|
من دفتر الهجرة، شارع 52
محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 6483 - 2020 / 2 / 5 - 14:16
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
لا زلت أشارك مجدي في السكن، شقة صغيرة بالدور الرابع، شارع 52 بحي بروكلين. هو يعمل في شركة تأمين من 9 صباحا إلى 5 مساء، وأنا أعمل من 4 مساء إلى منتصف الليل. لم نكن نري بعض إلا في عطلة الأسبوع يومي السبت والأحد والأجازات الرسمية. طريقة الذهاب والعودة من وإلى العمل هي الصابواي.
في أحد الأيام وقبل أن أستلم أول مرتب، رن جرس الباب. فتحت، فإذا بي أمام رجل عملاق يحمل جوال. بادرني بالكلام بلكنة لم أفهم منه حرفا سوى سؤاله: أوكيه؟ قلت له أوكيه. ظنا أن أوكيه سوف تصرفه. لكنه ممنوع من الصرف.
إذا به يدفعني وينحيني جانبا ويدخل الشقة. أخرج من جواله بخاخة كبيرة. وذهب إلى كل ركن في الشقة يرش مبيد حشري. أنا واقف مذهول ولا أعرف ماذا أفعل أو أقول. بعد ما خلص، قال لي هات 10-$-.
عشرة دولار إيه يا عم؟ دي أجرة يوم كامل في ذلك الوقت. بالإضافة إلى أنني لم أكن قد استلمت شيئا من مرتبي بعد. قلت له: أصحاب الشقة غير موجودين، وما أنا إلا ضيف عابر عندهم وليس معي نقود. طلع ذوق وتفهم الموضوع وقال سوف أعدي عليكم في يوم تاني آخذ ثمن الرش. لكنني لم أره بعد ذلك.
الدرس الأول للمهاجر الذي لا يتقن اللغة ويعاني من صعوبة اللهجة، هي أن لا يقول نعم لأي سؤال لا يفهم معناه. ولا عيب في أن تطلب إعادة السؤال ببطئ أو تطلب تفسير أو أن تقول لا موش فاهم. أفضل من البخ ب 10-$- بدون لازمة.
معظم المصريين المهاجرين في نيويورك كانوا يسكنون في شارع 52 بحي بروكلين. كان يسكن بالقرب منا شاب مسيحي اسمه فايز. له أخ كان يعمل مترجم فوري بالأمم المتحدة. هاجرا إلى نيويورك من لبنان عن طريق اللجوء السياسي. رأيته مرة واحدة أو مرتين على الأكثر.
كان يهوى الطيران. إلتحق بمدرسة لتعلم الطيران المدني وحصل على عدد ساعات وخبرة مهدت له الحصول على وظيفة في شركة نقل البضائع بالطائرات. في أول رحلة ليلية له، كان الجو ممطر والبرق والعواصف على أشدهما. سقطت به الطائرة ومات كل ركابها. هكذا نشاء، وتشاء الأقدار.
عادل طوبار، مهدس مدني كان يسكن مع زوجته الشابة في شارع 52. كان يعمل عملا مؤقتا. لم تعجبه الحياة في نيويورك. استطاع أن يقنع هشام بالانتقال إلى ولاية كاليفورنيا هربا من شتاء نيويورك وأملا في إيجاد فرصة عمل أفضل.
أقنع عادل وهشام مجموعة من المصريين من شارع 52 بالسفر معهم إلى كاليفورنيا. اشتروا سيارة مستعملة فان، وأعدوا الخرائط وحددوا الطرق السريعة التي سيسلكونها. المسافة لا تقل عن ثلاثة آلاف ميل. يمكن قطعها في 44 ساعة سواقة متواصلة. الولايات المتحدة ليست دولة صغيرة.
كان معهم شاب مصري لا أذكر اسمه الآن. لم يجد عملا في نيويورك، فأخذوه معهم لعله يجد فرصته هناك. أصيب بحالة نفسية سيئة، وزادت حالته سوءا. لم يكن معه نقود. فقام المصريين مشكوريين بلم ثمن تذكرة عودته لمصر بالطائرة.
بالنسبة لعادل طوبار، لم يجد أي عمل في مجال تخصصه كمهندس مدني. كذلك هشام، الذي استضافني في بيته عند وصولي إلى نيويورك. فقاما بشراء بالقسط أو تأجير ناقلتي شحن بمقطورة.
ناقلات الشحن تتطلب رخصة خاصة ومهارة بالغة في القيادة. كما أنها تحتاج إلى حمالين للتحميل والتفريغ. كانوا يأخذون بضاعة من المواني وينقلونها على الطرق السريعة. في معظم الحالات، لا يجدون الحمالين. فكانوا يذهبون إلى مراكز الشرطة والاستعانة بالمساجين وأرباب السوابق للتحميل والتفريغ.
في أحيان كثيرة كانوا يضطرون للتحميل والتفريغ بأنفسهم على ظهورهم. النتيجة، أن كسر العمود الفقري لهشام وظل 6 شهور ملقى على ظهره في سريرة لا يتحرك. أما عادل فقد انقلبت به الناقلة وفقد حياته. ما كان أسخفها فكرة.
أثناء نوم هشام على ظهره في سريره، تعرف شاب مصري معدوم الضمير على زوجته وصارت بينهما علاقة غير شرعية. في بداية الأمر، كانا يأخذان الحذر لكي لا يراهما ابن هشام الصغير. لكن بمرور الوقت ومع التراخي، مثل هذه الأمور لابد أن تنكشف. عندما سأل هشام ابنه عما يدور بين أمه وعشيقها، أجاب الطفل ببراءة أنهما ينامان معا في سرير واحد.
بالطبع أي إنسان حر، لا يقبل وضع خاطئ مثل هذا. تم الطلاق ورجعت المطلقة وابنها إلى أبيها في القاهرة. لأن هشام كلم والدها بالتليفون وأخبره بتفاصيل ماحدث، فطلب الوالد عودة ابنته منعا للفضائح.
بعد شفاء هشام وطلاق زوجته، لم يستطع البقاء في كاليفورنيا، فقرر العودة إلى نيويورك. كان محطما بائسا يائسا كارها للحياة. تعرف وهو في هذه الظروف بفتاة فيليبينية جميلة وست بيت ممتاذة تعمل كممرضة. شغف بها حبا وعششت في دماغة. ودون أن يتروى أو يفكر لحظة، عرض عليها الزواج.
زرته في شقته الجديدة التي لا تبعد عني كثيرا. كانت السعادة بادية عليه، لقد أصبح إنسانا آخر. هو الآن متزوج، له وظيفة، زوجته حامل وتعمل هي الأخرى. تقدم لدراسة الماجستير في إدارة الأعمال. مشكلته في الدراسة كانت علم الرياضيات. كنت أذهب لمساعدته يوم أو يومين في الأسبوع بدون أجر.
فالرجل أفضاله علي لا تنسى. هو الذي استقبلني في المطار ووفر لي السكن ونصحني بالعمل في بنك ماني هاني الذي كان يعمل به. أكلت في بيته أكثر من عيش وملح عدة مرات. لقد كان من أعز الناس لدي وأقربهم إلى قلبي.
كان يفتح لي قلبه ويشتكي من الألم الذي سببته له زوجته الأولى وجرحها لكبريائه ورجولته. كان يقول: هي اللي كسرت وسطي، جسديا ونفسيا. هو أنا كنت أشيل على ظهري لمين؟ ما هو علشانها وعلشان ابنها.
إلى هنا وكل شئ على مايرام، أو هكذا تبدو الأمور في الظاهر. وضعت زوجة هشام طفلا جميلا تتمناه أي أم أو أب. المشكلة هنا هي أن الزوجة الفيليبينية مسيحية كاثوليكية متعصبة جدا لدينها. أرادت أن تعمد ابنها على الديانة المسيحية الكاثوليكية.
هشام، مثل كل المصريين المسلمين اللي تربوا على إيدين عبد الناصر، لم يكن ملتزما بالشعائر الدينية قط. كان يشرب الخمر ويقدمها لضيوفه ولا يصلي أو يصوم. لكن حكاية إن ابنه يكون مسيحي هي أكبر من ثقافته وإمكانياته وقدرته على التحمل. إيمانه بالله ومحمد والقرآن إيمان مطلق، لكن الشعائر، أي كلام..
الخلاف بينه وبين زوجته على ديانة الطفل بلغ عنان السماء، وأقلق مضاجع الملائكة. وصلت الأمور إلى المحكمة. طلب محامي الزوجة الطلاق من القاضي وحيازة الطفل. بالطبع القانون هنا لا يفرق بين الأم وابنها حتى لو كانت خائنة. فقد هشام أعز ما يملكه إنسان في الوجود. ابنه وزوجته الحبيبة بسبب الدين.
لقد عشت هذه المأساة في وقتها من قبل. وأنا أعيشها بكل آلامها وأنا أكتب عنها الآن. هل يمكن لإنسان في كامل قواه العقلية أن يتحمل آلاما بهذا الحجم؟ هشام الآن له إبن في مصر يشك في أبوته، وابن مسيحي لا يعترف بديانته. أختفى هشام، ولا أدري ماذا ألم به أو أين هو.
تفتكر لو لم توجد الأديان، كان حيبقى فيه مشاكل من هذا النوع. الحيوانات لا تواجه مثل هذه المشاكل. تعرف ليه؟ لأنها لا تؤمن بأي دين. لذلك هي أكثر سعادة منا وأقل مشاكل. لو لم تكن هناك أديان، لما حدثت الحروب الصليبية، أو محاكم التفتيش، أو مطاردة الساحرات، أو النهب باسم الفتوح الإسلامية، أو ضاعت فلسطين. ترى كم من البشر تم قتلهم بدم بارد بسبب حماية الأديان والدفاع عنها؟
الأستاذ عباس مهندس كان يعمل في شركة التليفونات. عمره في الخمسينات. شكله موش ولابد. مركب طقم أسنان وفيه شبه من رياض القصبجي. ساكن في شقة في شارع 52. نزل مصر ورجع معاه بنت في سن أحفاده. مين دي؟ دي مراتي. قابلته عدة مرات، كنا نلعب شطرنج في البارك العمومي القريب منا.
لم ينجب من زوجته. قابلته في المطار لاحقا. رايح فين يا باشمهندس؟ نازل مصر. راجع إمتى؟ لا، أنا نازل على طول. ليه كده؟ أنا جاتلي ذبحة صدرية، نمت بعدها ثلاث شهور في المستشفى. لم يأتي أحد يسأل عليه. أنا اشتريت شقة في بورسعيد. لي معاشي في مصر من وظيفتي السابقة.
أقعد في الشقة، وأنزل السبت السلال من البلكونة الصبح. آخذ طبق الفول المدمس والعيش والجرنال وأقعد أفطر في البلكونة وأحبس بكباية شاي. ده عندي بالدنيا كلها. بلى أمريكا بلى قرف. هذا آخر عهدي بالمهندس عباس، ولا أدري ماذا جرى له بعد ذلك.
إثنان من المصريين المهاجرين جاءا قبلي بمدة بسيطة. كانا يسكنان في الشقة التي أسكنها الآن. أحدهم، وحيد أبويه. باع أبوه نصيبه في بيت العائلة حتى يستطيع تدبير أجرة السفر ومبلغ ال200 دولار. كل يوم يعودان من البحث عن وظيفة. يبكيان وهم يجلسان، يواجه كل منهما الآخر. ظلا على هذا الحال مدة أسبوع، إلى أن دبرا ثمن تذاكر العودة. لم يستطعا التغلب على مرض الحنين للوطن. وهو مرض قد يلازمك طول مدة الغربة، لكن تأثيره يكون أشد وأقسى في السنة الأولى.
مرقص، مسيحي من مصر، يسكن في بالقرب من شارع 52. غاوي أم كلثوم. في الأربعينات. لديه شرايط تسجيل وجهاز أكاي. عامل في شقته قعدة سماع بالشلت والقهوة التركي والشيشة. آخر مزاج.
ابن حظ يحب الطرب الأصيل. زرته مرة فوجدت عنده مجموعة سميعة وأم كلثوم تغني الأولة في الغرام، كلمات بيرم التونسي ولحن زكريا أحمد. شئ يؤكد مقولة نيتشة، الدنيا بدون موسيقى ذنب لا يغتفر.
مختار، شاب مسيحي جاء مهاجرا عن طريق لبنان. مؤهل متوسط. كان يستعد لوصول زوجته. أجر شقة بالدور الأرضي. اشترى فرش لونه أحمر. وجاب سجادة لونها أحمر. وورق حائط لونه أحمر. عندما ذهبت لزيارته وهو يجهز شقته، لم أستطع البقاء أكثر من 5 دقائق. حسيت أنني قاعد في نار جهنم وألسنة اللهب تحيط بي من كل جانب.
اشترى عربة فولكس فاجن بالتقسيط. ركبتها معه مرة واحدة. ركنها جنب رصيف الشارع أمام شقته بالدور الأرضي. فتح الشباك يبص على العربية، فلم يجدها. الشرطة قالت له هذه العربية يمكن فتحها وسرقتها في أقل من 5 ثوان. نسبة سرقة السيارات في بروكلين عالية جدا.
نقل في شقة أخرى وجاءت زوجته وابنه الصغير وطفلة رضيعة. عندما تزوجت أنا فيما بعد، كنا نتزاور ونقوم برحلات في الخلاء وزيارة لعدة متاحف وحدائق عامة. مختار هذا رجل شهم. يحب أن يظهر كجدع أو كبطل. كان يعمل بائع في مغلق أخشاب. بعد ذلك عمل في جراج عمومي كبير.
في الجراج العمومي، أنت تتعامل مع كل الفئات والأجناس. تحتاج إلى كياسة وسياسة، لم تكن موجودة عند مختار. لا أدري ماذا حدث بالضبط. لقد وجدوه في المقعد الخلفي لأحد العربات مقتولا وملفوفا ببطانية صوف حمراء.
هل سبب قتله خناقة أم علاقة نسائية أم دين مالي أم مخدرات؟ لا أحد يعرف. جاءت الشرطة ولم يسفر التحقيق عن شئ. أثناء التحقيق، أعجب رجل المباحث بأرملة مختار فتزوجها. أقفل المحضر وانتهى التحقيق على لا شئ. وذهب المرحوم إلى الأمجاد السماوية بدون دية. والحي أبقى من الميت.
أنا ألان أستمع لموزارت، الكونشيرتو رقم 22 للبيانو، وزوجتي تناديني للمساعدة في بشر البصل في المطبخ. لذلك يجب التوقف الآن عن الكتابة، بما تثيره من ذكريات حلوة أو حزينة، مدفونة في العقل الباطن، كنت أحسبها قد طويت إلى غير رجعة، واصبحت في خبر كان، أو جزءا من عالم النسيان.
وللحديث بقية، فإلى اللقاء.
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من دفتر الهجرة، ماني هاني
-
من دفتر الهجرة، أول الطريق
-
من دفتر الهجرة، البحث عن وظيفة
-
من دفتر الهجرة، الوصول
-
من دفتر الهجرة، الرحلة
-
من دفتر الهجرة، المغادرة
-
من دفتر الهجرة، لماذ؟
-
باثر بانشالي (أغنية الطريق)
-
سارق الدراجة
-
زوربا اليوناني
-
الشفاء بالإيحاء
-
الرفق بالحيوان
-
أرشميدس (287-212ق.م.)
-
تعاليم أبكتيتوس الرواقية
-
رواية 1984 لأورويل
-
مزرعة الحيوانات لجورج أورويل
-
رحلة إلى بيت جدتي
-
الديموقراطية هي الحل
-
حرية الرأي يا قوم
-
رينيه ديكارت
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|