظام الكهنوتي السومري الذي تم تطبيقه في زمن ما، حيث حقق الكهنة السومريون أول نظام عبودي جماعي، وكان عبارة عن دولة عبودية أشبه ما تكون بدولة الاشتراكية المشيدة. سواء تم تأسيس الدولة إيضاح اليسار أو باسم اليمين، وحتى لربما احتوت في أساسها على أنظمة تخدم مبدأ المساواة، ولكن هذا لا يتم إلا من خلال التضحية بالحرية الفردية، إذ تعد الدولة ضمن شروط المجتمع الطبقي نفياً للحرية، حيث بقيت دولتية الاشتراكية المشيدة كممارسة مكثفة وواسعة متخلفة عن الرأسمالية في مجال الحرية الفردية. حتى تتمكن الأنظمة التي لا تعتمد على الحرية، من النجاح على الأنظمة التي تعتمد الحرية لابد أن تلجأ إلى العنف الذي يعتبر الطريق الوحيد أمامها. وقد خسر النظام السوفيتي في هذه النقطة تحديداُ. كما تقف أخطاء الهوية الإيديولوجية وراء هذه الحقيقة أيضاً. فمن دون تحقيق تناول فلسفي يستطيع تحرير هوية الفرد بالقدر الذي تحرره الرأسمالية، ومن دون أن تتكامل هذه الحرية مع المساواة الحقيقية، يكون الحديث عن حضارة جديدة مغالطة كبرى. فبعد اتخاذ فلسفة مادية فظة كمرشد للحياة، يكون الوصول إلى نظام يشبه النظام العبودي أمراً حتمياً. وباختزال ظاهرة كحياة الإنسان المعقدة إلى أبعد حد، إلى عدة كليشهات مادية فجة سيكون قد فتح الباب على مصراعيه أمام خلق إنسان تابع لغرائزه. والتجربة السوفيتية تعتبر دليلاً على هذه الحقيقة إلى حد ما. أما شيوع النزعة القومية في القرن العشرين فهي لا تتجاوز حركة قبلية معاصرة ولا يمكن أن ننتظر منها أي إسهام للحضارة الجديدة، باعتبارها نزعة متطورة للقبلية نمت من الناحيتين الكمية والكيفية، عند تحليل الديمقراطية المعاصرة يجب أخذ هذه الحقائق الأساسية بعين الاعتبار، فمع أكثر دولة تميل إلى الاستبداد في التوازن النووي الرهيب ستتحول كافة البشرية إما إلى جنود أو إلى عمال، وهذه التطورات وصلت مستويات لا يتحملها المجتمع الطبقي وكلها تنشأ من بنى الثورة والثورة المضادة المتأزمة، والتي لا يمكنها أن تقوم بالوظائف العادية لأي نظام، ولا يمكن لأية ثورة أو ثورة مضادة أن تصمد طويلاً بهكذا بنية، وقد برهن ذلك من خلال العديد من الأمثلة. يمكن تقديم الكثير من التعريفات حول الديمقراطية ويمكن التوقف مطولاً عند طابعها الطبقي وطابعها الوفاقي وطابعها المسالم. كما يمكن شرح تطورها النظري والعملي بعمق، وكما يمكن أن يتضح بأنها ليست نظام الحضارة الوحيد ولكن يمكننا أن نقول: أنه لأول مرة تتوفر إمكانية التطور والسباق بين كافة الشعوب والثقافات في أجواء من السلام والعلاقات الشاملة وباسم الخيارات الإيديولوجية والاقتصادية والسياسية حتى ولو حدث ذلك بطريقة غير وافية. ومن الأهمية توضيح أن الديمقراطية التي تأكد انتصارها في نهاية القرن العشرين قد تجاوزت الطابع الطبقي الضيق، حيث حملت كافة الديمقراطيات التي طبقت حتى هذه المرحلة نموذج طبقية ضيقة، بل يمكن القول بأن تلك الديمقراطية حتى ولو كانت شكلاً، لم تكن تشمل كافة المواطنين، ولم تكن أكثر من أسلوب حكم لكيان ضيق من المواطنين الأثرياء، أنها ضرب من ديمقراطية أثينا الأولى، حيث تتخذ من الواقع الطبقي أساساً لها، لكن الديمقراطية التي تحققت في نهاية القرن العشرين استطاعت تجاوز هذا الضيق بشكل متقدم، فهي لم تكتفِ بالتوسع على مستوى الشمول الطبقي فحسب، بل أصبحت تعترف بإمكانية التنظيم والتعبير الحر في كافة المجالات الأساسية مثل الفكر والإيمان والثقافة الأشمل والفروقات الاقتصادية والممارسات السياسية. فكل الأضداد تملك فرص تغيير وتطوير نفسها دون اللجوء إلى العنف ولو بشكل محدود، وهنا لا تنته الصراعات والتضامنات في كافة المجالات الطبقية والقومية، الفكرية والعقائدية، الاقتصادية والثقافية، الاجتماعية والسياسية، فلا تتوقف العلاقات والصراعات، بل تولد مرحلة التنفيذ التزاماً بالقوانين السائدة والأشكال السلمية. من المؤكد أن الديمقراطية تحمل جوهراً اكثر إنسانية، لكن النظر إلى الدموية كمقياس للشجاعة والعظمة هي من تقاليد وأعراف المجتمع الطبقي الأكثر بربرية، ويتم تعظيمها وتقديسها لأجل تغطية حقيقتها الملعونة جداً، فلا يمكن لأي انتصار تحقق على المجازر المرعبة أن يكون مقدساً، وإذا كان لا بد من التقديس فهو الشيء الذي يتحقق بأقل قدر من الألم ويرمي إلى خير الإنسانية باستثناء آلام المخاض الضرورية، وبالتالي فإن الديمقراطية الحديثة التي تجاوزت كافة الأشكال الدموية والتي سادت طوال تاريخ المجتمع الطبقي واعترفت بحق كل إنسان وكل اثنية ودين وجنس وحق كل مجموعة اقتصادية وسياسية بالتعبير الحر، تكون هي أقرب شكل للحياة وأفضل أسلوب للحكم وتستحق التقديس. ومن المفيد أن نوضح بأن هذه الديمقراطية تتحقق لأول مرة منذ بداية التاريخ. إن تطور الديمقراطية الحديثة ارتقائي ويحدث من الداخل، ولا تظهر نفسها بنتائج مذهلة. لكن إذا كانت الإنسانية تريد أن تملئ ذهنها وروحها بالتطورات الخلاّقة فإنها لن تجد أفضل من هذا النظام. إضافة الى إعطاء الأجوبة الكافية للمسألة التي تتمحور حول السبب الذي جعل الديمقراطية تتحقق بهذه الشمولية، كذلك يجب الا نمل من التكرار عندما نقول بأن الثورات التقنية العلمية قد أظهرت الإمكانات المادية اللازمة لتجاوز الأزمة المتفاقمة والمستمرة. إن الحقيقة الهامة التي سعينا لتأكيدها عبر تحليلاتنا للحضارة هي أن نشوء الطبقات وزوالها لا يتم بالعنف، إنما تلعب القدرة التقنية دوراً مصيرياً اكبر في هذا الأمر، فعندما تتوفر إمكانيات التطور لكيان ما بالوفرة التقنية فإن تشكل الطبقة يصبح حتمياً لأن كل شخص سيستفيد من ذلك التطور، وحتى عندما تم تأسيس النظام العبودي في مراحله الأولى كانت شروط الحياة الجديدة بالنسبة للكثير من العبيد اكثر أمناً وإشباعاً لبطونهم من النظام القديم. إن المصدر الحقيقي للتكوين الطبقي هو هذا الإمكان المادي، وديالكتيك التطور الطبقي على مدى التاريخ يؤكد صحة هذه الحقيقة. وفي هذه الحالة فحتى لو كان القضاء على الطبقات في مرحلة الحضارة الرأسمالية ممكناً من الناحية الفيزيائية عن طريق الثورة والعنف إلا إنه لا يمكن القضاء عليها كمؤسسة، لأنها ستولد من جديد عندما تجد الفرصة المناسبة، وقد أثبتت التجربة التي خاضتها الاشتراكية المشيدة صحة ذلك، حيث استطاعت الاشتراكية القضاء على بعض الطبقات باستخدام القوة، ولكنها لم تستطع الحيلولة دون ظهورها من جديد وبشكل أكثر فساداً، أو سبب ذلك هو المستوى التقني مرة أخرى. إذ أن الظاهرة الاجتماعية التي يسمح المستوى التقني بظهورها وتطورها لا يمكن القضاء عليها، إلا إذا فقدت ضرورتها والحاجة إليها ضمن هذا المستوى، وربما يكون بمكنة العنف والثورة والثورة المضادة عرقلة الظواهر الاجتماعية ولكنها لا تستطيع إزالتها، وبالتالي لا يمكن القضاء على المجتمعات التي شكلتها التقنية ببناها التحتية والفوقية، إلا إذا قضت عليها التطورات التقنية كأمر حتمي أو أن يتم تحولها إلى مجتمعات أخرى، لكن الأحداث الجنونية التي جرت قبل مجيء الديمقراطية المعاصرة اعتمدت على تجاهل هذه القاعدة، وكان ذلك سبباً لفشل الاستبدادية الفاشية وأنظمة الاشتراكية المشيدة، ورغم فشل الكثير من التطورات التي رغبوا بها، إلا انها دخلت ضمن إمكانات التقنية المتطورة. ولو امتلك هتلر كل هذه الأسلحة النووية المكدسة في أيامنا هذه لدمر كل من لا يعجبه لأن الأساس التقني موجود ولهذا لم يعد هناك أي داعي لهذا الحشد الغفير من طبقة العمال والفلاحين، لأن التطور التقني خفض الحاجة إلى هذا العدد الكبير الذي تضمنه هذه الطبقات، والنتيجة أن العامل المصيري ليس القوة أو العنف، بل هو التقنية. وبذلك تكون الديمقراطية المعاصرة هي السبيل الأكثر واقعية، والذي يمكنه تقديم إمكانية الاصطفاء التقني وبالتالي التطور من جهة، وتقديم إمكانية إزالة هذه الظواهر الاجتماعية على هذا الأساس من جهة أخرى بل وتحويلها عن طريق الاصطفاء الاجتماعي، دون اللجوء إلى استخدام العنف. تستمد الديمقراطية قوتها الأساسية من هذه الحلول الصحيحة التي تقدمها وليس من المرتبطين والمتعلقين بها من الصميم، ولقد أظهرت الأبحاث العلمية وجود تلازم سليم ودائم بين الديمقراطية والتطور الاقتصادي، ولا شك أن السبب الرئيسي الذي يقف وراء هذا الأمر هو تجسيد تشكل المظهر الاجتماعي الأقرب الى نظام الطبيعة، ولا نقصد هنا التطورات التي اعتمدت على تفسير النمط الكهنوتي أو المادي الفج للطبيعة، فلا يمكن لقوانين التحول الاجتماعي أن تحدث إلا ضمن نطاق قانون التطور العام، وذلك بعد أخذ القوانين الذاتية الخاصة بعين الاعتبار كما هي، وإن بناء ظاهرة اجتماعية ما خارج هذا القانون أو متجاوزة إياه لن يؤدي إلا إلى الجنون والدمار بيد الجهالة الإنسانية.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من دولة الرهبان السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثال
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثالث
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
-
من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الثاني
...
المزيد.....
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال
...
-
البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن
...
-
اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
-
البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا
...
-
جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا
...
-
عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س
...
-
حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|