|
ملأنا البر حتى ضاق عنا...
ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين
(Nagih Al-obaid)
الحوار المتمدن-العدد: 6487 - 2020 / 2 / 9 - 17:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن عمر بن كلثوم يحلم بأن نبوءته ستصبح كابوسا بعد أكثر من 1400 عام. فما قاله الشاعر في معلقته الحماسية على سبيل التفاخر العشائري الفارغ بعدد أفراد قبيلته تحقق حرفيا في العراق واليمن وسوريا وغيرها من بلا د العرب حيث يتزاحم الناس ويتنازعون بلا هوادة على الأرض والنفط والغذاء والموارد. والسبب الأول هو اللانفجار السكاني غير المسبوق الذي أنتج صورا لا تخيف "الأعداء" فقط، كما كان يقصد الشاعر القديم، وإنما يثير أيضا صراعات وحروبا أهلية لا نهاية لها بين العرب أنفسهم وداخل بلدانهم. أيضا العجز، الشطر الثاني من بيت المعلقة الشهيرة "وماء البحر نملؤه سفينا" هو مشهد شبه مألوف حاليا في البحر الأبيض المتوسط حيث تكتظ قوارب خشبية متهاكلة وأخرى مطاطية صغيرة بمهاجرين عرب يغامرون بحياتهم من أجل الوصول إلى الجنة الموعودة في أوروبا. ويوميا يبلغ "الفطام" عشرات الآلاف من الصبيان العرب الذين لا "تخر لهم الجبابر ساجدينا" كما يقول عمر بن كلثوم في قصيدته، وإنما يقعون في براثن الفقر والجهل والتهميش والعنف. غير أن المشكلة تكمن في أن المجتمعات العربية لا تزال تزخر بالكثير من أمثال عمر بن كلثوم المعاصرين الذين يتفاخرون بقدرة "الأمة" على التكاثر والتناسل عملا بالحديث المنسوب إلى النبي محمد "تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة". ويبدو أن "يوم القيامة" سيأتي بالفعل إذا لم ينجح العالم العربي في إبطال مفعول القنبلة الديموغرافية. حتى بداية سبعينات القرن الماضي كان الرقم المتداول عن عدد سكان الدول العربية هو 100 مليون نسمة، بينما قفز الرقم الآن، أي بعد 5 عقود إلى قرابة 450 مليونا، مسجلا نموا سنويا يتراوح من 2 إلى 3%، وهو من بين الأعلى في العالم. لا أحد يعرف بالضبط عدد سكان العراق، سوريا، اليمن أوالسودان لأن هذه الدول الفاشلة أصبحت عاجزة عن إجراء تعداد سكاني، ولكن من الواضح أن هذه البلدان يتضاعف فيها الرقم خلال أقل من 25 سنة. في العراق مثلا تجاوز عدد السكان في عام 1965 لأول مرة حاجز 8 ملايين، بينما يقدر اليوم بنحو أربعين مليونا دون احتساب ملايين العراقيين الذين تركوا بلادهم خلال الثلاثة عقود الأخيرة جراء الحرب والقمع أو بحثا عن معيشة أفضل. وإضافة إلى مصر التي تجاوزت بالفعل حاجز المائة مليون نسمة، فإن كل من العراق والسودان وربما الجزائر والسعودية مرشحة للانضمام إلى "نادي" الدول التي يزيد سكانها عن 100 مليون قبل نهاية القرن الواحد والعشرين. من الواضح أن التقدم الصحي وانخفاض وفيات الأطفال هو العامل الأهم وراء الزيادة السكانية. ولكن العقلية الدينية والعشائرية لعبت دورا حاسما في إبقاء معدلات النمو عند مستوياتها العالية. حتى يومنا هذا يردد المسلمون الآية القرائية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ} والتي تنظر عمليا إلى المرأة على أنها مجرد ماكنة لتفريخ الأطفال، ويُفضل أن يكونوا من الذكور. كما ساهمت هذه النظرة الدونية للمرأة في إحياء ظاهرة تزويج القاصرات التي ترتبط أيضا بابتعاد الكثير من الفتيات والنساء عن التعليم وتدني نسبة انخراطهن في سوق العمل. وينعكس هذا بشكل مباشر في ارتفاع مؤشر معدل الخصوبة الذي يقيس متوسط عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة خلال حياتها. وما يزيد الطين بلة هو أن معدل الخصوبة مرتفع بشكل خاص في الدول الفقيرة. حتى يومنا هذا لا يزال معدل الخصوبة بحسب تقرير الأمم المتحدة حول سكان العالم لعام 2019 يزيد عن 4 أطفال لكل امرأة في العراق والسودان وأفغانستان وسوريا واليمن. لا نجد خصوبة أكبر إلّا في البلدان الإفريقية الفقيرة جنوبي الصحراء. صحيح أن مؤشر الخصوبة في كل البلدان العربية وبما فيها المذكورة آنفا سجل انخفاضا إلى قرابة الثلثين خلال الخمسين سنة الأخيرة، ولكنه يبقى في كل الأ حوال رقما مخيفا في ظل الصراعات والحروب الأهلية واالأزمات الاقتصادية والبيئية ومشاكل الهجرة التي تعيشها هذه البلدان. لا ريب أن هناك أسبابا كثيرة تقف وراء الحروب والصراعات والنزاعات العنيفة وتشظي المجتمعات، لكن العامل الديمغرافي يبقى الأرضية التي تعشعش فوقها هذه العوامل. فخوض الحروب بحسب مقولة نيكولا مكيافيلي مؤلف كتاب "الأمير" الشهير يتوقف في نهاية المطاف على الرجال والسلاح والخبز والمال. ومن دون شك لا يوجد حاليا "نقص" في الرجال، بل على العكس هناك "فائض" كبير في الذكور الشباب الذين يسهل إغرائهم وتجنيدهم لصالح أجندات مذهبية أو فئوية مريبة. وما انتشار المرتزقة وتكاثر المليشيات المسلحة في البلدان المبتلية بالحروب الأهلية سوى مؤشر على "رخص" العامل البشري في ظل هيمنة الأفكار المتطرفة وعقلية الاستشهاد التي تحتقر الحياة. ويبدو أن قوى الإسلام السياسي على وجه الخصوص ترحب بهذا الفائض الذي يشكل بالنسبة لها معينا لا ينضب لكسب الأنصار ولملأ الصفوف إذا ما تضعضت نتيجة الخسائر والضحايا الباهظة. لذا تقف هذه القوى ضد أي خطط لتنظيم العائلة ولتوعية النساء وتعمل على شيطنة استخدام حبوب منع الحمل وترى فيها مؤامرة من الغرب الاستعماري. وهل ننسى دعوة رئيس تركيا الإسلامي رجب طيب أردوغان للجاليات التركية في أوروبا لإنجاب 5 أطفال بدلا من اثنين. يلعب العامل السياسي والأيديولوجي دورا أيضا في تفسير النمو السكاني السريع للفلسطينيين والذي يمكن النظر إليه على أنه رد فعل على التفوق الإسرائيلي. ولا يستبعد أن فلسطينيين كثيرين ينظرون إلى أرحام نسائهم على أنها السلاح السحري الذي سينتصر على إسرائيل في نهاية المطاف. ولكن قبل ذلك دفع وسيدفع الكثير من الفلسطينيين أنفسهم وقبل أعدائهم ثمن حرب الأرحام هذه. أدى تفاوت النمو السكاني بين الفئات والطوائف المختلفة أيضا إلى تغيير خطير في التركيبة المذهبية والدينية والاجتماعية الهشة في عدد من البلدان العربية. بحسب البيانات الواردة في كتاب حنا بطاطو (العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية كانت الطائفة الشيعية في بغداد تأتي في المرتبة الثالثة بعد السنة أولا، وثانيا بعد اليهود الذين كانوا يشكلون في عام 1908 أكثر من ثلث سكان العاصمة العراقية. بمرور الزمن ومع الهجرة الداخلية وسرعة نموهم السكاني أصبح الشيعة الأغلبية المطلقة في بغداد وهذا ما انعكس على تمثيلهم في البرلمان العراقي حيث حصدت القوائم ذات الغالبية الشيعية سائرون والفتح والنصر ودولة القانون والحكمة في انتخابات 2018 قرابة ثلثي المقاعد المخصصة لبغداد. صحيح أن الحكومات "السنية" المتعاقبة حاولت مواجهة ذلك من خلال توطين قبائل سنية في حزام بغداد ولكن هذه الخطة لم تنجح تماما جراء تدفق الملايين من المناطق الريفية في جنوب ووسط العراق. ويبدو أن العامل الديمغرافي يلعب أيضا دورا معينا في اقتصار الانتفاضة الشعبية الأخيرة في العراق على المناطق الشيعية حصرا دون المناطق السنية والكردية. تطور مشابه يمكن ملاحظته في لبنان حيث أصبح الشيعة يشكلون الأغلبية وما يعنيه ذلك من تغيير في ميازين القوى السياسية والسلوك الاجتماعية. وعلى خلفية النمو السكاني السريع والهجرة من الريف ظهرت في العالم العربي مدن عملاقة كالقاهرة وبغداد والخرطوم والتي تحيط بها مدن الصفيح وأحياء عشوائية مكتظة تسود فيها القيم الريفية والعشائرية وتفتقر للبنى التحتية والخدمات وتشكل بؤرة للفقر والعنف والتطرف والجريمة والتي يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى قوة مدمرة يصعب السيطرة عليها. لقد وصل الأمر بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى درجة بناء عاصمة إدارية جديدة هربا من القاهرة التي تضيق بملايينها العشرين. لقد مرت شعوب أخرى، وخاصة في أوروبا، بتجارب مماثلة وبمراحل من التضخم السكاني رافقتها أيضا اضطرابات وقلاقل سياسية اجتماعية، ولكن هذه المراحل لم تدم طويلا وسرعان ما عاد معدل الخصوبة للتراجع مع الازدهار الاقتصادي وتحسن مكانة المرأة وانتباه العوائل لأهمية تربية الأطفال وتوفير فرص التعليم لهم. لكن المشكلة في معظم البلدان العربية أن هذه العملية المسماة بالتحول الديموغرافي تستغرق فترة طويلة نتيجة لعوامل ثقافية بالدرجة الأولى. ومثلما توجد علاقة طردية واضحة بين نمو السكان ومعدلات الفقر على مستوى البلدان، تسري هذه العلاقة أيضا في داخل المجتمعات. فالنمو السكاني يتركز أساسا في الفئات الفقيرة والمهمشة، بينما تميل الطبقة الوسطى عادة لتحديد النسل بهدف توفير فرصا أفضل لأطفالها. فالعوائل التي تنجب عددا كبيرا من الأطفال ليس لديها في أغلب الأحوال المال والوقت لتربية أطفالها والاستثمار في تأهيلهم. وهكذا يجد المجتمع نفسه إزاء حلقة مفرغة من الفقر والإنجاب. من جهتها تبدو الدولة عاجزة عن سد هذه الثغرة جراء الضغط الهائل للأجيال الجديدة على النظم التعليمي حيث أصبحت معظم صفوف المدراس تضيق بالتلاميذ. كما تهدد القنبلة الديمغرافية بانهيار النظام البيئي وتصاعد معدلات تلوث الهواء والماء. فالفائض البشري يصب عمليا في تصاعد المنافسة الشرسة على الموارد الطبيعية كالثروات الخام والأراضي والمياه. ويبدو أن عمر بن كلثوم تنبأ أيضا دون قصد بذلك عندما قال في معلقته: وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً........وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا
#ناجح_العبيدي (هاشتاغ)
Nagih_Al-obaid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية عقد ..بداية عهد!
-
الحمقى ينتصرون دائما!
-
الحلبوسي وجائزة نوبل للاقتصاد!
-
العراقيون بين واقع البطالة وحلم التعيين!
-
دين الغرب الجديد وأنبياؤه وشهداؤه
-
ابن خلدون والمعادلة الصعبة بين الدولة والاقتصاد
-
الثورات العربية وأوهام التغيير
-
مارشالات وعرفاء
-
سعر الإنسان لدينا ولديهم؟
-
هل سيتعلم المسلمون من نيوزيلندا؟
-
الجيش العراقي ’’الباسل’’
-
خاشقجي وتروتسكي وما بينهما
-
من هو الرابح الأكبر من من وراء اختفاء خاشقجي؟
-
الانفجار السكاني: أم القنابل
-
الليرة والدينار وأوهام الطغاة
-
وما تحالفوا ولكن شُبّه لهم!
-
ذكرى ثورة تموز: ليس بالنزاهة يتميّز السياسي
-
صحوة الموت للبرلمان العراقي
-
الانتخابات العراقية: العتبة الانتخابية وكثرة الطباخين
-
مقتدى الصدر وإغراءات السلطة الكاريزمية
المزيد.....
-
العثور على مركبة تحمل بقايا بشرية في بحيرة قد يحل لغز قضية ب
...
-
وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان يدخل حيّز التنفيذ وعشرات
...
-
احتفال غريب.. عيد الشكر في شيكاغو.. حديقة حيوانات تحيي الذكر
...
-
طهران تعلن موقفها من اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنا
...
-
الجيش اللبناني يدعو المواطنين للتريّث في العودة إلى الجنوب
-
بندقية جديدة للقوات الروسية الخاصة (فيديو)
-
Neuralink المملوكة لماسك تبدأ تجربة جديدة لجهاز دماغي لمرضى
...
-
بيان وزير الدفاع الأمريكي حول وقف إطلاق النار بين إسرائيل ول
...
-
إسرائيل.. إعادة افتتاح مدارس في الجليل الأعلى حتى جنوب صفد
-
روسيا.. نجاح اختبار منظومة للحماية من ضربات الطائرات المسيرة
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|