|
بقايا كلام على جسر سراقب
عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري
الحوار المتمدن-العدد: 6500 - 2020 / 2 / 27 - 10:39
المحور:
سيرة ذاتية
قول على قول: من يفتح الباب للجنود العائدين من الجبهات غير الأمهات
كانت ليلة ليلاء على جسر سراقب، البرد شديد، لا عجب في ذلك، فنحن في شهر كانون الثاني من عام 1986 نقف في العراء بعد ان أنزلتنا الحافلة القادمة من دمشق العاصمة السورية متجهة إلى مدينة حلب. الطريق الدولي بين دمشق وحلب "إم 5" البلغ طوله 356كيلو متراً، يقطعه جسر مدينة سراقب، فيتفرع إلى فرعين إلى اليسار يذهب إلى إدلب وإلى اليمين إلى "أبو الظهور" ومطارها العسكري والبادية السورية. وكنت قد حصلت على إجازة عشرة أيام بعد أن انتهاء دورة المحاسبة التي التأمت لمدة ستة أشهر في اللواء 43 دبابات التابع للفرقة التاسعة مدرعات التي كان مقرها على أطراف مدينة "الصنمين" والتي يغني لها الفنان الشعبي "من مفرق جاسم للصنمين حاجي تهلي الدم يا عين" كان قائد الفرقة يومها اللواء عدنان بدر الحسن. تمَّ فرزي إلى فرع الشؤون الفنية في قيادة الفرقة. أنا في الأصل أحمل إجازة في العلوم الطبية قسم تخدير وإنعاش من معهد طبي في جامعة حلب. ولكنني رحت أشرف أسبوعياً على جداول الجاهزية القتالية للدبابات السورية في الفرقة التاسعة وما عدد المعطل منها وما عدد الموجود في ورش الإصلاح في إدارة المركبات، إضافة لذلك نقوم بين فترة وأخرى بجولات ميدانية على الألوية والكتائب المستقلة مع ضباط فرع الشؤون الفنية للتفتيش على جاهزية هذه الدبابات التي كانت تلك الأيام من موديل(ت62) روسية الصنع. خلطة عجيبة صنعت هذا المقاتل الجسور.
بين مدينة إدلب ومدينة الصنمين مسافات تستغرق وقتاً طويلاً في السفر. أعطانا سيادة المساعد الأول في قلم الفرع ورقة الإجازة بعد انصراف الضباط في حدود الساعة الثالثة ظهراً. وحين وصلنا من مدينة الصنمين إلى باب شرقي في دمشق بعد عناء، كانت الشمس قد غربت، لأن نهار الشتاء قصير في بلاد الشام. وانطلقتُ مع مجموعة من العساكر في "تكسي" إلى كراجات العباسيين في القابون في أول حرستا من ريف دمشق. لا يوجد حافلات إلى مدينة إدلب وأول حافلة تنطلق إلى حلب في الساعة التاسعة من مساء ذلك اليوم. أمرنا لله نركب في حافلة حلب وننزل على جسر سراقب.
في الساعة الثالثة صباحاً وقفت الحافلة التي تقلنا تحت جسر سراقب. نزلنا منهكين من البرد والتعب. حافلات تلك الأيام غير مريحة على الاطلاق، تصفر الريح الباردة من فتحات نوافذها التي لا تغلق بإحكام، فترتعد الفرائص من البرد. صعدنا من تحت الجسر إلى فوقه لننتظر الحافات القادمة من مدينة سراقب أو "أبو الظهور" والذاهبة إلى إدلب. كان الهواء ساكناً فوق الجسر ولكن البرد شديد وقفنا في البداية قرب بعضنا نحاول الحصول على قليل من الدفء. كنا ثلاثة مقاتلين في الجيش العربي السوري، أنا أريد الوصول إلى مدينة إدلب، وهذا الأمر أسهل لأن رفاقي سيكملون طريقهم إلى أهلهم في مدينة حارم على الحدود التركية.
بعد انتظار طويل وفي الساعة الخامسة بعد آذان الفجر لمحنا من بعيد ضوء سيارة قادمة إلينا من طريق "أبو الظهور" ولكنها تسير على مهل. سألني الرفاق في أي يوم نحن؟ قلتُ واثقاً: الثلاثاء. قالوا: كيف الثلاثاء ونحن خرجنا من الصنمين عصر الثلاثاء، اليوم أربعاء. قلتُ: والله صحيح، اليوم أربعاء. وهو يوم بازار في مدينة إدلب.
حين اقتربت السيارة أشرنا للسائق ان يقف، ولكنه تجاهل أمرنا، وأكمل طريقه، وبعد أن ابتعد أكثر من مئة متر وقف، فركضنا باتجاهه كمقاتلين شرسين في معركة حامية الوطيس. ويا لخيبة أملنا، كان صندوق السيارة يغصّ بأكثر من خمسين رأس غنم والسائق في طريقة إلى سوق الأغنام في بازار مدينة إدلب، وحتى "كبينة" السائق ممتلئة بمرافقين له. بالمختصر المفيد لا مكان لنا. قال السائق: قادمون من أين. قلنا: من الصنمين. قال: يا ساتر، والله بعيدة، أمامكم حل واحد أن تركبوا مع الأغنام. ما رأيكم؟ نظرنا في وجوه بعضنا، ثم قلنا: نركب.
وجدنا مطرحاً بين الأغنام، ثم جلسنا القرفصاء، كي نحتمي من الريح الباردة التي هبت و"تقص المسمار" حين انطلقت السيارة. وراحت الأغنام تعبث بنا، مرة تلوك ستراتنا العسكرية، ومرة تنظف انوفها، تتمخط، ومرة تقضم آذاننا، ومرة تبول علينا، ومرة تمتطي ظهورنا وأكتافنا، وخاصة الذكور بقرونها الغليظة، الظاهر أنها حسبتنا من إناثها. لم تترك الأغنام لنا خياراً، فصبرنا واستسلمنا لها، لأن معركتنا معها كانت خاسرة.
بين سراقب وإدلب مسافة قصيرة في حدود العشرين كيلو متراً ذقنا خلالها الأمرين، كما يُقال، عذَّبتنا الأغنام عذاباً لا يوصف. وفي النهاية، حين وصلنا بازار مدينة إدلب ترجلنا من بين الأغنام، كانت حالتنا حالة. رتبنا هندامنا قليلاً، إلا أن رائحتنا كانت فظيعة، وهرب كل منا في اتجاه. وحين وصلت بهذه الهيئة، فتحت أمي باب الدار- ومن يفتح الباب للجنود العائدين من الجبهات غير الأمهات- قالت وهي تحتضنني: سامحكم الله يا ولدي، حررتم الجولان، وقتلتم جنود بني إسرائيل، الله يعطيكم العافية، ولكن ما لكم وأغنامها، حرام... رحمك الله يا أمي وحمى أحجار قبرك في مدينة إدلب.
أغنية "من مفرق جاسم للصنمين" أداء فرقة "الصعاليك": https://www.youtube.com/watch?v=iAUrjYlYdJ0
#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أبي وعبد الله بن المقفع وفلسطين
-
بقايا كلام على حائط أم جورج في إدلب
-
قصيدة حب سومرية
-
مصحف جدي
-
حوار في موسكو
-
شجار في صحيفة الأخبار
-
ثلاثون عاماً على كتاب الرأسمالية تجدد نفسها
-
يعجبني ماركس أكثر من سواه
-
من يملك الدَّين الأمريكي؟
-
قرية سورية منحوتة في الصخر
-
حدثنا عن العدالة يا أردَشير
-
صورة الشاعر إيمي سيزار
-
جهاد محمد...والرقص مع الذئاب
-
ماذا سيحدث غداً يا تولستوي؟
-
تجدُّد ماركس
-
كيف تكون شيوعياً جيداً؟
-
على عتبة المؤتمر
-
في الحيلة لدفع الأحزان
-
منصور الأتاسي وداعاً
-
غزة في الوجدان
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|