|
طَرَفٌ مِن حَديثِ تَحَدِّياتِ البِنَاءِ الوَطَنى - 1
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1569 - 2006 / 6 / 2 - 12:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
بدعوة كريمة من (أكاديميَّة السودان الجديد للدراسات الفكريَّة والثوريَّة) ، تشرَّفت بالمشاركة فى الندوة التى أقامتها مساء الخميس 25/5/06م بقاعة الشارقة بالخرطوم ، بعنوان (تحدِّيات بناء الدولة الوطنيَّة فى السودان). وقد وجبت الاشادة ، فضلاً عن التوفيق فى اختيار الموضوع ، باهتمام الحركة الشعبيَّة بإنشاء الأكاديميَّة نفسها ، الأمر الذى نلمح فيه خدمة جليلة ، ليس فقط للاتجاه الوحدوى داخل الحركة والنخبة الجنوبيَّة العريضة التى تلعب ، فى العادة ، دوراً مؤثراً فى تحديد اتجاهات الرأى العام فى هذا الجزء العزيز من الوطن ، بل ، وفى المقام الأول ، لتخليص أدب الحوار حول قضايا (الوحدة والانفصال) من عكر الأمزجة والتعصُّب الايديولوجى ، وللارتقاء به نحو توقير الذهن النقدى ، واحترام الرأى والرأى الآخر ، كشرط لازم لتحقق هذا الحوار أصلاً. وعلى العموم فإن (تقرير المصير) ، حين يحين أوانه ، سوف يحتاج إلى أكبر قدر من الوعى بالمطلوب ، حتى لو كان هذا المطلوب هو (الانفصال) نفسه! وبعد ، فقد بدا لى العنوان ضخماً ، بل بدت لى محاولة الاحاطة بكل جوانبه ، فى ندوة كتلك ، أمراً أقرب إلى الاستحالة. فالموضوع مما قد يستغرق مؤلفاً بأكمله ، إن لم يكن مجموعة مؤلفات. ولعل أوضح ما يتبادر إلى الذهن من أسباب ذلك أن الخوض فى مسألة (تحديات بناء الدولة الوطنيَّة) فى بلادنا يفرض على الباحث ، أول ما يفرض ، دراسة الأوضاع التى تبرز من بينها هذه (التحديات) ، كشبكة علاقات اقتصاديَّة سياسيَّة واجتماعيَّة ثقافيَّة تتفاوت بين كل مرحلة وأخرى من مراحل تاريخنا الوطنى. بعبارة أخرى فإن التصدى لهذا الموضوع يفترض انخراط الباحث ، ابتداءً ، وبالضرورة ، فى مقاربة متعمقة ، على خلفيته ، لطبيعة هذه (التحديات) وخصائصها المائزة من خلال مقاربة أوليَّة لا غنى عنها لطبيعة وخصائص الصراع الاجتماعى والاقليمى والدولى فى كل مرحلة تاريخيَّة على حدة. هذا ، وحدث ولا حرج عن مباحث أخرى مطوَّلة ، لكنها مهمَّة جداً ، وإن كانت ذات طابع نظرى ، بحيث لا يمكن تجاوزها دون الانتقاص من قيمة البحث نفسه ، كنشأة وتطور مفاهيم ومصطلحات (القبيلة) و(العشيرة) و(القوميَّة) و(الشعب) و(السلطة) و(الوطن) و(الدولة) ، وبالأخص (الدولة الوطنيَّة الحديثة) التى تكرَّست فى الغرب منذ معاهدة وستفاليا لسنة 1648م. مع ذلك فقد حاولت الطرق ، فى حديثى ، بإيجاز ، وفى نطاق الحيِّز الزمنى المتاح ، على رءوس أعمِّ وأهمِّ عناصر هذا الموضوع من الزاوية السياسيَّة العمليَّة البحتة قدر المستطاع ، ثم ارتأيت أن أشرك قارئى الأسبوعىَّ فى الأمر ، وذلك على النحو الآتى: أولاً: التحدى الأكبر الذى يواجه ، فى رأيى ، قضيَّة (بناء الدولة الوطنيَّة فى السودان) فى الوقت الراهن ، وأضَعُ خط تشديد تحت عبارة (فى الوقت الراهن) ، هو المحافظة كفاحاً على (بقاء) الدولة نفسها التى بلغت من التهلهل درجة أضحى معها ترابها مستباحاً من كلِّ الضوارى الأجنبية بعد أن صُنفت ، نهائياً ، كأكثر دول العالم فقراً ، وأوسعها فسـاداً ، وأضعفها عدلاً ، وأقلها شفافيَّة ، وأبعدها عن التماسك ، وأدناها إلى التفكك ، وأشدها اشتعالاً بالحرائق ، وأبشعها انتهاكاً للحقوق ، وأخطرها على السلم والأمن الدوليين! على أن المعضلة الحقيقيَّة هى أن النخبة الممسكة بزمام القرار فى هذه الدولة ما تفتأ تسدُّ أذناً بطينة وأخرى بعجينة ، فلا تسمع أو تعقل نصح ناصح بالمسارعة لترميم شروخات الجبهة الداخليَّة عن طريق الذهاب إلى كلمة سواء مع الكيانات السياسيَّة والجهويَّة والمدنيَّة فى البلاد ، وأن مبلغ همها التشبث بكراسى الحكم منفردة ، مع علمها علم اليقين ، للغرابة ، أن الحذاء العسكرى الأجنبى لن يستكمل وطء تراب الوطن إلا بعد أن يستكمل وطء السلطة نفسها! لقد أثبتت هذه النخبة ، للأسف ، أنها غير راغبة فى دفع استحقاقات التحوُّل الديموقراطى الذى تدعو له نيفاشا على محدوديتها ، ويدعو له الدستور الانتقالى على قصوره ، وتدعو له المعارضة على ضعفها البائن ، فتظل تحمِّل الآخرين وزر التفريط فى (السيادة الوطنيَّة) ، وتطالبهم ، من فوق كلِّ ذلك وكلكله ، بالمحافظة على (الدولة) .. بأية كيفية! (أية كيفية) إلا (المشاركة) العادلة فى تقرير مصير البلاد! فتأمَّل كيف تشخص (المأساة) فى أشد حالاتها (ملهاويَّة) حين يكون المطلوب إخراج الديك من خوان الأوانى الزجاجيَّة ، دون أن تتلوَّث هذه الأوانى أو تتكسر .. وهيهات! ثانياً: إن قدِّر لنا أن نحقق إعجـاز المحافظة على (بقاء) الدولة ، فسوف تواجهنا ، فوراً ، تحديات أخرى لا حصر لها فى سبيل بناء أو إعادة بناء هذه الدولة وطنياً ، نبرز ثلاثة منها أساسيات كالآتى: التحدى الأول: هو تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن: (1) هذا التحدى ، الذى نرجو صادقين ألا يكون قد استهلكه طول المضغ ، ظل هو شعار ومطلب (العصر البطولى) للتجمُّع الوطنى الديموقراطى خلال تسعينات القرن المنصرم ، أيام كانت تلتئم فى عضويته ، على علاته التنظيميَّة ، كلُّ القوى السياسيَّة والنقابيَّة والجهويَّة ، مستهدفة استراتيجيات ملهمة فى المستويين الوطنى والاجتماعى ، قبل أن: أ/ يخرج منه حزب الأمَّة ليضعف حركته بالتشظى إلى أربعة أحزاب على الأقل ، ب/ ثم تخرج منه الحركة الشعبيَّة لترضى من غنيمة تفكيك دولة الاسلامويين لصالح دولة الوطن كله بإياب إقليم واحد لا يمثل أكثر من ثلث الوطن ، هو المتخلص وحده من ربقة هذه الدولة ، ج/ ثم يتفاقم ضعف الانضباط داخل التجمُّع بالمزيد من المواقف المرتبكة ، والقرارات المعزولة ، والاجراءات الفوقيَّة المتصادمة ، مثلما تتفاقم عزلته فى الخارج عن جماهيره المفترضة فى الداخل ، الأمر الذى ظلَّ يشكل ، أصلاً ، (كعب آخيل) الأخطر فى حركته ، حتى أمسى وقد استشرى الوهن فى الجسد والروح معاً ، د/ ثم تبدأ فى التفلت منه حركات الغرب والشرق المسلحة ، والحركات الاجتماعيَّة الفئوية للنساء ، والطلاب ، والنقابيين ، ومفصولى الصالح العام ، مدنيين وعسكريين ، وإلى ذلك ضحايا القمع الوحشى فى زنازين الخفاء والعلن ، ليجد هؤلاء أنفسهم يجابهون قضاياهم ، كلٌّ بمفرده ، بعيداً عن قيادة التجمع التى (كانت) ، سواء قيادة ما كان يعرف بتجمع الخارج أو تجمع الداخل ، والتى نخشى أن استعادتها الآن تحتاج إلى ما يشبه المعجزة ، هـ/ ثم يستشرف ، على هذه الحال من الضعف ، مفصلاً تاريخياً شديد الدقـَّة والخطورة ، هو المفصل الذى شهد مفاوضاته من أجل ما سُمِّى (بالحل السياسى) مع النظام ، و/ ثم ما يلبث أن يفضى به خوضه تلك المفاوضات على تلك الحال فى ذلك المفصل إلى ما يشبه الانقسام الصامت الذى يتمظهر الآن فى ركون الكثير من قادته الديناميكيين إلى التجمُّد على حال (البين بين) الذى يسعد العدو ويتعس الحبيب ، خلا (فرفرة) هنا أو هناك ، فى حين تقطعت أخبار رئيسه فى الخارج ، وقنع نائبه بموقـع وزارى هامشى ما كان يحتاج إلى كلِّ ذلك المخض لينتج هذا الزبد الحامض ، وتسرب بعض رموزه إلى مواقع السلطة التنفيذية وحزبها ، ينفذون ، باسم هذا التجمع الذاوى ، مخططاتها ، ويتلقون فتات موائدها ، ويلبسون لكل حالة لبوسها ، ويتخذون ما يجعلهم أكثر كاثوليكية من البابا فى مواقف جديدة ما عهدناها فيهم ، وقد كانت مرجعيَّتها ، ولا بُدَّ ، مخبوءة جيِّداً ، فلم نلمحها ، أو قل لم نشـأ أن نلمحها ، بين تضاريس ذهنيَّتهم السياسيَّة من جهة ، وتركيبتهم الأخلاقيَّة من الجهة الأخرى! (2) وإذن فها هى (دولة الحزب) تزداد (حزبيَّة) ، وها هو شعار ومطلب (تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن) باق على حاله ، بانتظار تحالف سياسىٍّ أكثر اقتداراً ، بعد أن سجَّل التجمُّع فشلاً ذريعاً فى تحقيقه عن طريق معارضة (فوقيَّة) انتهت به إلى حال التلاشى ، وبعد أن أصبح واضحاً عجز الحركة الشعبية عن أن تحرك منه ساكناً بإضعافها للتجمُّع ، ومن ثمَّ لنفسها ، و(بمشاركتها) فى (حكم) لم يعُد لها فيه سوى همس التشكيك الدائر فى الشارع ، أحياناً ، حول مواقف بعض وزرائها ، وما يصدر عنها ، إعلامياً ، من (شجب) و(إدانة) ، أحياناً أخرى ، لقرارات نفس الحكومة التى هى (شريكة) فيها ، وإبراء ذمتها من إجراءاتها! (3) وفى المحصلة النهائية ، ها هو الشعب يرث شعار ومطلب (تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن) ، على طريقة (تابع ما قبله) ، كتحدٍّ مطروح أمام حركته المنتظرة من أجل بناء (الدولة الوطنية) المشتهاة!
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْي
...
-
عَضُّ الأصَابع فِى أبُوجَا!
-
بَا .. بَارْيَا!
-
إسْتِثناءٌ مِصْرىٌّ وَضِئٌ مِن قاعِدةٍ عَرَبيَّة مُعْتِمَة!
-
خُوْصُ النَّخْلِ لا يُوقِدُ نَاراً!
-
التُّرَابِى: حَرْبُ الفَتَاوَى!
-
سِيْدِى بِى سِيْدُوْ!
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ (الحلقة الأخيرة) مَا العَمَ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (13) الوَطَنُ لَيسَ (حَظَّ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (12) وَطَنيَّةُ مَنْ؟!
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! إِشَارَاتُ -أُوْكامْبُو- و
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (10) إنقِلابُ اللِّسَانِ ا
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (9) سَيادَةُ مَنْ؟!
-
التَوقِيعُ على -نِظَامِ رومَا-: غَفْلَةٌ أَمْ تَضَعْضُعْ؟ومَ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (7) طَريقَانِ أَمامَكَ فَا
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (6) مَطْلَبٌ ديمُقرَاطِىٌّ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (5)المَسَارُ التَّاريخِىُّ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ! (4) الحَرْبَانِ العَالَميّ
...
-
ومَا أدْرَاكَ ما الآىْ سِىْ سِىْ!
-
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الآىْ سِىْ سِىْ مِنْ حُقوقِ الدُّوَلِ إل
...
المزيد.....
-
-حالة تدمير شامل-.. مشتبه به -يحوّل مركبته إلى سلاح- في محاو
...
-
الداخلية الإماراتية: القبض على الجناة في حادثة مقتل المواطن
...
-
مسؤول إسرائيلي لـCNN: نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق ال
...
-
مشاهد توثق قصف -حزب الله- الضخم لإسرائيل.. هجوم صاروخي غير م
...
-
مصر.. الإعلان عن حصيلة كبرى للمخالفات المرورية في يوم واحد
-
هنغاريا.. مسيرة ضد تصعيد النزاع بأوكرانيا
-
مصر والكويت يطالبان بالوقف الفوري للنار في غزة ولبنان
-
بوشكوف يستنكر تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن دعم باريس المطل
...
-
-التايمز-: الفساد المستشري في أوكرانيا يحول دون بناء تحصينات
...
-
القوات الروسية تلقي القبض على مرتزق بريطاني في كورسك (فيديو)
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|