|
الثالوث العبري ( تعدد الآلهة)
ابرام لويس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 6494 - 2020 / 2 / 18 - 13:51
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من سرد الكتاب المقدس لقصة خلق أبوي البشر (آدم وحواء) و ارتكابهما الخطيئة بأكل الثمرة المحرمة بإيعاز من الحية الخبيثة و خروجهما من الجنة ، نقتطع المقاطع التالية : وسمعا صوت الرب الاله ماشياً في الجنة ( تكوين ص 3 : 8) فنادي الرب الاله آدم وقال له : أين أنت؟ ( تكوين ص 3 : 9) فقال الرب الاله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ (تكوين ص 3 : 13) فقال الرب الاله للحية : لأنك فعلت هذا ملعونة أنت (تكوين ص 3 : 14)
وان التعبير (الرب الاله) يوحي ان هناك أكثر من رب ، رب إله ، و أرباباً ربما أقل شأنا ، و يعضد هذا الفهم ان النص يقول بعد اكل أدم لثمرة المعرفة : ”وقال الرب الاله : هوذا الانسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر والان لعله يمد يده و يأخذ من شجرة الحياة ايضاً ويحيا الى الابد“ ( تكوين ص 3 : 22) وناهيك عن الفهم الفج لمسألة الخلود ، وعن خشية الرب من استغلال آدم لغفلته و احتمال أكله من شجرة الخلود فيخلد كالآلهة ، فإن التعبير "كواحد منا" يوحي أن الرب الاله هنا لا يتحدث عن نفسه فقط ، انما يتحدث عن نفسه و عن آخرين مثله ، و ان هذا الحديث موجه الى هؤلاء الآخرين ، وهو ما يؤكد الفهم بأن الرب الاله ، اله مميز ضمن مجمع من الالهة ، و يدعم هذا الفهم أكثر و أكثر نص آخر يتحدث عن بناء البشر لبرج عال ، ذاك البرج المشهور في الاساطير ببرج بابل ، فيقول النص : ”نزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما ، وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل.والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون ان يعملوه ، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض ، بددهم الرب من هناك على وجه كل الارض“ (تكوين 11 : 5 -8) ومرة أخرى يشعر الرب بالخوف من ذكاء مخلوقاته وانهم قد يتمكنوا من الوصول ببرجهم الى السماء و اقلاق راحته ، فيتدخل بأن يحول لغتهم الواحدة الي لغات متعددة حتى لا يفهم بعضهم بعضا و من ثم لا يتحدوا مستقبلا في عمل يزعجه ، الا ان الاهم من هذا وما يعنينا هو ان الصياغة الدالة على المعبود هنا اضحت "الرب" فقط وليست "الرب الاله" و ان هذا الرب انما فرد ضمن مجمع الهي، متضمناً في قول النص (هلم ننزل و نبلبل ألسنتهم)
وهذا الرب يأتينا بشكل أوضح في لقاءات متكررة مع النبي ابراهيم في نصوص مطولة نجتزئ منها النصوص التالية : ” وظهر الرب لابرام وقال لنسلك اعطي هذه الارض.فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له“ (تكوين 12 : 7) والنص هنا بينَّ جليّ ، يميز رباً من ارباب اخرى بأنه الرب الذي ظهر لابراهيم ثم نجد صيغة اخري للدلالة على الاله في قصة هروب هاجر جارية سارة زوجة ابراهيم والتي تقول : ” فقال ابرام لساراي هوذا جاريتك في يدك.افعلي بها ما يحسن في عينيك.فاذلّتها ساراي.فهربت من وجهها ، فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية ، ..فقال لها ملاك الرب ارجعي الى مولاتك واخضعي تحت يديها. وقال لها ملاك الرب تكثيرا اكثر نسلك فلا يعد من الكثرة.قال لها ملاك الرب ها انت حبلى فتلدين ابنا.وتدعين اسمه اسماعيل لان الرب قد سمع لمذلّتك ...دعت اسم الرب الذي تكلم معها انت ايل رئي، لانها قالت أههنا ايضا رأيت بعد رؤية“ والنص هنا يحدثنا عن ظهور من دعاه (ملاك الرب) لهاجر ، لكنه يعود يقول ان هاجر عرفت فيه شخص الاله (ايل) ، وان (ايل) انما فرد ضمن مجمع الهي و هو ما يعبر عنه النص بقوله ( الرب الذي تكلم معها) ، ولكن كيف يمكن فهم هذا التضارب ما بين (ملاك الرب) و بين (الرب) ، علينا هنا العودة الى وقت و اسلوب كتابة الكتاب المقدس ذاته لحل هذا التضارب.
من المعروف ان مواد الكتاب المقدس كانت في البداية روايات شفهية، وربما تضاف اليها كتابات متناثرة متداولة جيلاً بعد جيل ، وما يسمي التوراة من اسفار الكتاب هي الاسفار الخمسة الاولي ، وتشمل على سفر التكوين وهو معتمدنا حتى الان في البحث ، وهو السفر الذي قرر أن (ايل) هو اله العبريين او اليهود او بني اسرائيل ، وسفر الخروج وسفر اللاويين و العدد والتثنية ، و هناك تصنيف اخر يضيف لهذه الاسفار سفر يشوع يجعل التوراة ستة اسفار المسماة Hexateuch ، ويختلف الباحثون حول الموعد الاقرب للدقة لبداية كتابة اسفار الكتاب المقدس، فهناك من يعيدها الي حوالي 440 ق.م وهو التوقيت المرجح، وان الاسفار الاولي (التوراة) كتبت خلال مدة زمنية تصل الى ثلاثة قرون ، وهناك من يري انها دونت بعد النبي موسي بعدة قرون مصنفة من مصادر مختلفة وهذا رأي مدرسة فلهاوزن ،وهم يعيدون أبعد مصدر للتاليف الى عام 850 ق.م ، وهناك من يرتد بكتابتها الى حوالي القرن العاشر ق.م وهو ابعد تقدير حتى الان وان هذا يعني انما يعني وجود مسافة زمنية طويلة تفصل بين بدء هذا التراث وبين وقت تدوينه، اضافة الي انه كتب بأيد مختلفة وعقليات مختلفة ، مما ادي الى ظهور نوع من التضارب والتناقض حتى ان مدرسة فلهازون بنت توقيتها على اسباب هامة وخطيرة هي اختلاف اسماء الاله بين الاسفار ، وتكرار بعض القصص بأساليب مُختلفة تشير الى اختلاف الكتاب ، ودليل ذلك وجود فروق بينة وعميقة في اللغة والاسلوب.
وفي ذلك ما يفسر لنا قضيتنا : هل الذي رأته هاجر (ملاك الرب ) أم الرب (ايل) نفسه ، و التفسير ببساطة هو وجود روايات ،وربما نصوص عتيقة من عصور قديمة بيد الكاتب الذي عاش جيلا آخر بعد قرون طويلة من التطور الفكري والديني ، وحيث اخذت الالهة المتعددة القديمة تتحول تدريجيا الى جم غفير من الملائكة نتيجة لاتجاة العقل تحو التوحيد الا أن الملائكة ظلت تحمل الطابع الالهي في اسمائها مثل (جبرائيل ،ميكائيل، اسرافيل، عزرائيل....ألخ) ، ومن هنا نستطيع ان نلمس حيرة الكاتب بين ما بيديه من نتف و روايات قديمة ، وبين ما يمليه عليه عقله ومن منطق عصره والتطور الديني الذي وصل اليه الفكر الديني، مع محاولته الحرص على القديم في ذات الوقت ، لذلك ورغم محاولاته الارتقاء بربه عن التجلي والكلام مع البشر كالبشر، فتصرف في الصياغة و ينسب ذلك الي ما يسميه (ملاك الرب) ، الا انه لم يستطع على ما يبدو الغاء الفقرة الاخيرة ( دعت اسم الرب الذي تكلم معها ايل) لانها على ما يبدو كانت ضمن نصوص مكتوبة ولها قدسيتها ، أو ربما لانه مضطرا للحفاظ على جزء هام من الرواية الاصلية ، وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها في كثير من النصوص ، ظاهرة تعامل كاتب حديث مع نصوص قديمة ، ومثالا لذلك نطالع نصاً آخر يحكي لنا قصة القرار الالهي بتدمير مدينة لوط ( سدوم) التي تفشي فيها داء الشذوذ الجنسي ، وتبدأ القصة بظهور الرب لابراهيم يبشره بغلام بعد ان بلغ و زوجته من العمر عتيا ، فتقول : ” وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار ، فرفع عينيه ونظر واذا ثلاثة رجال واقفون لديه.فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد الى الارض ، وقال يا سيد ان كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك“ ( تكوين 18: 1-3) والرب هنا يظهر بوضوح لا يقبل لبساً في هيئة ثلاثة رجال يناديهم ابراهيم (الثلاثة) في صيغة المنادي الواحد: يا سيد ، عينيك ، لا تتجاوز عبدك ، ثم يعود لمناده ربه بصيغة الجمع ، فيقول : ” ليؤخذ قليل ماء واغسلوا ارجلكم واتكئوا تحت الشجرة ، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون.لانكم قد مررتم على عبدكم، فقالوا هكذا نفعل كما تكلمت...واذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة اكلوا ، وقالوا له اين سارة امرأتك.فقال ها هي في الخيمة ، فقال (اى الرب) اني ارجع اليكم نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن.وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراءه...فضحكت سارة في باطنها قائلة أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ ، فقال الرب لابراهيم لماذا ضحكت سارة قائلة أفبالحقيقة الد وانا قد شخت ، هل يستحيل على الرب شيء ....ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم.وكان ابراهيم ماشيا معهم ليشيعهم ، فقال الرب هل اخفي عن ابراهيم ما انا فاعله ...وانصرف الرجال من هناك وذهبوا نحو سدوم.واما ابراهيم فكان لم يزل قائما امام الرب“ ( تكوين ص 18: 1-22)
واضح اذن ان الرب قد ظهر لابراهيم في هيئة ثلاث شخوص ، والاكثر وضوحاً هو حيرة الكاتب مع ما بين يديه من متناثرات قديمة ، وبين اعتقاده في اله واحد ، فتضارب النص بين يديه ما بين الافراد والجمع ، ولكن تبقي في الاية الاخيرة مسألة غير مفهمومة وهي أن (الرجال) الدالة على الرب المثلث ، قد ذهبوا الى سدوم، بنيما ظل ابراهيم مع الرب ، لكنها تصبح مفهومة عندما نستمر مع النص ، فنجده يقول : ” فجاء الملاكان الى سدوم مساء وكان لوط جالسا في باب سدوم.فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما وسجد بوجهه الى الارض، وقال يا سيّديّ ميلا الى بيت عبدكما وبيتا واغسلا ارجلكما...“ وهنا انتقالة مفاجئة الي من يسميهما النص (الملاكان) ، لكن سلوك لوط يوي أنه امام اثنين من الارباب ،سواء في سجوده أو في وصف نفسه بأنه عبد لسادة ، ومرة اخري نجدنا مضطرين اللجوء الي تضارب الكاتب بين ما يديه من تراث وبين ما يعتقد ، ويصبح التفسير ببساطة ان الاله الممثل في ثلاثة ذهب منهما اثنان الى سدوم وبقي واحد، ويبدو انه كبيرهم مع ابراهيم ، ويدعم ذلك ان هذين الاثنين اخبرا لوط بقرار تدمير سدوم وبالرغم الالهية في انقاذه مع زوجته وابنتيه في النص : ” ولما توانى امسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه واخرجاه ووضعاه خارج المدينة ، فقال لهما لوط لا يا سيد هوذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك الذي صنعت ...“ وحيرة الكاتب بادي ما بين كون الاثنين ملاكين ام رجلين أم الهين أم رب واحد ( امسك الرجلان ، لشفقة الرب عليك، لا يا سيد، عبدك ، عينيك) و تأسسياً على هذه النصوص يمكنا ان نقول بدون تردد ان النصوص الاصلية سواء كانت شفاهية ام على هيئة كتابات متناثرة ، كانت تتحدث عن ثالوث الهي و ان الضلع الاكبر في هذا الثالوث كان (ايل) وهو إله القمر. **
المرجع: -------- ** سيد محمود القمني ، القمر الأب ، أو الضلع الأكبر في الثالوث ، دراسة منشورة في مجلة الكرمل الفلسطينية العدد 26 لسنة 1987 ، ص 54 -57
#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نشأة المسيحية ، كيف دخلت شخصية المسيح الى العالم ؟
-
نصائح للمثقفين (هام جدا جدا)
-
إعادة ترجمة (تثنية 25: 11-12) المرأة المصارعة !!
-
لسان الملك داود بينقط سكر !!
-
إعادة فهم رواية ختان ابن موسي و حل الاشكاليات المتعلقة بالقص
...
-
يا ايها العرب لتسمعوا صوتي
-
الفهم الصحيح لرواية الطوفان التوراتية
-
الْبِيرَةُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ !
-
رُؤْيَةُ جَديدَةٍ لِقِصَّةِ قايين وَهَابِيلً، مَعَ تَرْجَمَة
...
-
غَزَّةُ إلْي أَيْنَ يَا غَزَّةٍ ؟
-
تحليل للأدلة المستخدمة في اثبات الملك داود تاريخياً
-
تحليل للأدلة المستخدمة في أثبات وجود المسيح تاريخياً
-
قصة تريستان و ايزوت Tristan & Isolde أجمل قصة حب عرفتها العص
...
-
تحليل سفر نشيد الاناشيد ( كسفر عشق و حب ) و ماذا نستفيد من خ
...
-
هل لم يُغير اليهود نصوص العهد القديم ؟ - بعض الأمثلة على تصح
...
-
هل سفر نشيد الأناشيد يخلو من الأستعارات الجنسية ؟
-
لماذا تكررت رواية كذب ابراهيم في الكتاب الذي يُقال عنه انه م
...
-
لماذا لا توجد أناجيل عربية قبل ظهور الاسلام ؟ بالرغم من وجود
...
-
غراميات الملك فاروق
-
قولوا عليَّ إني بتاع نسوان ، لكن انا مقتلتش
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|