أمجد المصرى
الحوار المتمدن-العدد: 6473 - 2020 / 1 / 26 - 10:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
فى مثل هذه الأيام منذ تسـع سنوات قامت الثورات ( سابقة التجهيز ) فى منطقة المشرق العربى المنكوبة ، إنطلقت الشرارة من تونس ثم تدحرجت كرة اللهب فأشعلت من النار الكثير فى مواطن عديدة بعضها مازال مستعرا رغم مرور السنين ، و بعد انقشاع بعض الغبار حينها خرجت الثعابين من الجحور و ظهر الوطواط فى وضح النهار ، و تصدر الإسلاميون المشهد الذى كانوا قد استعدوا له تمام الاستعداد ، و تشدق تجار الإسلام السياسى و تصايحوا بعبارات : الإسلام هو الحل ، القرآن دستورنا ،الإسلام صالح لكل زمان ومكان ، الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع ، و ما إلى ذلك من شعارات جوفاء خدعت البسطاء و استهوت الجموع من السوقة والدهماء .
كان طبيعيا أن يفشل الإسلاميون فى إدارة شؤون حكم البلاد التى تمكنوا - بثوراتهم المصنوعة - من السيطرة عليها ، كان طبيعيا أن يفشلوا و يسقطوا وتزيحهم الجماهير ، و هنا تحول ( بتوع ربنا ) فجأة إلى قادة ميليشيات مسلحة و فرق قتل و سطو مسلح و ضباع منفردة و مجتمعة للتفجير والتدمير والترويع .
ذكرتني تلك الثورات العربية المشؤومة بثورة الزنج التى قامت ثم أخمدت فى زمن الخلافة الإسلامية ، و التى سبق أن أوردها الأستاذ/ سيد القمنى بإحدى مقالاته . كان صـــاحـــب الـزنــــــج هـو العبد الأسود (عبد الله بن على بن محمد) الذي قاد ثورة للعبيد السود المعروفين بالزنج ضد دولة الخلافة الاسلامية ، من أجل تحرير العبيد ونيل الحرية , في بلاد العرب , وفي العراق تحديداً , حيث عاصمة الخلافة .
و(الزنج) هو المصطلح العربي الدال علي العبيد السود للإمبراطورية العربية ، والذين كان يتم جلبهم خطفا بواسطة النخاسين من ساحل افريقيا الشرقي الأقرب , وغالباً من منطقة زنجبار وتنجانيقا (تنزانيا حالياً) , وبيعهم في أسواق العرب , للقيام بالأعمال الدنيئة مثل كسح المجاري وتطهير الأنهار و تنظيف مرابط الخيل ، و قد كان لدولة الخلافة عبيدها بمئات الألوف للقيام بهذه الأعمال الضرورية. ومن ثم نسبهم العرب الي موطنهم و أسموهم بالزنج .
كان السيد العربى يقوم بتسخير عبده الزنجى في العمل فيكون للعبد أدني حصة من عائد هذا العمل , بما يكفيه بالكاد لاستمرار الحياة مقابل أداء وظيفته التعسة ، أما فائض قيمة العمل فهو إضافة تنموية ينفرد بها السيد العربى ، وليس للعبد علي السيد سوي حق الإيواء والإطعام .
من المعلوم أن نظام العبودية قد لازم الدولة العربية الإسلامية منذ ظهورها , فغزوات الجهاد الإسلامي نشطت عمليات الاستعباد , وأمدت أسواق الرقيق بالبضاعة طوال الوقت ، و ذلك بتحويل أبناء الشعوب الحرة المفتوحة إلى سلع ، بعد أن أباحت لهم قواعد الفقـه استباحة شعوب بكاملها والاستيلاء على الأرض بمن عليها ملكاً للعرب وورثتهم وقفا عليهم وعلى نسلهم من بعدهم , حسبما انتهى إليه الخليفة عمر بن الخطاب .
لا غرابة فى ذلك و الإسلام قد أبقى على العبودية و لم يحرِّمها بل كرسها بعكس ما يدعى المشايخ و تجار الإسلام السياسى و السدنة من الفقهاء و الدعاة ، فقد مات النبي تاركاً خلفه عبيده ضمن ما ترك ، كذلك كل الصحابة وكل المبشرين بالجنة ، وكان الإمام علي أزهدهم في الدنيا وأفقههم في الدين ولم يترك سوي تسع عشرة جارية من ملك يمينه .
تقدس النظام العبودي تقديسا كبيرا في الإسلام ، بفقه كامل للرقيق كطبقة مختلفة عن بقية الطبقات حقوقياً واجتماعياً وانسانياً ، كذلك ورد التسري بالجواري في ثلاث وعشرين آية بالقرآن ، بينما لم يورد القرآن ولو آية واحدة تشرح للمسلم كيف يصلى ! .
لم تكن ثورة الزنج سوى مظهر عملي للمطالبة بالحرية والعدل الاجتماعي والسياسي للعبيد الزنوج ، لقد استمر صاحب الزنج يمهد لثورته ست سنين فتحدث لأصحابه في أن يؤمروه عليهم ، وأن يغامر بهم كما غامر الناس , وارتحل داعياً لنفسه بين العبيد الي هجر ثم الأحساء ثم البادية ثم البصرة ، وفي رمضان سنة 255هـ كان قد اتخذ القرار للقيام بمهمته التاريخية ، فى ساعة الصفر اقتحم عبد الله بن محمد برفاقه مدينة البصرة , وخربها وقتل أهلها واستصفي الأموال ، وأخذ الأسري من أحرار العرب كما كان العرب يفعلون بغيرهم , وأخذ النساء الحرائر فوزعهن علي أصحابه سبايا ، ويوماً بعد يوم كان جيش صاحب الزنج يزداد عدداً بالعبيد المحررين . ويزداد سيطرة على مساحات جديدة من أرض دولة الخلافة ، لذلك فقد صارت أقاليم و مدن من دولة الخلافة تدفع الخراج لعبد الله بن محمد مثلما فعلت جيوش العرب زمن الغزو الفاتح .
لقد رفض العبيد نظام الخلافة الإسلامية وطريقته في الحكم في القرن العاشر الميلادي ، ويأتي الآن من يطالب بعودته في القرن الحادي والعشرين ! ، يالـوقاحـة هؤلاء . يلفت النظر بشدة قول عبد الله بن محمد لأصحابه " لنغامر كما غامر الناس" . كان التاريخ ماثلاً لم يمض بعد بتاريخ الفتوحات , عندما غامر العرب فــ ( فازوا ) بالأرض ومن عليها. لكن هذا التاريخ الماثل يبدو أنه أيضاً كان هو المثل والقدوة ، فقام عبد الله بن محمد يختار لنفسه راية خضراء ، كتب عليها الآيات: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون " . لقد إستخدم الرجل بكل جرأة نفس البضاعة لتحقيق ذات الهدف ، فلماذا نلومه ؟ . لقد جعل الحرب في سبيل الحرية ، حرباً من المؤمنين ضد المشركين , كما هو موضوع الآيات , لقد جعل حربه حقاً يقف الله بجانبه ضد الخلافة ونظامها كله بوصفها الباطل .
كان مما يلفت النظر أيضاً وفاء صاحب الزنج لاتباعه بما وعد ، قام يطبق علي السادة الذين أصبحوا عبيداً شريعة العرب , فكان يجلدهم بالسياط ، ويوزع علي اتباعه أنصبة من فيء غاراتهم علي السفن والقري كزمن الغزوات المحمـدية وغزوات الفتوحات ، سواء كانت الأنصبة منافع مادية أو بشراً من أطفال ونساء السادة المترفين .. فأنفذ في العرب شريعتهم ، لكنه ارتقي عنهم درجة عندما ساوي بين البيض الأحرار وبين الزنوج وآخي بينهم كالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إبان زمن النبوة .
كان تطبيق شريعة العرب علي العرب مأتماً عربياً عظيماً ، آلم العرب وأوجع أكبادهم في كل بقاع الخلافة التي اهتزت لاغتصاب النساء العربيات الماجدات من قبل العبيد السود وبيعهن في الاسواق . جأر العرب بالشكوى جرّاء تطبيق شريعتهم عليهم ، فقاموا يطالبون الخليفة بالقضاء علي ثورة الزنج ، وكان هذا تحديداً هو السبب الحقيقي في كسر ثورة الزنج . كان للمشايخ والفقهاء أيضاً دورهم الكبير في هجـاء و تخوين وتكفير ثورة الزنج ، فكفَّروا صاحب الزنج ومن معه رغم إلتزام الرجل و رفاقه بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية بحذافيرها منذ اليوم الأول لثورتهم .
لو راجعنا كل أفعال و أقوال صاحب الزنج إبان ثورته لوجدناه مسلماً ملتزماً بالنصوص الإسلامية المقدسة ، فقد جلد سادة العرب بالشرع و وطأ هو ورجاله نساء العرب كسبايا وأسروا الأطفال ونهبوا الأموال تماماً كما فعل العرب تنفيذاً لنصوص الشريعة ، فأين الكفر فيما فعل صاحب الزنج؟؟ . إن الكفر الواضح أنه لم يفهم أن تلك قوانين مقدسة يطبقها العرب على غير العرب فقط ، هي قوانين تستثني واضعي القانون من القانون ! .
لقد أدرك عبد الله بن محمد خلل نظام الخلافة المقدسة وحلفها المشيخي , لكنه لم يستطع أن يجد أمامه بديلاً يعرفه ويفهمه لثقافته الإسلامية التي لم يعرف سواها ، فطبق الشريعة بإخلاص ، لذا فقد أذاق العرب مرارة الكأس الذي أذاقوه لمختلف الشعوب التى غزوا بلادهم ، فاستمر الظلم رغم تبدل الشخوص . عاد الزنج مع هزيمتهم النهائية أمام جيوش الخليفة عبيداً مرة أخري ، لأنهم لم يكونوا مؤهلين لاستبدال تلك الثقافة بثقافة أكثر نضوجاً تقدس الحرية والكرامة والانسانية والعدل والمساواة لكل البشر . لقد كانت القاعدة ظالمة فاسدة ، قاعدة شرعية أسبغوا عليها قداسة ، تقطع الطريق على كل من ابتغى المناقشة و تكفِّر رافض الظُلم .
ها هو التاريخ يعيد نفسه ، لقد نتج عن فساد و استبداد الأنظمة العربية الحاكمة ما سُمى بثورات الربيع العربي الأكثر فساداً و التى أفرخت العديد من كيانات إرهابية ترفع راية الإسلام روّعت الشعوب العربية و مزقت الدول بالعراق و سوريا و لبنان و اليمن و ليبيا و كادت أن تفعل الشئ نفسه بمصر و تونس . لقد سمعنا و رأينا جرائم يندى لها جبين الإنسانية اقترفتها تلك الكيانات الإرهابية التى تحمل راية الإسلام أمثال داعش و جبهة النصرة و فيلق القدس و جيش محمد و جيش المهدى .. وغيرها الكثير شنت و ما تزال حرباً قذرة بالوكالة عن قوى عالمية و إقليمية من أصحاب المصالح فى العبث بمستقبل و ثروات شعوب عربية لا تملك من أمر نفسها شيئاً .
#أمجد_المصرى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟