بعض التصورات الأخرى حول الحرب في العراق (5):
# الحرب القادمة. إن الموضة الدارجة الآن هي الحديث عن "اليوم التالي". اما نحن فسنتكلم عن الليلة التالية.
بعد انتهاء المعارك في العراق، سيقف العالم أمام حقيقتين فاصلتين:
أولا: سيستطيع التفوق الكبير للأسلحة الأمريكية التغلب على أي شعب في العالم، بغض النظر عن بسالة هذا الشعب.
ثانيا: هذه المجموعة الصغيرة التي بادرة إلى الحرب– وهي خليط من المتدينين المسيحيين المتطرفين، والمحافظين الجدد من اليهود – قد انتصرت انتصارا ساحقا، وهي التي ستسيطر على واشنطن من الآن فصاعدا دون عوائق تذكر.
إن دمج هاتين الحقيقتين هو بمثابة خطر محدق بالعالم. وخاصة في الشرق الأوسط. هو خطر أيضا على مستقبل الشعوب العربية ومستقبل إسرائيل. لان هذه الزمرة هي عدو السلام، عدو كل الحكومات العربية، عدو الشعب الفلسطيني، وبالأخص عدو معسكر السلام الإسرائيلي.
لا تحلم هذه الزمرة بامبراطورية أمريكية على طراز روما القديمة فحسب، إنما تحلم أيضا على امبراطورية إسرائيلية مصغّرة، يسيطر عليها اليمين المتطرف والمستوطنون. إنها تسعى إلى تغيير الأنظمة في كل الدول العربية. وستكون السبب في حدوث فوضى متواصلة في المنطقة، حيث لا يمكننا التكهن بنتائجها.
تختلط الأمور في العالم الروحاني لهذه المجموعة، بين حماس أيديولوجي ومصالح مادية، وطنية أمريكية متطرفة وصهيونية يمينية متطرفة.
إنه مزيج في غاية الخطورة. ففيه شيء ما من رؤيا أريئيل شارون، وهي الرجل الذي لم تخل جعبته في يوم من الأيام من المخططات المتكلفة لتغيير المنطقة، والمفعمة بالخيال الخلاق والعنصرية مطلقة العنان والإيمان الرجعي بالقوة والخشونة.
# من هم المنتصرون. يسمونهم المحافظون الجدد، وهم مجموعة متكتلة، أغلبيتها من اليهود، وقد استولت على الناصب الرئيسية في إدارة بوش، وعلى مؤسسات البحوث (التي تلعب دورا هاما في وضع السياسة الأمريكية)، وعلى صفحات هيئات التحرير في الصحف المهمة.
كانت هذه المجموعة مجموعة هامشية على مدار سنوات عديدة، وقد نمّت أيديولوجية جديدة، يمينية متطرفة في كافة المجالات. لقد عارضوا، فيما عارضوا، الإجهاض واللوطيين وأفلام الدعارة والمخدرات. وعندما تولى بنيامين نتانياهو السلطة، توجهوا اليه وعرضوا عليه خطة لمحاربة العرب.
لقد كان انهيار مركز التجارة العالمية بمثابة اللحظة الحاسمة بالنسبة لهم، فقد كان الجمهور الأمريكي وساسته تحت وقع الصدمة، لا حول لهم ولا قوة لفهم ذلك العالم الذي تغير، بلحظة عين، فهما عميقا. المحافظون الجدد كانوا المجموعة الوحيدة التي اقترحت تفسيرا وحلا في التو واللحظة. بعد تسعة أيام فقط من العملية في مركز التجارة العالمي، كتب وليام كريستال (وهو ابن مؤسس هذه المجموعة إروينغ كريستال) رسالة مفتوحة للرئيس بوش، يقول فيها أن القضاء على شبكة أسامة بن لادن لا يكفي، ويجب "إبعاد صدام حسين" ويجب "الانتقام من سوريا وإيران" لدعمهم حزب الله.
فيما يلي قائمة قصيرة بأسماء الأبطال الرئيسيين (إذا كان هذا الأمر مملا، فيمكنك الانتقال إلى الفقرة التالية).
لقد تم نشر نداء في مجلة "ويكلي ستاندارت"، التي أسسها كريستال بأموال الملياردير المتطرف روبرط موردوك ، الذي تبرع بمبلغ 10 ملايين دولار، وقد وقع على هذا النداء 41 من المحافظين الجدد البارزين، ومن بينهم نورمان فودهوتس وكان فيما مضى يهوديا يساريا، وهو الأن من زعماء اليمين الأمريكي، ومحرر مجلة "انكاونتر" البارزة، وزوجته ميدج دكتر وهي صحفية نشطة، وفرانك غافني من "معهد البحوث الأمنية"، وروبرت كاغان من مجلة "ويكلي ستاندارت" وتشارلز كراوطهامر من "الواشنطن بوست" صاحبة التأثير الكبير، وبالطبع رتشارد بيرل أيضا.
بيرل هو شخصية رئيسية في هذهالمجموعة، فقد كان منذ زمن غير بعيد رئيس "لجنة سياسة الدفاع" التابعة لوزير الدفاع والتي تضم أيضا إليوط كوهين. ويعتبر بيرل أيضا من مديري "جروزلم بوست" (وهي الصحيفة التي يملكها يمينيون متطرفون). لقد شغل في الماضي منصب مساعد السناتور المرحوم هنري جكسون، الذي قاد الحملة بشأن يهود الاتحاد السوفييتي. بيرل من رؤساء "معهد إنطربرايز" اليميني المتطرف، صاحب التأثير الكبير. وقد أجبر مؤخرا على الاستقالة من منصبه في وزارة الدفاع عندما اتضح بأن شركة تجارية كانت على وشك أن تدفع له مبلغ مليون دولار تقريبا مقابل استخدام تأثيره على الإدارة الأمريكية.
تلك الرسالة المفتوحة، كانت بمثابة الطلقة الأولى في الحرب على العراق من الناحية العملية. فقد استقبلتها الإدارة الأمريكية بتحمس شديد، لان أعضاء المجموعة كانوا قد انخرطوا مسبقا في الإدارة الأمريكية. باول فولفوبيتش هو راعي هذه الحرب وهو الرجل الثاني في وزارة الدفاع التي يتواجد فيها أيضا جون بولطون ، وهو الصديق المقرب لوليام كريستال ولإليوط أبرامس المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي. وقد كان هذا الرجل متورطا بفضيحة إيران كونتراس إزرائل، التي كان بطلها هو أوليفر نورث من "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي"، جنبا إلى جنب مع بيرل ومارك لدين وهو أيضا من ابطال تلك الفضيحة. لدين يؤيد "الحرب الشاملة" ليس فقط في العراق، إنما في إيران وسوريا والسعودية والسلطة الفلسطينية أيضا. دوف زاكهايم هو مراقب وزارة الدفاع الأمريكية.
أغلبية هؤلاء الأشخاص، وبمن فيهم وزير الدفاع دونالد رامسفلد، تابعون "للمبادرة بشأن القرن الأمريكي الجديد"، والذي نشر في عام 2002 "الكتاب الأبيض" وطالب فيها "المحافظة على السلام الأمريكي وتوسيعه". أي بما معناه سيطرة أمريكا على العالم.
ميراف فيرمزر, التي تحمل اسما شخصيا اسرائيليا، هي المسؤولة عن شؤون إسرائيل والعرب في "منتدى الشرق الأوسط" وهي تكتب في صحيفة "جروزلم بوست" وكانت من مؤسسي "معهد أبحاث الإعلام في الشرق الأوسط"، ذي العلاقة (كما يقول "الغارديان" اللندني) بشعبة المخابرات في الجيش الإسرائيلي. تقوم هذه الهيئة بتلقين وسائل الإعلام العالمية والإسرائيلية بمجموعة من الاقتباسات المتطرفة والمنتقاة من وسائل الإعلام العربية. زوج ميراف هو ديفيد فيرمزر، وهو الذي يدير البحوث حول الشرق الأوسط في معهد "إنتربرايز" التابع لبيرل. يمكننا في هذا السياق أيضا ذكر "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" والمعروف لدينا من فترة مضت وهو دينيس روس.
يتمركز المقربون من هذه المجموعة في كافة الصحف المهمة: ويليام سباير مؤيد معتوه لأريئيل شارون من "نيو يورك تايمز"، كراطهامر من "الواشنطن بوست" وروبرط باطلر من "وول ستريت جورنال" . وكلهم من مقربي بيرل.
هناك أهمية خاصة لتأثيرهم على كاتبي خطابات الرئيس بوش، يوسف شطيرن ومتيو سكالي وخطابات نائب الرئيس تشيني، جون مكونل. . لا عجب في كون خطابات بوش وتشيني تدوي وكأنها صادرة عن شارون. رئيس غرفة عمليات تشيني، لويس ليبي يعتبر هو أيضا من بين أعضاء هذه المجموعة.
ينبع التأثير الكبير لهذه المجموعة، وأغلبيتها من اليهود، من كونها تتعاون بشكل وثيق مع المتطرفين المسيحيين، وهو معسكر يميني متطرف يسيطر اليوم على الحزب الجمهوري، ويبرز من بينهم جيري بولوول من مؤسسي "الأغلبية الأخلاقية"، الذي أهداه مناحيم بيغن طائرة سيلون، وبات روبرتسون من مؤسسي "التحالف المسيحي" و"شبكة البث المسيحية"، الذان يمنحان "السفارة المسيحية" التابعة لفان هوفن في القدس والتي تؤيد المستوطنين، دعما ماديا.
يجمع ما بين هاتين المجموعتين التأييد المتطرف لأيديولوجية اليمين المتطرف في إسرائيل. أنهم يرون في الحرب على العراق جزءا من حرب البشرية النيّرة (أمريكا وإسرائيل) على أبناء الظلام (كل العرب والمسلمين).
على فكرة، كل هذه التفاصيل ليست سرية. فهي تنشر في هذه الأيام في عشرات المقالات في الصحافة الأمريكية والعالمية. يتفاخر أفراد المجموعة بذلك تفاخرا لا حدود له. فهم لا يخشون من رد فعل لا سامي.
# الجنرال الصهيوني. إن الرجل الذي يمثل هذا الانتصار هو الجنرال جي غارنر، الذي عُيّن مؤخرا كرئيس للإدارة المدنية في العراق بعد الاحتلال.
هذا الجنرال ليس أي شخص مجهول تم اختياره، فهو صديق باول فولبوفيتش الأيديولوجي. قبل سنتين وقع، مع 26 ضابط آخر، على عريضة من قبل "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي"، تمدح إسرائيل على كبح جماح ذاتها أمام "العنف الفتاح لزعماء السلطة الفلسطينية". بعد إحدى الجولات التي قام بها المعهد، أعلن قائلا: "إسرائيل القوية هي ركيزة يمكن للمخططين العسكريين والسياسيين في الولايات المتحدة الاتكال عليها".
لقد مدح غاردنر أثناء حرب الخليج الأولى في الكونغرس ما توصلت إليه صواريخ "الباتريوت" (التي فشلت فشلا ذريعا آنذاك). بعد اعتزاله من الجيش في عام 1997، تحول، ويا للعجب، إلى مقاول عسكري في مجال الصواريخ. لقد زود البنتاغون شركته بالعديد من الطلبيات بدون أية مناقصة. وقد استلمت الشركة هذه السنة طلبيات لبناء أنظمة الباتريوت في إسرائيل.
لذلك، ليس هناك من شخص آخر يمكن أن يكون مناسبا لإدارة الحياة المدنية في العراق. وخاصة في الفترة التي سوف توزع فيها هذه الإدارة طلبيات بملياردات الدولارات على الشركات الأمريكية، لإعادة بناء ما هدمه الجيش الأمركي، من أموال النفط العراقي.
# وعد بلفور الجديد. تذكرنا أيديولوجية المجموعة، التي تنادي بإقامة امبراطورية أمريكية عالمية تؤيد "أرض أسرائيل الكاملة" بما قد نسيناه.
لقد ولد وعد بلفور لأبوين، فكانت الأم هي الصهيونية المسيحية المتطرفة (والتي ضمت من بين مؤيديها ساسة مرموقين مثل اللورد بلمرسطون واللورد شفطسبري، وذلك قبل زمن من تأسيس الحركة الصهيونية)، وكان الأب هو الأستعمار البريطاني. ساعدة الفكرة الصهيونية البريطانيين على منع ضم البلاد للإمبراطورية الفرنسية وضمها إلى الإمبراطورية البريطانية، التي كانت بحاجة ماسة لها لكي تؤمن قنات السويس والطريق إلى الهند.
يحدث هذا الآن مرة أخرى. لقد نظم ريتشارد بيرل في العام الماضي ندوة، أقترح فيها من ألقى الخطاب الرئيسي عدم الاكتفاء بالحرب على العراق، بل يجب شن حرب على السعودية ومصر أيضا، بهدف السيطرة على "لب منطقة النفط العالمي". وقال أن العراق هو "المحور الذي ستدور الأمور حوله". من بين أبرز الأسباب لتصديق هذا الإجراء الاستعماري: الحاجة لحماية إسرائيل.
# أنراهن على حياتنا؟ تبدو هذه الأمور، لأول وهلة، مفيدة لإسرائيل، فأمريكا تمتطي ظهر العالم، ونحن نمتطي ظهر أمريكا. لم يكن لليهود في أي وقت من الأوقات مثل هذا لتأثير الكبير على مركز العالم كما هو الحال الآن.
ولكنني قلق من هذا التوجه. نحن نشبه مقامرا يضع كل أمواله ومستقبله على حصان واحد. صحيح أنه حصان قوي، حصان ليس له منافسين حتى اليوم، ولكن حصان واحد فقط.
هؤلاء المحافظون الجدد سيدفعون بالعالم العربي والإسلامي إلى موجة من الاضطرابات العارمة. لقد برهنت الحرب على العراق بأن ليس لديهم أية فكرة عن الشعوب العربية. لقد تم تكذيب كل معتقداتهم السياسية، والقوة العسكرية الخشنة وحدها هي التي حسمت معركتهم.
عندما سيمل الأمريكيون الذين سيدفعون ثمن الحرب من ذلك، سترجع أمريكا إلى بيتها، أما نحن فسنبقى هنا. أي اضطراب سيحدث في العالم العربي، سيشكل خطرا على وجودنا، وذلك بعكس توقعات فولبوفيتش وشركاه، فلن يقوم شرق اوسط ديموقراطي، لبرالي، صهيوني ومحب لأمريكا. وفي أعقاب هجماتهم يمكن أن يقوم شرق أوسط ديني متطرف، يشكل خطرا على مستقبلنا.
إن المشاركة بين المحافظين الجدد وبين المتدينين المتطرفين من شأنها أن تخلق في واشنطن قوى مضادة. وفي حال خسر بوش الانتخابات القادمة (كما هُزم أبوه بعد انتصاره في حرب الخليج الأولى)، ستذهب هذه المجموعة أدراج الرياح.
يروي الكتاب المقدس عن ملوك يهوذا الذين اتكلوا القوة العظمى التي سيطرت على العالم آنذاك: مصر. لم يكترث ملك اليهودية للقوى الجديدة التي نشأت في الشرق، آشور وبابل. فقال له القائد الآشوري: "لقد اتكلت على تلك العصى المهشمة، على مصر، التي يُتّكل عليها وجاء من يغلبها".
بوش ومجموعة المحافظين الجدد ليسوا عصا مهشمة، بل هم عصا قوية جدا، ولكن هل يجب الاتكال عليهم والمخاطرة بمستقبلنا بهذه المقامرة؟