هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 1570 - 2006 / 6 / 3 - 08:35
المحور:
حقوق الانسان
تطالع كل مار بجانب محكمة الاستئناف بتولوز , قصر العدالة, الذي يضم المحكمة الإبتدائية الكبرى, لافتة كبيرة كتب عليها : (هنا تقام العدالة بتولوز. منذ ألف عام .وذلك بمناسبة تجديد وتوسيع الأبنية الداخلية للمحكمة. دون المساس بالطابع المعماري الخارجي الذي يعود إلى ألف عام. ألف عام من إقامة العدالة, في نفس المكان. بعض التماثيل في الداخل لمشاهير القضاة الذين عرفهم المكان. ولوحات تمثل ملائكتها. وشعارت الثورة الفرنيسة: حرية. مساواة. إخاء. لا صورة لملك أو امبراطور أو رئيس, أو مسؤول سياسي, عبر الألف عام, رغم شهرة الكثير الكثير منهم.
استقرار المكان وديمومته, رغم تغير القوانين وأصول المحاكمات, وتوالي القضاة المشهور منهم والأقل شهرة, لا بد أن يبعث في القاضي الجديد ـ وريث التراث العريق ـ الجالس للحكم , أو المدعي باسم الشعب, روح المسؤولية, واحترام تراث يعتز به الفرنسيون. وفي المتقاضين الشعور بالأمان والثقة بأن حقوقهم ستكون مصونة, رغم أخطاء القضاء التي لا يخلو منها عصر أو مصر. لأن في المكان عراقة, ورسوخ, وقداسة, واستقلال.
استقرار المكان لا يوحي بطبيعة الحال بجمود القضاء وهرمه. وإنما العكس, استطاع استيعاب كل مراحل تطور المؤسسات القضائية الفرنسية منذ العهد القديم ـ السابق على الثورة ـ مرورا بالثورة, والقنصلية, والامبراطورية, وإلى يومنا هذا. أي: مرحلة الإنشاء بين عام 1790 ـ 1810 .مرحلة الإستقرار بين 1810 ـ 1958. والمرحلة الحالية التي أعقبت تجديد المؤسسات وأنشاء أخرى. قضاء تاريخه متصل لا إنقطاع فيه استطاع مواكبة التطور والحفاظ على تراثه.
بالعودة إلى حالة القضاء العربي, نتساءل عن حرمة أمكنة القضاء وحصانة قضاتها. وخاصة في غياب دولة القانون, وفصل السلطات, والمحاولات الدائمة للسلطة التنفيذية, المركزة بيد رئيس الدولة, لاخضاع السلطة القضائية بشكل كامل لإرادتها, وجعلها مجرد إدارة تهتم بالحفاظ على النظم السياسية القائمة. (مقالنا السابق , التطاول على القضاء. الحوار المتمدن), سنجد صورا أخرى تبرز بشكل صارخ: إساءة لأماكن القضاة وشاغليها, إقامة محاكم استثناء إلى جانب محاكم القضاء العادي, تأبيد حالات الطوارئ, التي نسيت أجيال متى فرضت, ولا تعلم أخرى متى تنتهي. وأحكام عرفية أصبحت قوانين دائمة
انتفاضة قضاة لبنان أوحت للأستاذ راجح الخوري القول ان ما يجري (أيا كان, كان في وسع المرء وبقليل من المخيلة أن يلاحظ أمس, أن مبنى العدلية, حتى المنى, الذي غرق زمنا طويلا في القهر والكابة, قرر ن يقفز من سباته وأن يسقط تحالف الإذعان وافكراه والترويع الذي فرض عليه زمنا),,
قضاة لبنان أعلنوا, ولأول مرة في تاريخهم, إضرابا عاما في 29 ايار2006 للحفاظ على استقلالية عملهم, ولرفع يد التدخل في شؤونهم. وتأليف المجلس الأعلى للقضاء, الذي تمتد صلاحيته 3 سنوات, ويتكون من 10 قضاة يسمي المجلسة خمسة منهم والخمسة الآخرين تسميهم الحكومة, معلنا أنه سيقوم هو بنفسه, وعبر لجنة خاصة بتسمية الأعضاء الآخرين وليس الحكومة, "حتى ولو كانت هذه التسمية غير قانونية فان لها القوة المعنوية بأن تقبل بها المراجع المعنية بالتعيين).
ويلخص القاضي أنطوان خير المطالب الأساسية للقضاة اللبنانيين بكلمتين : سياستنا, لا سياسة في القضاء.
ولقد أيدت نقابة محامي بيروت ونقابة محامي الشمال تحرك القضاة وأيدتا استعدادهما لدعمهم لأنه لايمكن " بناء وطن وقضاؤه معطل وسلطته القضائية مغيبة", حسب ما أعلنه نقيب محامي بيروت, مطالبا أن يكون تعيين أعضاء جدد في المجلس الأعلى للقضاء وفقا لمعايير الأهلية والنزاهة والكفاءة, على أن تكون مرجعيتهم قضائية لا سياسية, مناشدا السياسيين رفع أيدهم عن القضاة ووقف تدخلاتهم فيه إذا كانوا راغبين في بلد سيد ومسقل وحر يسوده حكم القاتون. وأعلن نقيب محامي الشمال"كنا نأمل من القضاء أن ينتفض على التدخل السياسي في شؤونه, وعلى كل التجاذبات السياسية في أمره (موقع نقابة المحامين في بيروت . 31/5.2005.
وفي مصر بلغ التطاول على القضاة أخيرا حد الاعتداءات الجسدية, ابان الانتخابات التشريعية المصرية. وكان وما يزال, العزل والإحالة على التقاعد والتهديد والملاحقات التأديبية ومحاولات الابتزاز والرشاوى من الوسائل المسلطة على القاضي.
وكما يرى المستشار طارق البشري فان مصر تواجه امتحانا عسيرا. حيث يواجه القضاة ما يشبه العقيدة السياسية التي تجعل الحكومة والبرلمان والحزب الحاكم "ثلاثة في واحد, ثلاثة أشكال ومظاهر لسلطة واحدة. هم ثلاثة في الشكل وواحد في الجوهر". رويتر 10/5،2005.
وإذا كان القضاة في لبنان ومصر أعلنوا " انتفاضتهم" وبشكل علني وصريح, ففي دول الصمت والطوق الحديدي, يبقى القضاة والقضاء ليس فقط عرضة للتطاول والإهانة, ومنها اقتحام مكاتبهم من قبل رجال الأمن, وإنما كذلك للضغوط الدائمة لجعلهم تابعين مخلصين يمجدون الأنظمة صاحبة الفضل في بقائهم في مراكزهم , وينفذون ما يطلب إليهم.
ومن البيهي أن المطالبة باستقلال القضاء تأخذ شكلين متلازمين لا يمكن الفصل بينهما ولا يستقيم أي إصلاح قضائي بغير ذلك: استقلال القضاء كمؤسسة. واستقلال القضاة كأفراد.
وبعد أن أشرنا في مقال سابق إلى بعض المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية, نشير هنا إلى جانب أساسي في استقلال القضاة كأفراد. وهو الجانب المهني بشقيه الثقافي والأخلاقي.
وكما أورد الرئيس الأول لمحكمة النقض الفرنسية السيد كي كانيفيه, في كتابه أدبيات القضاة, قد تغير الزمن الذي كان يفترض أن سلطة ومصداقية القضاء تتطلب السكوت عن الأخطاء المرتكبة من قبل القضاة, للتغطية عليهم بأسطورة القاضي غير القابل للمساس به. فثقافة السرية والتعتيم لم تعد مقبولة من المجتمع. وبالعكس فإن سلطة القضاء وثقة المتقاضين هما اليوم, أكثر من أي وقت مضى, تستندان على شفافية الإجراءات. وعلى الأحكام التأديبية التي تسمح لكل مواطن التأكد من أن الأخطاء المكتشفة معاقب عليها فعلا وبما يناسبها.
ومن هنا, فإن ضعف التكوين المهني, الثقافي والأخلاقي, للقاضي لا يضر بالمتقاضين ومصالحهم فقط, بكل ما يرتبه ذلك من أثر سيء لدى الرأي العام, وانما يجعل القاضي نفسه عرضة للخطأ المهني المتكرر, الأمر الذي يرتب مسؤوليته المدنية والجزائية. ففي فرنسا على سبيل المثال وبعد صدور القانون رقم 2ـ93 بتاريخ 4 جانفي ـ كانون ثاني 1993 لم يعد القاضي يتمتع بأي إمتياز قضائي في المواد الجزائية. وعليه, يمكن أن يلاحق جزائيا بصفته مجرد مواطن عادي أو موظف عام. وتتحدد مسؤوليته الجزائية حاليا بالفساد, أو التنكر للقضاء, أو تجاوز سلطته.
ولا يكون القاضي جديرا بممارسة مهنة القضاء إن لم يكن يمتلك صفات الأهلية والكفاءة والإستقامة والنزاهة التي تترجم اعتقاده الثابت بواجباته.
وهذه مسألة تنطبق على القاضي اينما كان. وكما يرى كي كانفيه فان مسألة أدبيات القضاة هي اليوم في قلب الاهتمامات. ليس فقط في فرنسا, ولكن أيضا في أوروبا كلها, وفي أنطمة أخرى على المستوى العالمي. ويضرب مثلا ما جرى بفرنسا عام 2003, بشكل خاص, حيث اشتبه بتورط بعض القضاة بقضايا استغلال نفوذ وفساد واستفادة بشكل غير قانوني من مواقعهم. مضيفا أنه رغم العدد الضئيل جدا لهؤلاء, والذين يمثلون حالات معزولة تكاد لا تذكر عدديا, فإن مثل هذا السلوك يستغل إعلاميا ويلحق ضررا فادحا بسمعة القضاة ونزاهة المؤسسات القضائية لدى الرأي العام.
ولقد بينت التجارب القائمة في البلدان التي تعتمد قيام مدارس وطنية للقضاء, ان هذه المدارس توفر للقضاة تكوينا موحدا يقوم على التكافؤ. بتدريبهم وتعميق ثقافتهم القانونية, وإمدادهم بأدبيات مشتركة. ومساعدتهم على التشبع بثقافة الاستقلال والنزاهة والاستقامة, كما أن اللجوء لتكوين نقابات مهنية يعزز مواقعهم ومواقفهم. فمناعتهم الداخلية تحد من تطاول المتطاولين.
مراجع:
Guy Canivet.et Julie Joly - Hurard. La Déontologie des magistrats, Dalloz, 2004
Renaud Van Ruymbeke. Le juge d instruction, puf
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟