|
(كاتمين على انفاسنا)
خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 6492 - 2020 / 2 / 14 - 23:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يبدو ان خروج نساء العراق المدنيات في تظاهرة يوم أمس (13شباط - فبراير) قد أدخل الانتفاضة في منعطف جديد جعلها اكثر حيوية وتجذرا من محدودية مطالب اصلاح منظومة الحكم التي وسمتها في مراحلها الاولى، فهذه التظاهرة، بتصوري، كانت اشهارا لمطلب جوهري واضح هو مدنية الدولة والمجتمع.
قبل هذا وفي السياق نفسه عبر تحدي المنتفضين وتصديهم للتشويهات التي حاولت المس بظاهرة الاختلاط بين الجنسين في ساحات التظاهر، وحضور المراة الفعال فيها، عن الميل نحو مفهوم متحرر للعلاقات الاجتماعية وبنظرة مساواتية تنسجم كليا مع تصورات المجتمع المدني. بل اكاد اجزم أن (معركة) الدفاع عن حق المرأة في الحضور الاجتماعي ولعبها دورا في جوانب الحياة المختلفة وأولها السياسة، والدفاع عن فكرة الاختلاط المنّزه بين الجنسين الذي يتنافى مع المفهوم الديني الأسلاموي الفظ عنه، سواء في العراق او مجتمعات اخرى (تونس مثلا) هو يشبه في ملامحه العامة معركة السفور التي خاضتها المجتمعات العربية في بدايات القرن العشرين، وسيفضي الى ما أدت إليه، حيث كانت تلك المعركة حينها مدخلا لتحولات اجتماعية وثقافية أعادت هيكلة المجتمعات وأركبتها قاطرة التحضر.
وبظني أن هذه المجتمعات ستكسب هذه المعركة مثلما كسبت التي من قبلها، لأنها، ببساطة، مطلب حياتي طبيعي وضروي ومنسجم مع سياق التطور الحضاري.
لكن الملفت ان هذه المظاهر أثارت خشية بعض اليساريين (المدنيين) من أن تتحول الانتفاضة الى نزاع بين المدنيين والاسلاميين واصفين هذا التحول في مسارها بانه انحراف محتمل في مسيرة الحراك، ويشكل خطرا عليه.
(عبر عن هذا التصور السيد رائد فهمي، سكرتير الحزب الشيوعي، في تغريدة له على تويتر)
اتصور ان مثل هكذا تخوف يعكس قصورا في النظر، لأنه لم يستوعب أن المدنية ليست ترفا ولا أمراً طارئا لكي توصف بأنها يمكن ان تشكل انحرافا في مسار الانتفاضة، بل هي مطلب جوهري نتج من سياق منطلق الحراك الاساسي (استعادة الوطن)، الذي يتضمن استعادة هوية المجتمع المصادرة او اعادة تعريف لها، وهذا التحول المحتمل (او القائم فعلا) في مسار الانتفاضة هو تتمة طبيعية لتطور نوعي كان يهجس به المجتمع، على خلفية تحولات نوعية في الوعي وفي البنى الاجتماعية، من بينها ( تنامي الطبقة الوسطى مجددا، اتساع التعليم، وفرة المعلومة والتواصل الحضاري)، طوال سنوات حكم الاسلام السياسي، وليس ردة فعل على تعنت السلطة واحزابها كما تذهب بعض التصورات.
مدنية الدولة والمجتع هي سمة العصر الحديث وهي طريق طبيعية لكل مجتمع يريد أن يمارس حضوره داخل التاريخ. والمجتمعات الحديثة تدير نفسها بقوانين وأعراف تضعها لنفسها وفق معطيات وتطورات واقعها وضروراته، تناقشها وتتنافس على تطبيقاتها، وليس وفق تصور فوقي، إلهي أو مقدس، يستمد تعاليمه من قوانين (شريعة) لم تعد نافعة لزماننا، ليس لأنها سيئة أو قاصرة بحد ذاتها، وإنما لأنها وضعت لزمن وبيئة وناس مختلفين، والالتجاء اليها لإدارة مجتمع عصري سيكون إساءةً لها بالدرجة الاولى والى المجتمع الذي يرغم على الالتزام بها.
لست ضد التدين، فحرية المعتقد واحدة من اسس فكرة مدنية وعلمانية الدولة والمجتمع التي أتبناها، لكني ضد أن يتحول الدين والتدين سلاحا يسلط على حرية الناس وخياراتهم. وضد أن يتدخل في كيفية تسيير الدولة لشؤونها.
مثال:
هناك مادة في الدستور العراقي تفرض أن لايُسَّن أي قانون يتعارض مع تعاليم الشريعة. هذه المادة قنبلة موقوتة، لأنها تمنح صلاحية ضمنية لأي موظف أو مسؤول بالدولة في أن يرفض تنفيذ القوانين (لاسيما أن قوانين الدولة العراقية متداخلة وموروثة من أنظمة أخرى)، أو إنه سوف ينفذها وفق رؤيته وفهمه لهذه المادة. وفعلا حدث مرات أن موظفين في الدولة، رفضوا، على سبيل المثال، منح تصريحات رسمية قانونية لبيع الخمور بادعاء أن واجبهم الشرعي يحّرم عليهم فعل ذلك. وكثيرا ما نسمع مسؤولين كبارا في الدولة يرددون عبارة: (واجبي الشرعي والوطني)، مقدمين، قولا وفعلا، الشرعي على الوطني والقانوني.
قد تمد الشريعة الانسان بمفاهيم وروادع أخلاقية، (كأن تمنعه من السرقة أو اسغلال المنصب) وهذا أمر ايجابي، لكن لايمكن أن تقحم مفاهيمها ومعاييرها في تنفيذ القوانين الرسمية الموضوعة والتي تمس المجتمع كله.
ولا يقل تاثيرا الأخذ بالشريعة كمعيار لتطبيق القوانين ماتقوم به، او بالاحرى من يستغلها في ذلك، في تقييد المجتمع بتعاليمها واجراءاتها. فالحجاب والايمان والطقوس الدينية وغيرها هي حريات فردية تمارس عن قناعة وليس ارغاما بالضغط الخفي باسم المقدس والقول الالهي وواجبات الشرع، كما يحدث في المجتمع الآن من فرض لها باسم اغلبية دينية لا تعني بالتأكيد أن الآخرين المختلفين متوافقون معها وعليها.
سيعترض محبذو الشريعة على أن ذلك جاء برغبة الناس، وأن ليس هناك ضغوطا مادية تمارس في فرضها، وهذا يبدو صحيحا ظاهريا، لكن في العمق هناك ضغط معنوي (يتحول الى مادي ما أن تقتضيه الحاجة) يمارس على الناس في فرض تعاليم الشريعة عليهم في حياتهم الشخصية.
أختم باستحضار قول لشاب كويتي وصف مرة دور القوى الاسلامية في الضغط الاجتماعي بالقول أنهم (كاتمين على انفاسنا).
وهذا ادق توصيف لما يمارسه الاسلاميون من مختلف المشارب في مجتمعاتهم، والامثلة اكثر من أن تُحصى وتُحصر.
اتركو الناس يختارون مصائرهم بأنفسهم، من يريد الذهاب الى الجنة ليذهب، هنيئا له، شرط أن يذهب اليها بمفرده، ومن يريد جهنم ليذهب اليها، فهذا خياره، ولكن بمفرده هو الآخر أيضا.
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أحصنة طروادة
-
عوامل نجاح واخفاق انتفاضة تشرين
-
نبوءة النحس في فارنا
-
أهل الخارج
-
هويات الارهاب المتعددة
-
زيت وماء
-
العنف في السياسة 22
-
العنف في السياسة 1-2
-
لمحة سريعة عن الازمة الوزارية في السويد
-
التحولات السياسية في الانتخابات السويدية
-
حجج لا تشيخ
-
وماذا بعد؟
-
حراس العقيدة
-
في حتمية زوال (اسرائيل)
-
من شّب على شيء شاب عليه
-
طفح الكيل في السليمانية
-
أولوية الأولويات
-
ممكنات التغيير في العراق
-
لمحة عن الصراع في الحركة القومية الكردية
-
تحديات الاستفتاء
المزيد.....
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
ليبيا.. سيف الإسلام القذافي يعلن تحقيق أنصاره فوزا ساحقا في
...
-
الجنائية الدولية تحكم بالسجن 10 سنوات على جهادي مالي كان رئي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|