إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي
(Driss Lagrini)
الحوار المتمدن-العدد: 1572 - 2006 / 6 / 5 - 05:56
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
حتمت فترة الحرب الباردة ربط مصادر تهديد البشرية بالعوامل العسكرية دون سواها، مما حال دون إيلاء الاهتمام لجوانب أخرى تشكل تهديدا حقيقيا للإنسانية جمعاء.
ومع نهاية هذه الحرب الباردة إثر انهيار المعسكر الاشتراكي, أضحى مشكل تلوث البيئة ضمن قضايا دولية هامة أخرى كالديموقراطية وحقوق الإنسان والتنمية ومكافحة الإرهاب, يتصدر قائمة اهتمامات الباحثين الأكاديميين ورجال السياسة والرأي العام الدولي على حد سواء.
إن البيئة التي تعرف بذلك النظام الفيزيائي والبيولوجي الذي يشكل فضاء لحياة الإنسان وباقي الكائنات الحية والعناصر الطبيعية غير الحية من ماء وهواء وتربة وما يحيط بها، وبفعل ميل الإنسان إلى تطوير حياته ومحيطه، تصاب بأضرار جسيمة, في غياب الوعي والمسؤولية بأهمية هذه البيئة سواء تعلق الأمر بتلوث الهواء أو الماء أو نقل النفايات السامة وما يخلفه التطور الصناعي والتكنولوجي من ملوثات ناهيك عن تنامي الحروب والمنازعات، فمظاهر قطع الأشجار وعدم الترشيد في استغلال المياه واستعمال الأسمدة الكيماوية الفلاحية بشكل مفرط وانتشار دور الصفيح في غياب شروط صحية (قنوات الواد الحار مثلا) وإجراء التجارب النووية، كلها تشهد تزايدا مستمرا.
ومن ثم فالغازات الحابسة للحرارة تنتشر بشكل مخيف، فيما تشهد البحار والمحيطات والأنهار تلوثا كبيرا فنجد على سبيل المثال حوالي 50% من أنهار العالم ملوثة بملوثات صناعية وكيميائية سامة، كما تتعرض غابات العالم للقطع، وفقدت معظم الأراضي الزراعية خصوبتها وازداد زحف الرمال بشكل مهول وارتفعت درجة الحرارة بالأرض بشكل ملحوظ، ووقعت العديد من الكوارث الطبيعية (أعاصير، فيضانات...) التي يرجع العلماء أسبابها إلى هذا التلوث البيئي الذي يتسبب في توسع ثقب طبقة الأوزون التي تمثل الدرع الواقي للحياة.
وأمام التحذيرات التي أصدرها العلماء والتي حملتها دراساتهم المتباينة المجالات والتخصصات والتي أجمعت كلها على أن البيئة بكل عناصرها في خطر، بدأ المجتمع الدولي بكل مكوناته (دول، منظمات، جمعيات، رأي عام دولي...) يقر بأهمية تضافر الجهود الدولية لمواجهة هذا المشكل، وبالتالي بدأ الهاجس البيئي يتصدر مركز الصدارة بالنسبة للسياسات الدولية.
ولقد كان لحادث "تشيرنوبيل" النووي سنة 1986 أثر كبير في تنامي الوعي الدولي بأهمية المجال الدولي الحيوي، فهذا الحادث الخطير الذي تجاوزت تداعياته الاتحاد السوفيتي- سابقا- إلى باقي دول أوربا أكد بما لا مجال للشك فيه أن تلوث البيئة لا يراعي الحدود الدولية، وأخرج الاهتمام بهذا المجال من دهاليز العلم إلى أروقة السياسة, وهو ما أسهم في الحد من إطلاقية مفهوم سيادة الدول، بحيث - وأمام هذه المخاطر- لم يعد هناك مجال للدول لتتوارى خلف سيادتها عند الحديث عن هذا المشكل، ولعل هذا ما طرح بحدة ضرورة إثارة مسؤولية الدول ومحاسبتها في مثل هذه الأحوال الضارة بالبيئة.
إن المخاطر المحيطة بالبيئة أضحت تهدد العالم بأسره، ومن ثم أصبح هذا المشكل ذا بعد إنساني عالمي إلى الحد الذي يمكن القول معه بأن العلاقات الدولية أصبح لها بعد إيكولوجي إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والسياسية ...الأخرى.
إن الاهتمام الدولي بالبيئة بدأ خلال فترات مبكرة من القرن الماضي، من خلال عقد لقاءات واتفاقات دولية لها علاقات بالثروات الطبيعية وحسن استغلالها، غير أن هذه الجهود ظلت نسبية، لكن مع التطور الصناعي والتكنولوجي جاءت أول خطوة دولية مهمة في هذا الشأن وأشرفت عليها منظمة الأمم المتحدة وهي مؤتمر "ستوكهولم" حول بيئة الإنسان سنة 1972.
ثم جاء مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية أو ما يعرف بقمة الأرض "بريو دي جانيرو" بالبرازيل في الفترة ما بين 3 و 14 يونيو عام 1999 لتدارس هذا المشكل وتكريس نوع من التنسيق الدولي لمواجهة مشكل التلوث، وقد شكل هذا المؤتمر الذي تميز بمشاركة دولية واسعة تمثلت في 40.000 شخص و 1200 منظمة دولية غير حكومية وحضور 178 دولة و130 رئيس دولة, مناسبة لمنح الأمم المتحدة دورا كان مسلوبا منها رغم خطورته على السلم والأمن الدوليين ولنقل الاهتمام بهذا المشكل من المختبرات العلمية إلى أروقة السياسة الدولية.
ورغم أن هذا المؤتمر شكل منبرا للتراشق بالتهم المتبادلة بين دول الشمال ومثيلاتها في الجنوب حول المسؤولية عن هذا التلوث، إلا أن أشغاله تمخضت عنها مجموعة من التوصيات والتدابير التي حاولت في مجملها التوفيق بين التنمية وحماية البيئة. وبعد عقد من الزمن جاء مؤتمر "جوهانسبورغ" لنفس الغرض ليكشف من جهة هزالة حصيلة هذه الفترة في مجال مكافحة تلوث البيئة وتحقيق تنمية مستديمة، غير أن النتائج التي تمخضت عن هذا المؤتمر بدورها لم ترق إلى مستوى الآمال والطموحات التي عقدت عليه وهو ما خلف نوعا من الاستياء في أوساط المنظمات الدولية غير الحكومية المهتمة بالشأن البيئي والرأي العام الدولي.
إن تحقيق تنمية مستدامة تلبي احتياجات الوقت الحاضر اقتصاديا واجتماعيا دون الإخلال باحتياجات الأجيال المقبلة ومحيطها البيئي، تتطلب نوعا من التضامن بين الشمال والجنوب خدمة للبشرية جمعاء عوض الخوض في التراشق بالتهم، غير أن هذا التضامن ينبغي أن يكتسي طابعا أخلاقيا وبناء على المبدأ القاضي بالتساوي في المصالح لكن بمسؤوليات مختلفة.
والدول الكبرى تظل في حقيقة الأمر بالنظر إلى صناعاتها المتطورة, المسؤول الأكبر والأول عما يلحق البيئة من دمار، ويكفي أن نشير مثلا إلى أن ما يحدثه مواطن أمريكي واحد من خلل بالبيئة يوازي ما يحدثه 13 مواطنا من البرازيل و35 هنديا و280 تشاديا...
كما أن استهلاك الفرد الواحد في الولايات المتحدة الأمريكية من الطاقة يعادل 20 مرة ما يستهلكه نظيره في الهند و80 مرة ما يستهلكه الفرد الواحد في دول إفريقيا جنوب الصحراء، ومن جهة أخرى فهذه الدول الكبرى تملك من المقومات والإمكانيات ما يجعلها في مأمن من التداعيات الخطيرة لتلوث البيئة (أعاصير، فيضانات، تلوث الأنهار...). علما أن العديد من هذه الدول تمتنع أو تتحفظ أحيانا عن المصادقة على اتفاقيات دولية هامة في هذا الصدد كما هو الشأن بالولايات المتحدة التي امتنعت عن التوقيع عن اتفاقية "كيوتو" المرتبطة بالحد من انبعاث الغازات السامة المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري وتغير المناخ.
إن الفقر يعد بحق أحد أسباب الدمار البيئي الرئيسية وعائقا للتنمية المستدامة التي تعد مبدأ أساسيا في السياسة الدولية للبيئة. ولهذا فعلى الدول الكبرى وفي خطوات دولية تضامنية أن تقوم بإلغاء ديون البلدان النامية, باعتبار ذلك عائقا للتنمية وسببا لتنامي التلوث, أو العمل على إلغائها مقابل إنشاء محميات طبيعية بهذه الدول كما يرى بعض الخبراء, أو تمكينها من مساعدات مالية وتقنية وهي خطوة واجبة أكثر منها عملا خيريا، فقد جاء في تقرير لبرنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية لعام 1992 أن النظام الاقتصادي العالمي يمكن الدول الغنية من سرقة ما يناهز 500 مليار دولار سنويا من البلدان الفقيرة، ولتعويض هذه السرقة يتم إرجاع حوالي 50 مليار دولار في شكل مساعدات عمومية للتنمية لفائدة هذه الدول الفقيرة.
إن هذه الخطوات الجماعية والتضامنية تظل ملحة وذلك لطمأنة الدول الضعيفة التي طالما أبدت قلقها من أن تصبح المحافظة على البيئة الوسيلة الشرعية الجديدة للقضاء على ثروات مصدري البترول أو أن ذلك سيكون على حساب التنمية بهذه البلدان.
هذا إضافة إلى دعم نقل التكنولوجيا العالية الجودة إلى هذه الدول، والإقرار بمبدأ من يقوم بتلويث البيئة عليه دفع تكاليف إصلاحها، زيادة على منح الأمم المتحدة صلاحيات كبرى وفعالة في مجال التدخل الزجري الموضوعي لمعاقبة كل المسؤولين عن تلوث البيئة.
كما أن التنمية باعتبارها مطلبا إنسانيا ملحا يجب أن توجه وتهذب باتجاه خدمة البشرية في الحاضر والمستقبل، بدل ترك شؤون إدارتها بيد زمرة من مستهدفي الربح السريع و"لوبياتهم" ولو على حساب دمار البيئة التي تعني بكل تأكيد دمار الإنسانية.
#إدريس_لكريني (هاشتاغ)
Driss_Lagrini#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟