أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زاهر بولس - بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص. (البحث كاملًا)















المزيد.....

بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص. (البحث كاملًا)


زاهر بولس

الحوار المتمدن-العدد: 6501 - 2020 / 2 / 28 - 02:03
المحور: الادب والفن
    


(1)
إن الكتابة، كتابة النَص بشكل عام، قضيّة غاية في التركيب والتعقيد، والأكثر تعقيدًا كتابة الشِعر. وأكاد أجرؤ أن أقول إن العوامل المؤثرة في انتاج وصياغة النَص النهائي هي عوامل ومؤثّرات "لا نهائيّة"، ناهيك عن "لا نهائيّة عوامل فهم وإدراك المتلقي".

فهل الكاتب أو الشاعر هو رأس هرم حتميّة شكل صياغة النَّص منذ البدء؟ أم هل هنالك حيّز لفردانيّة المُبدِع وبعض الحظوظ والصُدَف؟ أم أنّها تجليّات الإبداع الفردانيّة لذاتها؟ أوَتكون هذه الأسئلة جُزءًا من الحتميّة عينها؟!

(2)
من أجمل أبيات شعر الغزل ما قاله شاعرنا الكبير بشّار بن بُرْد

"يا قَوم أذني لبعضِ الحيِّ عَاشِقَةٌ
والأذنُ تَعشَقُ قبلَ العينِ أحيَانَا"

وهو شاعر قدير من فحول شعراء العرب وتنمّ أشعاره عن عبقريّة فذّة، فهل كان ليكتب هذا النَّص لولا فقدانه التدريجي لبصره لتصبح الأذن والصوت أدوات العشق الأولى بديلًا عن العين؟ وهل كان ليكتب هذه الأبيات لولا أن العاذلين عيّروه بفقدان بصره، فكيف يتغزّل بمن لا يرى! فقال:

قالوا بمن لا ترى تهذي! فقلتُ لهم
الأذنُ كالعين توفي القلبَ ما كَانَا

نحن لا نعلم أسباب فقدان بن برد لبصره، فقد يكون وراثيًّا موغلًا في القِدَم والبُعد الزمني، وقد يكون سببًا طارئًا، نتيجة لسببٍ ما تقاطع مساره ومسار شاعرنا، وتقاطع مسار شاعرنا مع مسار الجارية "عبدة" التي تغزّل بها! فكلّ هذا وغيرها من العوامل شكّلت هذا النَّص الإبداعي.

(3)
كتب أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري، المولود عام 920م (... هجري) والمتوفي عام 1005م (395هجري)، في مؤلّفه الشهير "الصناعتين: الكتابة والشعر"، في الفصل الثالث، مقتبسًا من حكيم الهند قوله: "أوّلُ البلاغة اجتماعُ آلة البلاغة"، وأضاف العسكري على الاقتباس مقولة هامّة جدًا: "وأوّلُ آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان. وذلك من فِعْل الله تعالى؛ لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها.".

هنالك من يعتقد بالخلق، وهنالك من يعتقد بالنشوء والارتقاء، وهنالك من يعتقد بالإثنين معًا، وفي جميع الأحوال تبقى مقولة العسكري صحيحة، وهي أن كاتب النَّص لا يقدر على اكتساب آلات البلاغة واجتلابها لنفسه.. فهي مُعْطًى.

(4)
نحن نتطوّر، ننتقل من طور إلى طَوْر، تقدّمًا أو تأخّرًا، فللحركة ديمومتها، لا مكوث فيها.

كلّ طور يستند إلى سبب، لكلّ نتيجة علّة سابقة الحدوث، وهكذا حتّى البدايات التي قد تكون أزليّة تخطو نحو الأبديّة مشكّلة السرمد، يشكّل فيه ضمير "نحن" كلمة صغيرة، وفترة قصيرة، خلاله.

للكلمة سرمدها، الكلمة التي ننطقها عبرت تطوّرًا بعدما تطوّرت الحنجرة وتطوّر الدماغ وثنايا الجسد مرورًا بمساقات التطوّر منذ البدايات الأزليّة، حتّى تجلَّت كلمة في حضن نَص.

الحوار والنقاش حق، وواجب في آن، إنّه واجب البحث عن الحقيقة للإقتراب منها قدر الإمكان. تناقشوا ما شئتم عن البدايات وجوهرها، لا ضير في هذا، فليس هدف البحث دحض الميتافيزيقا لصالح الماديّة أو العكس، فحسم السجال لا يغيّر من سيرورة ما بعد انطلاق البداية ولن يؤثّر في فهمها، ولا يلغي اشكالية حريّة الإرادة وعلاقتها الجدليّة مع أدوات الإرادة ذات العلاقة السببيّة ما بين النتيجة وعلّتها! وأوّل أدوات الإرادة الدماغ والعقل والخلفيات الثقافيّة الملقّنة والمتغيرة ولحظة الصيرورة في سيرورة اللغة. وكل هذا وغيره لا يقدر على اكتسابه واستجلابه صاحب الإرادة الحرّة.. كاتب النَّص المتربّع على رأس هرم الثقافة، إذا ما عمّقنا فهمنا لمقولات ابن سهل العسكري.

(5)
حينما نحدّد مساقات التطوّر، نرسمها، نخطّط لها، نبني بها لُبْنَة الخطوة التالية، وهكذا، إلى الأبد أو حتّى الزوال! فتكون بذلك الإرادة الحرّة سيّدة الموقف ومحرّرة من الحتميّات.

ولكن، إذا قرأنا هذه المسارات عُكاسِّيًا تصبح نفس هذه اللُّبْنَة، خطوة حتميّة مُؤَسِّسَة لما يتلوها، فتعود بنا إلى المربّع الأوَّل، حيث تتماهى الإرادة الحُرَّة بالحَتْمِيَّاتِ. وهذا ما يتنافى مع المنطق السليم! وتصبح الإرادة الحرّة المُخَيَّرة افتراضيًّا مُسَيّرة بذات حِبَالِهَا!

ومن هنا، فإن فعل كتابة النَّص المستند بَدَهًا إلى الإرادة الحرّة محكوم بحتميّاتها، وكأنّ "كاد" تقترب من الصفر رياضِيًّا، وكذا إرادة المعلّم الحرّة هي الأخرى تقترب من الصفر رياضيًّا، في مطلع قصيدة أحمد شوقي:

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا
"كـادَ" المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي
يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا

(6)
نيكوس كازانتزاكس، كاتب وفيلسوف يوناني، من مواليد عام 1883 والمتوفي عام 1957, الذي اشتهر بروايته "زوربا اليوناني" وكتب إضافة لها ما يعتبر من أهم الروايات الفلسفيّة في العالم، وكتب سيرته الذاتيّة الفكريّة "تقرير إلى غريكو"، والتي جاء فيها ما يلي، في سياق فكرة المبحث، عَلّ القبس ينير الغموض:

"ذات ليلة كنت اتمشّى مع صديقي على جبل عالٍ مغطى بالثلوج. تُهْنَا وخيّم علينا الظلام.."

ويضيف "كنت اتقدّم صديقي بخطوات قليلة، وكان عقلي يلفّه دوار غريب. تعثّرتُ كسكران. وبدا لي، وأنا أمشي، كأني أمشي على القمر أو أنني، قبل مجيء الإنسان، موجود على أرض مُغرِقة في القِدَم وغير مأهولة، ولكنها مألوفة جدًا. وبغتة، عند أحد المنعطفات لمحت أضواء خافتة تشع من بعيد قرب قاع المسيل. لا بد أنها قرية صغيرة لا يزال أهلها مستيقظين. عندها حدث لي شيء غريب لا أزال أرتعد حين أتذكره.".

ما ذا الذي حصل ليرتعد كازانتزاكيس؟ يستمر بسرديّته:

"توقّفت وأشرت بقبضتي المشدودة إلى القرية وصرخت غاضبًا: سأذبحكم جميعًا! .
صوت أجش ليس صوتي! بدأ جسدي كلّه يرتعش خوفًا حَالَمَا سمعت هذا الصوت. وركض صديقي إليّ وشدّ على ذراعي بقلق. سألني: ما بك؟ من ستذبح؟ . تراخت ركبتاي وأحسست بتعب لا يوصف. ولكني استعدت وعيي حين رأيت صديقي أمامي. ليس أنا. لم يكن أنا. كان شخصًا آخر قلت له هامسًا".

فلنقرأ أعزّائي معًا كيف يفسّر كازانتزاكيس ما حصل معه:

"كان فعلًا شخصًا آخر. ولكن من؟ لم يسبق لأعضائي الحيويّة أن تفتحّت بهذا العمق وهذا الكشف. فمنذ تلك الليلة صرت متأكدًا مما تكهنت به منذ سنوات: في أعماقنا طبقة فوق طبقة من الظلمة: أصوات خشنة ووحوش جائعة كثيفة الشَعر. ألا يموت أي شيء إذن؟ ألا يستطيع شيء أن يموت في هذا العالم؟". انتهى الاقتباس.

إذا كان هذا ما يقوله أحد أكبر كتّاب ومفكري العصر الحديث، بمعنى أحد أسياد الإرادة الحرّة، في سيرته الذاتيّة الفكريّة، بأن صرخته نبعت من حتميّات الماضي السحيق، فماذا يتبقّى من الإرادة الحرّة في فعل الكتابة، وهو أسمى درجات تجلّي الإرادات الحرّة، وما العلاقة التي تربط الحتميّات بالإرادات الحُرَّة، وتحديدًا فعل الكتابة؟.

(7)
إن الوعي هو خاصيّة للمادة رفيعة التنظيم ألا وهي دماغ الإنسان، ويرتبط بها ارتباطًا لا ينفصم. ويرتبط ارتباطًا لا ينفصم بالعوامل الماديّة البيئيّة المحيطة بالإنسان. وللّغة والكلام المنطوق ولاحقًا المكتوب أهميّة كبيرة في تكوّن وعي الإنسان، وجزء منها هي نتاجه في آن. ولهذا الوعي استقلاليّة نسبيّة عن المادة رفيعة التنظيم تجعله يؤثّر بصورة فعّالة على العالم، وبالإمكان تسمية الاستقلاليّة النسبيّة للوعي أعلاه بالإرادة الحرّة مجازًا رغم إدراكنا بمحدودية هذه الحريّة، إلا أنها تبقى ذات أهميّة قصوى في تغيير العالم والمجتمعات من خلال الحضارة والثقافة. فتؤثّر بالبيئة المادية المحيطة، وتتأثر بها فتَكُون المُحَصِّلة. وأحد أهم أركان الحضارة والثقافة: "صياغة النَّص".

وهذا التوصيف يصحّ لدى تيّارات فكريّة مركزية في العالم تعتقد بالخلق، كما يصحّ لدى تيّارات فلسفية تعتقد بالنشؤ والارتقاء، وغني عن البيان إضافة مفهومة ضمنيًّا للتيار الفكري الذي يعتقد بالأمرين معًا.

فالإرادة الحُرّة منطلقة نسبيًّا ومحكومة بحتميّاتها في آن، وكذا تحدّد بانطلاقها حتميّات بقيّة الإرادات الحرّة وتتحدّد بها. فتتماهى، إلى حدٍّ ما الإرادة الحُرّة والحتميّة. وهو أمر لا يقرب البداهة!

(8)
هنالك مفهوم خاطيء لمصطلح "الحتميّة"، فالحتميّة ليست هدفًا محتومًا وجب الوصول اليه، بل هو مجمل العوامل التي تؤدي حتمًا لما سيؤول إليه. فالحتميّة تتشكّل في خضم تنازع العوامل..

تتشكّل الحتميّة من مجمل العلاقة التفاعليّة للإرادات الحُرّة فيما بينها، من مُحَصِّلة كل الإرادات الحُرة وتفاعل مجاميعها مع بيئاتها الحاضنة، مجتمعًا وطبيعة.

(9)
قلنا بتماهي الإرادة الحرّة والحتميّات، لكن بعض الإرادات الحرّة، التي تصوغ النَّص، والعوالي فيه شعرًا، وفلسفة، تصل إلى سبائك فكريّة جديدة، يعلو مقدارها المعدّل، فتستأثر بالطفرة، وتحدّد معالم المحصِّلة، حتّى تصبح حتميّة لصاغة ادنى منزلة فتتكاثف معها وتمسي جرفًا يصبح ثورة ثقافيّة على أقل تقدير. وبهذا تبدأ مرحلة فكرية جديدة، تؤثّر على مضامين وأساليب النّصوص التالية.

فالنّص نتاج "روحي- فكري" يكلّل سياقات حتميّة، ماديّة وفكريّة، تنتقل بتضافرها نحو العوالي. والذي يُحْدِث الطفرة يُدعى مبدعًا، وبحق، رغم أنه محكوم بتلك الحتميّات التي أشرنا إليها سابقًا، ويتحوّل بطفرته الإبداعيّة الى مؤسس وركن حتمي لأتباع مدرسة إبداعيّة حداثويّة، بسيرورة مستديمة.



#زاهر_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (8) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص.
- (7) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص.
- (6) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص
- (5) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص
- (4) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص
- (3) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص
- (2) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص
- (1) بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص
- أَظَانِيْنُ
- ثورة حتّى قدوم الڤلانتاين!
- قمّة وزراء الخارجيّة العرب (1.2.2020)
- لَوْ دَرِيَتْ الأَقْدَارُ..
- لكي يتحقّق حلمك الإمبراطوري عليك أن تحلُم أوّلًا..
- بَلَاغَةُ اللُّغَةِ أَصْفَادْ
- حَرْبٌ بِ -لا عَتَادْ-
- الحُزْنُ أَجْمَلُ ألفَ مَرّةْ
- مُحَايَثَةْ
- آلِهَةُ المِخْيَالِ
- أُوّاهٍ يا رَبِيْع، أَيَا مَوَاسِمَ عِشْقٍ/ الكسندر بوشكين
- خَابِرِيْنَا


المزيد.....




- انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زاهر بولس - بين الحتميّة والفردانيّة في صياغة النَص. (البحث كاملًا)