|
لا للتطرّف
ناديه كاظم شبيل
الحوار المتمدن-العدد: 1573 - 2006 / 6 / 6 - 01:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان ابي شيوعيا مناضلا قبل أن أرى النور بسنوات عديده ،وكان انسانا ملتزما بكل القيم والمبادئ العظيمة التي يؤمن بها، وكان مثقفا من الطراز الأول ، وصادقا ودمث الخلق وبسيطا ومتّزنا لدرجة جعلته يحظى باحترام وثقة جميع المعارف والأصدقاء ،ولقد تعرض لظلم حكاّم العهد البائد ففصل ونفي الى الأهوار في جنوب العراق ، وسجن في انقلاب 14 رمضان الدموي في مدينة الحلّه ولم يتخلّ عن مبادئه طيلة حياته .
وكان يملك مكتبة كبيرة تضمّ مئات الكتب لمختلف الكتّاب مثل دستوفسكي وفيكتور هيجو وتولستوي وخالد محمد خالد والمنفلوطي الذي كان ابي يلقّّبه بالمعمّم ، وغيرهم من الكتّاب المشهورين ، بالأضافة الى اشتراكه بمجلّة الهلال ومجلّة الثقافه الجديده . وكنّا رغم صغر سنّنا نهوى قراءة كل كتبه ومجلاّته بشرط ان نعيدها الى المكتبة سالمة كما استلمناها والاّ فعقوبتنا ستكون حرماننا من استعارة اي كتاب مستقبلا. كان يحلو لوالدي أن يتناول كأسا من العرق في بعض الأمسيات ، وكنّا نلاحظ ان مزاجه يصبح رائقا جدا بعد هذه الكأس التي يطلق عليها لقب البيك ،فتلتمع عيناه بنظرة حب وحنان محبّبتين ،فيسامرنا ويتبسّط معنا ولكنّه لم يخرج عن طوره اطلاقا ، فكانت امسيات سكره تدخل النشوة الى قلوبنا جميعا لدرجة ان والدتي تحضر له المزّة بيديها وتتفنن في طريقة تقديمها له ،
كان من عادة والدتي أن تضع العديد من أنواع الزهور مثل الرّازقي والجوري في سجّادة الصلاة فكان يداعبها قائلا :أ كلّ هذه الزهور العطره لله وجواد شبيل محروم منها، كم هو محظوظ اذن. فتبتسم امّي وتحاول أن تكتم ضحكتها ولكنّها تعاتبه بعد ان تنهي صلاتها لكونه شتّت فكرها ولم تدر ما قالت في صلاتها .
كانت جدّتي المؤمنه الزاهدة العابدة التي ترمّلت في زهو شبابها من جدّي الذي كان أحد ثوار ثورة العشرين في النجف ،والتي فقدت طفلين بعد وفاته ،ولم يتبق لها سوى والدي ،كانت هذه الجدة تحرص على غسل قدحه بطريقتها الخاصه عدّة مرّات ومع ذلك كانت تحذر أي طفل من ان يشرب فيه لأنه نجس كما تعتقد هي،ورغم انّها لم تمنع والدي عن الشرب ،الاّ انّها لا تشاركنا السهر معه وتفضّل الخلوة في حجرتها والصلاة طيلة الليل الى أن يحين وقت الأذان ،وطالما رأيتها غافية على سجّادتها عندما يحين الًصّباح ،وكانت صائمة على الأغلب سواء في شهر رمضان ام في باقي الأيّام العاديّه.، لم أسمعها تغتاب احدا أو تنتقد أحداأو تكذب ، فآخرتها تشغلها عن دنياها ولقدنالت محبّة واحترام كل من يعرفها.
رغم عمق ايمان جدّتي الاّ انها كانت تمدّ يد المساعدة لوالدي وقت اشتداد الأزمات ، فتراها كالنحلة توزّع له المنشورات الحزبيّة فتضعها في سجّادتها ، وكانت كاتمة اسراره ، فلم تفش له سرا لأقرب الناس ،ولكن والدي اخبرنا بذلك في يوم وفاتها رحمها الله.
وعندما فصل والدي في الأربعينات اخذت تغزل وتبيع انتاجها لأعالة العائلة الكبيرة التي هدّها الجوع والعوز.وكانت تعيد خياطة ثياب الكبار للصغار بشكل منسّق وانيق ،علّمتنا جدّتي أن نحبّ كل البشر لأنّهم من ادم وحوّاء ،وعلّمتنا معنى الصدق والوفاء والألتزام بالقيم الأنسانيّة الراقيه ، وأوصتنا ان نبتعد عن الحقد والكره والكذب والنميمه
لقد احببت هذه الجدّة حبّا جمّا ولا زلت أذرف الدّموع كلّما تذكّرتها ،وعندما ناداني حفيدي بكلمة بيبي لأول مرّة ، كدت اطير من الفرح ،لأنّني أحسست بأنّني قد اقتربت منها أكثر بحملي هذا النداء الجليل
لم اكن مؤمنة بالله في فترة المراهقه ،ولكنّني آمنت به بعد ان أصبحت معلّمه، وعندما لاحظ والدي هذا التغّير ، ابتسم تلك الأبتسامة الّتي تحمل الرقّة والحنان والتحدّي ايضا وهو يقول ،سأنسف ايمانك بهذا الكتاب وهو يقدم لي كتابا،حاولت والدتي خطف الكتاب من يده ولكنّني سحبته بلهفة وقرأته عن اخره،كان كتاب للدكتور صادق جلال العظم وكان من الكتب الممنوعه على ما اذكر في ذلك الزمان،ولكنّ الكتاب لم يغيّر من ايماني في ذلك الوقت .
عندما قدمت في ال94 الى السويد قرّرت قراءة جميع الكتب الممنوعه ، فابتدأت بالدكتوره نوال السعداوي والدكتور هادي العلوي وآخرين عديدين منهم السويديين وباللغة السويديّة و لكتّاب قساوسه ولكنّهم على ثقافة عصريّة عالية جدّا،ودرست كافّة الأديان في مدرستي وأصبت بصدام الحضارات وصدام الأديان،ولم اعد ادر لأي دين انتمي وتعددت طرق صلاتي،وعانيت من ذلك اشدّ المعاناة ولم تعرف نفسي السلام الّذي نادت به جميع الأديان السماويّه،اصبت بالغثيان الثقافي،وعشت في حوار قاتل مع النفس لسنوات عديده ،طبعا لم اكن انا المغتربه الوحيدة الّتي عانت من ذلك ولكن استطيع ان اقول انّ هنالك اعدادا هائلة قد لا تخطر على البال قد عانت من هذا الصّراع الّذي لا يرحم.
ان مسألة قطع الجذورفي الغربة هي مسألة خطيرة فالقيم والدين لا تخلع بسهولة كما يخلع الثوب ،بل قد يؤدّي بصاحبه الى انهيارات نفسيّة حادّه ،وأعرف الكثير من السيدات قد ادخلن المستشفيات نتيجة تعرَضهن لهذا الصراع المرير
وعندما درست تاريخ السويد ،عرفت بأنّهم كانوا يعبدون الهة عديده كاله الرعد واله الحرب ولا تزال ايّام الأسبوع وبعض الشوارع عندهم تحمل اسماءهذه الالهة، ثم اعتنقوا الديانة المسيحيّه واعتنقوا المذهب الكاثوليكي وكانت الكنيسة تلعب دورا كبيرا في حياة الناس ثم تحوّلوا الى المذهب البروتستانتي وبعدها تحررت الدولة من سلطة الكنيسه ثم اصبحت الكنيسة كالملك تماما مجرّد رمز لا أكثر.
لقد استعدّت المدرسة لاقامة وليمة لنا في أعياد الميلاد، واحتفلت الدولة احتفالا عظيما لهذه المناسة السعيده ،فأخذت الطائرات تلقي الحلوى على رؤوس المواطنين واطلقت الوان قوس قزح في الفضاء ،ووزّع الناس الكيك السويدي الشهيرومختلف انواع المشروبات ،وقدّمت المعلّمات رقصات فلوكلوريّه ووزّع تومته الهدايا على الأطفال ،ولكنّني عجبت اشذّ العجب عندما قالت لنا المعلمّه بالحرف الواحد : ان ما شاهدتموه ليس ايمانا بلمسيح ولا بالله فنحن لا نؤمن بهما معا،وأنّما هي تقاليد ورثناها عن اهلنا نقوم بأحيائها كلّ عام وسوف ننساها ما أن نخلع هذه الثياب الفلوكلوريّه ،قالت هذا وهي تشير الى ملابسها.
أردت أن أقول بهذا كلّه أن الأنسان مهما تطوّر فأنه لا بدّ وان يحنّ الى جذوره حتّى وان خالفت عقله ،وانّ السويد قد احتضنت جميع الأفكارحتّى الأفكار الّتي ينتمي لها الأقليّه، وفي مدارسها تدرّس كافّة الأديان ويحقّ لكل فرد ان يعتنق الدين الذي يقتنع به دون خوف من ارهاب او وجل من أهل ،ولكن ليس من حق احد ان يستهين بمعتقدات الآخرين وانتماءاتهم ولا ان يسب احدا من الأنبياء ،فاذا كانت أفكارنا جيّدة فلا يحتاج الأمر أن نسبّهم ، أوّلا لأنهم ماتوا ولا يسمعون سبابنا وثانيا ماذا سيخلّف السباب سوى الحقد والكره والحروب بين معتنقي مختلف الديانات؟ان كنّا نبحث عن مستقبل افضل فلن يكون بهذه الطريقة البدائيّة ،وأنما عن طريق الجدّ والمثابره في بناء ما قد لم يجيد الآخرون بناؤه
#ناديه_كاظم_شبيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما اصلب في اليوم الف مرّة ومرّه
-
ما السرّ في انتفاخ وجه الخاله سعديّه؟
-
اقتراح عادل وعاجل
-
من يبصق نحو السماء
-
ربنا حوّل نفطنا مطرا
-
العظيم
-
غربة أم
-
الفرق بين مسلسل القلعه ومسلسل قهوة الحشّاشين كالفرق بين سياس
...
-
لتكن مشيئتنا معا
-
الغفران
-
على مهلك ياوطن على جيبي انا جيبي ترى واللهي فضي
-
عواشه
-
هو وحده من يعرف مكنون جمالي
-
الحلقه الاخيره من مذكرات جنين عراقي عاش في فترة احتلال الطاغ
...
-
الحلقه الرابعه والعشرون من مذكرات جنين عراقي تكون في فترة اح
...
-
الحلقه الثالثه والعشرون من مذكرات طفل عراقي تكون في فترة احت
...
-
الحلقه الثانيه والعشرون من مذكرات جنين عراقي تكون في فترة اح
...
-
الحلقه الحاديه والعشرون من مذكرات جنين تكون في فترة احتلال ا
...
-
الحلقه العشرون من مذكرات جنين تكون في فترة احتلال الطاغيه لل
...
-
الحلقه التاسعة عشر من مذكرات جنين عراقي تكون في فترة احتلال
...
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|