.
( الكلمة والمرئيات )
يبدو ان المنافسة الكلاسيكية بين عذرية الكلمة ، كمتانة فضاء منفلت في ما يخص كل ما نسميه قراءة ، مع ما تمنحه الصورة المرئية من شروط قراءة وفق
قيد ما افصحت عنه ، هي في مازق ٠ وليس الموت كما يشتهي البعض من مرضى النهايات تسميته منذ اول اسطورة نهاية حتى نهاية السيد فوكوياما ٠
هو مازق المنافس الاول ، صاحب الجذر الاعمق في الذاكرة والارض ، وربما الكون ، لانه على الاقل مازال هنالك من يعترف بان الرب بدا مع الكلمة ٠
وكانك ستعقد مقارنة بينك وبين رجل اعمى ٠ وتقول عن الرجل بانه يرى ما ﻻ ترى وانه اعمق ، او انه يدرك بالاتجاه المحلوم به من قبل الانسان الساعي
للنظافة ، الهة العذرية التي ﻻ اصل لها ، وﻻ عودة ، اذ ما كانت قد هرولت معنا فعلا طوال ما مضى ٠ هذه المنافسة التي تستخدمها بينك وبين الرجل
الاعمى ، هي احد اشكال الشفقة التي نود التخلص من مسؤوليتها المرهقة٠ مما للشفقة دور مهم في الحطام الذي يستولي على خطوة الكائن ٠
وﻷن كل واحد منا ماهر بطريقة ما في حلاقة الواقع للتخلص من قبح الواقع نفسه ، فان هذه المنافسة ، هي شفافية محزنة وفي كثير من الاحيان مخزية
ومبتكرة ، بعد عملية الحلاقة التي قمت بها ٠ وحقيقة السعادة النابعة من لذة المرئيات المتراقصة في عينيك وان كانت على هيئة مجزرة ، ﻻ تعد وﻻ تحصى
مقارنة بمقدار الفرح الذي تسببه الصورة المفترضة في عينين ميتتين ٠ اما اذ ما اصررت علي شبكة عين المخيلة ، وتقصد انبل ٠ فهذا ما اعنيه بدوري ،
وهذه هي الحلاقة التي تحب ان تفعلها في كل مرة ٠ مقص متخندق ضد البشاعة ، كفرصة تنفس واختباء ٠
اما اليوم فكف الميزان لصالح المرئيات ، لم تتحقق هذه اللاعدالة بسبب انحطاط العصر او الغيبوبة التي اشعلتها مفردات القرية الالكترونية الصغيرة
وﻻ هي انقراض الاناشيد العظيمة ورجال الكلمة المخلصين من انبياء وشعراء وعازفين ٠
لكنها ، اي المرئيات ، ومن خبرات تجربة الفشل والنصر المتراكمة من سيرة الفنون الاخرى ، استوعبت جيدا وبجراة ملحد احرج عصره وبقفزة عملاقة
من فوق الخجل وسور المسكوت عنه ، تجاه حقيقة مرة ومكررة ، هي : ﻻيمكن حل الانسان الا بالرعب المتواصل ٠ من قال ذلك !! ٠ الارهاب المناسب
الذي التزمت به المرئيات كدرب ﻻبد منه ٠ للوصول خطوة ابعد وﻵئقة ٠ اما ما عدا ذلك فهو من اختصاص مسافة الشفقة التي ندعوها الابيض وشفافية ٠
الامثلة والنماذج عديدة ، غير ان مساحة الحديث هنا قد ﻻ تسمح بما فيه الكفاية ، للتطرق اولا لمن نعتقده بسبب الوراثة ، شاعر الشر الاول ، والمريض الاسود ،
في حين لم تسمح الفرصة لآخر ان يقلد ( ريلكة ) هذا اللقب ، على سبيل المثال او ( هرمان هسه ) ٠ بل صنف الاخيرين حسب ما جاء به النقد الملتف
على نفسه بمشنقة التلقي بوتيرة الاحساس الشائع ( بالنسبة للناقد ) ومن ثم الحديث عن الطبيعة المسالمة والخجولة للكلمة ، على الرعم من كل
اولئك الذين منحناهم مجد ارهابنا الشحيح ٠ امام فزع المرئيات الشاهق ،
لقد انهكت الكلمة نفسها بغريزة المحافظة على قدسية شرف المهمة في ما تود الخوض فيه ٠ فهي اسمى من ان تفتق نفسها الى حد التعفن كما هي استعدادات الصورة المرئية في مجابهة الثيمة المنتقاة والذهاب اليها ، ومن دون حياء وﻻ قدسية وﻻ تعالي والتخلص من كبريائها من اجل جمالها ٠نقيض ما تفعله الكلمة حين تتناول ٠ وكما فعل ( اوليفر ستون ) في فيلم ( الاستدارة ) مقارنة مع ما نفتخر به من اناشيد ل ( لوتريامون ) ، وهما يبحران في نفس المشهد ونفس مذاق انثى القرش ٠ وكذلك الهلع الذي بصقه ( بركمان ) في مرئياته ، حين تزدحم الاحاسيس في لقطاته حتى تكف على ان تكون سكين ٠ قل انها تتحول الى مقصلة تماسيح ٠
حسنا ٠٠٠٠٠٠٠٠
فلو كانت لدينا عاهرة على سبيل المثال وشاعر ٠ وتقدمت المرئيات من كلاهما ، ولتكن الآن العاهرة ٠
وليكن عريها اثناء العمل وعينيها وحركات الزبون وكل تفاصيل الغرفة وبضوء احمر ، لقد بدات تتخيلها على طريقة الرجل الاعمى ٠ وان كانت السطور برائحة الواقعية القذرة من سرب الذين يكتبون ضمن هذا التصنيف ٠ وكل محاوﻻت سطور الحداثات الحلزونية ، في ايصال او رسم هذه الغرفة ، مثلا ٠ اقصد كي تستولي علينا خطة من اراد الوقوف عند هذه المضاجعة ٠ سيتضح ان المازق يكمن في مهاجمة احاسيسنا من قبل اجواء انيقة ، تحملنا على تخيل الموقف بطريقة هي الاخرى انيقة ، حيث ستوظف خلطة من صور الذاكرة ، والخروج اخيرا بصورة تقوم باختزال بقية الصور بمساعدة نتيجة معادلة كيمياء السطر ( او الصفحة او المساحة التي شغلت من اجل العاهرة ) كما يحدث في احتمالات العينين الميتتين ، ومن ثم الاستسلام لاكثر الاحتمالات جاذبية وحاجة ٠ وسينجز جمال وفزع لكنه ليس بوقاحة شفافية الارهاب اذ ما اصطادت المرئيات عاهرتنا ٠
ولنستمع الى هذا التفصيل ٠ والسطر الآتي مبتكر :
(( وهو يلجها من الخلف بقوة ، هذا الثمل صاحب رائحة الحليب المتعفن ، تذكرت ظل الشجرة في حديقة الجيران ، وهي تحدق متاوهة في ظل الرجل على الحائط ، انها الطفولة ٠٠٠٠٠٠٠ ))
والآن على الصورة ان تجيب !
بالطبع ستحاول الصورة المرئية اذ ما وافقت على نقل السطر نفسه ، بالاستعانة بكل ممكناتها الذكية والمرنة ٠ مع فقدان جزء ﻻباس منه ، ربما من الرائحة او الظل او مايخص كلمة الطفولة ٠ عير ان قابليتها في التعويض ﻻتقارن ، وستدخل في منافسة شديدة مع السطر ، مستندة الى هبة : انك ستضغي اللحظة مثلما ترى ٠ على النقيض من سطري ، فانت ستصغي اليه وترى مثلما تريد انت بنفسك ، و مثلما قدر لذاكرتك بنوع الصور المخزونة وكميتها ٠ لهذا اتاح سطري للمتلقي حرية ان يكون ضدي ٠ حيث ان للسطر طابع تجميلي مخنث ٠ وحتى ان بدلت كلماتي بكلمات اكثر قسوة وخشونة وشفافية ٠ ارهاب الصورة المرئية يمكن له ان يتيح للعري فقط ، من ما ترآه من تعرق وتاوه وطبيعة مقاييس الجسدين وهما وسط الامكانية الكبيرة في نقل اكثر من تفصيل متجاور وبسرعة انتقال خلابة وبصحبة كل الالوان والحركة والمؤثرات ، مع كل هذا واكثر يتاح للصورة المرئية ان تصل وتختفي مع نذالة او قدسية هذا العري ومن اي زاوية تامل مختارة ٠ ومن دون اناقة وﻻ خجل محسوس حتى تتحقق لذة الارهاب فيك ٠ ولست كما هي اجساد شبكة عين الاعمى ٠ وﻻ يمكن السماح للمتلقي في الهروب الى صور عالمه الذي امقته او احاول تصحيحه ٠ وبدل الجلوس والمفاخرة بان سطري سيقرا باكثر من مخيلة ٠ في الوقت الذي تتجه فيه السطور الى كهوف المازق ، بينما تعلن المرئيات فرحها بالهيمنة والمغامرة ٠
اما مثال الشاعر فلا داعي منه ، فهو ﻻ يختلف كثيرا عن العاهرة ٠ وﻻداعي للكثير من الامثلة ، فهو اخيرا ، الموضوع ، يشبه الصورة المنادى عليها من قبل صاحب العادة السرية ومنافستها ﻻحساس من يضاجع فعلا ٠
ومن زاوية عين الطائر :
ﻻيمكن للكلمة ان تظل قملة في قلب واعظ ، بينما يصر العالم في احتفالات الفزع التي هو بامس الحاجة اليها ٠ في حين تستند المرئيات في قوة توغلها الى مساهمتها في الحفل ٠ وكانه تناقض اليس كذلك ! وقمة الانحطاط !!
وهذا مايجعل الرواية كاحد الاجناس الادبية الناشطة والمتصدرة لمسيرة الكلمة ٠ اما الشعر ، الارملة التي تتباكى على جمالها الآفل ، مصرة على ثوب الحزن والعزلة ٠ صرخة رفض ضد وحشتها ٠ ورغم كل الاغراءات ، فان هذا الشعر مصر على الكبرياء والحنين ، شرنقة العذرية ٠
اعتقد انها تخلت عن مهمة المصلوب ٠ و هذه الوعية الابداعية المدمرة ، راحت تلتقط الواقع ومن دون ولع الكلمة الفصامي في تاجيج وتضخيم الاسئلة الوجودية الكبرى ٠ والتي يبدو انها تعبت من اللهاث ، ﻻ وراء الاجوبة بل لافزاع الاخرين ، عسى ان يتوبوا ويستقيموا ، كما هو الترغيب والترهيب في الديانات السماوية والارضية ٠ بينما تعلمت المرئيات الواقعية هذه ، ويمكن ان يكون تعلمها هو جزء مما تعلمه الانسان عن بساطة الاجوبة التي وجدها لنفسه ٠ كي يعيش على الاقل بالحد الممكن بسلام ٠ وقد ادرك انه ليس بحاجة لمن يرعبه بحجة النضال من اجل راية الانسانية البيضاء ٠بل هو بحاجة الى من يرهبه بحجة ان واقعه المرعب هو لذيذ ومناسب مع كل المصائب والاوجاع ٠ وهو لم يعد يستسيغ خطب القساوسة والملالي والشعراء ونصائحهم في التحديق في عين الموت للسيطرة او البكاء على غرائزنا المسكينة والموهومة ٠ بينما نحن باشد الحاجة لتلك الغرائز ، ومن دونها سنموت مرتين ٠ وهذ مايحدث لمتلقي العصر في افلا م دراكوﻻ ، فهو اكثر وامتع من الترهيب والترغيب المفروض ان يحل به من افواه رجال الدين ورجال الكلمة المقدسة ٠هل هو انحطاط ام حقيقة ولذيذة رغم مرارتها ٠
ومن اجل ان تبتسم : اي مازق ودوار ستصاب به المرئيات اذ ما ارادت ان تقترب من : (( تلبثي ايتها اللحظة فانت رائعة الجمال )) فاوست ٠
واردنا هذه السطور على هيئة لقطة و ومضة ، وليتها !
وليست للحديث عن العلاقة بين السينما والادب !
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
الكلمة : هي كل ما يتعلق بالاجناس الادبية المتعارف عليها حتى هذه اللحظة ٠
المرئيات : هي كل ما يتعلق بالصورة المرئية المتحركة والمتعارف عليها حتى هذه اللحظة ٠