كلمات -13-
من بين هوايات الطاغية بعد اغتصابه الحكم في بلادنا، إقامة تماثيل له وصورا على قواعد كونكريتية متينة، ويمكن القول أن شوارع العراق أصبحت(البوما) يحوي على كم هائل من تلك الصور والتماثيل، وكانت جميعها تؤشر نحو مجهول العراق، صور باللباس المدني رديئة في نسبها وانسجام كتلها وألوانها، أخرى باللباس العسكري ذي النياشين المسطرة على صدره من حروب خاسرة دفع ثمنها الشعب العراقي، أصنام مرتفعة ارتفاعا شاهقا عن الأرض حاول مقيموها عبثا مطاولة قامة نصب الحرية، ولكن أصنام الطاغية لم تسلم دائما، رغم ارتفاعها، من القصف المدني العراقي!، فرشقت بالأزبال أو الأصباغ الحمراء وغيرهما، أصنام لها وجوه صافنة غبية ميئوس منها تشبه وجوه الموتى في الجبس، فاالعيون غائرة بلاحياة :وكيف يكون فيها حياة وقد سلبت حياة الملايين من الشعب العراقي، ثمة صور بهلوانية مضحكة تجعل من الظاغية ممثلا اكثر منه (رئيسا)!!
والأصنام المنتشرة في بلادنا تعكس سيكلوجية طاغية مهزوم، فلايشعر المارُّ من تحتها براحة ضمير على الإطلاق، إنما بحالة من الإغتصاب، مشيرة باتجاه شعب لايأبه بها ولايبالي، فاالشعب العراقي إما مشغول بلقمة عيشه التي ضربها الطاغية في الصميم، عبر حروب خاسرة، وسياسة عدوانية فردية بلامنهج واضح،وحصار بدا طويلا أكثر مما يجب وبلامعنى!
بمرور الزمن ولاأبالية العراقيين وجفائهم المقصود لأصنام الطاغية، أصبحت الأخيرة مصائد للعراقيين التي تثيرها، ربما أكثر مما للمصطلح الممجوج الشائع في بلادنا (ليش تسب الريِّس!!)، وهذا الأخير موجه ضد الذات العراقية والنوع العراقي، فقد كنا في العراق، وبنوع ما، نشعر بأن الأصنام لاتستفزنا حسب، بل وتستفز فينا طبيعتنا الإنسانية، فمثلا لايشبه المرور تحت صنم الطاغية غير العبور من تحت مقصلة، ينتابنا شعور باالخوف والإنقباض والغثيان، فبتبادل الدلالات بين المقصلة والصنم تأخذ الأولى الشاب العراقي إلى العدم العراقي الذي لايمكن مفاضلته مع عدم آخر في زماننا هذا، بعدما تآمرت علينا نحن العراقيين دول عربية وأجنبية وشركات سلاح مجرمة و(بزنس) غير شريف باالمرة، يبيح قتل العراقيين واستمرار الحروب العدوانية لآكثر من مجموع حربين عالميتين!
المرور تحت صنم وأنت مقيد بأغلال النظام الشمولي، هل هناك تعاسة تشبه تعاسة العراقي!؟
فاليدان مغلولتان إلى ماوراء التأريخ الوطني العراقي باعتبار اللحظة الراهنة هي خارج التأريخ، تأريخ البطولة العراقية في الزمن المنظور على الأقل، أقصد الأجداد المقاومين للإحتلال الإنكليزي، وهو مكوَّنٌ من تأريخ الحوزة واليسار والعشائر وحتى الأفراد الضامّين لكل الوان طيف الشرف العراقي، لايملك الفرد العراقي نحو الصنم وهو يمر من تحته، أو من أمامه، إلا برغبة عارمة في تكسيره وإذلاله وسحله أمام الملأ، لأن الصنم في وطننا كان حتى الهواء الذي نتنفسه مرهونا له، وهو يأمرنا باستمرار بتقديم فروض الطاعة والولاء، والعراقي يفكر بحرية لايمكن لها إلا أن تؤكد نفسها على الدوام بوجه الجلاد، والرغبة العارمة التي لو قيض لها لكسرت آلاف الأصنام وسحلتها وأذلتها!
لامراء في أنه الألم الإنساني النبيل الخلاق لشرط وجودنا الإنساني وحريتنا المداسة ببساطيل العسكر، ومن جانب آخر امتحان للذات وللخطاب الإنساني فيها بنوازع الإنفلات من أسر محدودية اللحظة وراهنيتها في هذه المرحلة التأريخية، والأصنام كذلك توحي بالأسر والعراقيون أسرى النسخ المتعددة لوجه جلاد واحد.
افتح عينا وأغمض الثانية أمام الصنم، غالبا ماأجرؤ على ذلك في العتمة وعيناي حذرتان تترقبان هنا وهناك، أقف بإزائه متحسرا بينما يعتمل في قلبي شعور عميق بضرورة كسره وإذلاله، أرفع أرنبة أنفي مكشرا ومقطبا حاجبيّ علامة الكراهية والبغض، فضلا عن مختلف المشاعر التي تنتاب عادة الإنسان أمام وجه جلاده.
كم مرة مررت من تحت الصنم وتحسرت، شاعرا لابالغيظ حسب بل باالحزن عميق لما آل إليه شعبنا ووطننا، وأنا أقف أمام الصنم، أطلق آهة على وطني المعلول بالطاغية، وسنوات شبابي التي ضاعت هباء بين شرق البصرة وسربيل زهاب في الحرب العراقية الإيرانية.
في نظام شمولي غارق في الإجرام كنظام الطاغية ، تصبح الأصنام عيونا مبثوثة في الساحات العامة والشوارع والمؤسسات ودور العلم وغيرها، الأصنام عناصر مخابرات إضافية من حيث لم يحتسب الناس، إنها عيون وآذان تتبادلان وظائف الحواس، وتلتقطان عبر موشور السلطة القمعية الوان الغضب والرفض الدائمين، إنهما تحاولان عبثا تغيير سيكولوجيا الجماهير، وتطيحان بالأمل، وترسلان ترددات لقياس نبض الشارع وحركة الضمير الجمعي العراقي، أصنام الطاغية المبثوثة في بلادنا في كل مكان، بمعنى من المعاني لوامس لمديات الرفض الشعبي واندفاعاته، ومصدات لموجات الكبرياء العراقي لكي يكف أن يكون كبرياء، وهي -أي الأصنام- لاشك مراقبة بعيون عناصر الأمن والمخابرات والحزبيين أي محروسة باالهاجس الأمني، فإذا كانت الأصنام مزروعة بباب المنظمة الحزبية فهي محروسة بعيون الحزبيين، وفي المؤسسة بعيون مديرها وهو على الأرجح حزبي إما بدرجة حزبية كبيرة أو متوسطة، إنه عصاب الحزب الواحد والنظام الشمولي والحروب العدوانية والسلطة المعزولة عن الشعب.
اما في الساحات العامة فغالبا مايكون الصنم موطدا كأحسن مايكون عليه التوطيد:دكة كونكريتية محاطة بمربعات كونكريتية هي الأخرى.
الأصنام تحاول عبثا التأثير على العراقيين توجيههم لصالح برامجها القمعية، والعلاقة بين الصنم والعراقي علاقة تنافرية يريدها الأول لإستمرار النظام، ويرفضها الثاني باتجاه زوال النظام، وبهذا تكون العلاقة غير سوية باالمرة ومأزومة على الدوام!
في غير مناسبة وأكثر من زمن واحد من عمر الطغيان في بلادنا، حاول العراقيون أحزابا وجماعات وفرادى، كسر الأصنام وإعادة النظر في معنى العبودية برفضها جملة وتفصيلا، تبدأ عملية الإطاحة بطاغية ما بتكسير أصنامه، في نفوس الناس أولا، ثم في الساحات العامة كما فعل أبناء شعبنا عصر اليوم (9/4/2003) في ساحة الفردوس ببغداد، وأحيانا بسحل الصنم كما حدث في الثورة الرومانية ضد الدكتاتور تشاوشيسكو، فاالأصنام تطرح قضية الإستخذاء والإذلال والعبودية بشكل معيب ومستمر ويومي، طارحة على الناس سؤالا يتكرركل يوم: أنتم العبيد الأرقاء وأنا الحاكم بأمري والسيد والطاغية وهادم بيوتكم على رؤوسكم ومرسلكم إلى الحروب وغيرها، إن المرور تحت جدارية نصب الحرية للخالد جواد سليم في الباب الشرقي ببغداد، لايمكن مثلا مقارنته باالمرور من تحت صنم للطاغية، شتان بين هذا وذاك، ففي الأولى يشعر العراقي بفخر بذلك المنجز النحتي الفني الكبير الذي خلد ثورة العراقيين في الرابع عشر من تموز ضد سجاني شعبنا وسالبي حريته، ثورة العراقي بتكسير أغلاله، وأنا أقترح على الحكومة العراقية الجديدة بعد نهاية عهد الطغيان، تعليم معاني ودلالات نصب الحرية لأجيالنا، وتوضع رسمة النصب العظيم على نقودنا وتدرس في المناهج التعليمية، وكذلك إقامة تماثيل لآبائنا الروحيين ومن بينهم: علي الوردي وطه باقر والجواهري.
الأصنام من جهة أخرى، بتركها باب التحدي مفتوحا أمام الجماهير، صنعت نوعا من العزل النفسي للأغلبية العراقية، وكانت فيصلا، عبر أكثر ثلاثة عقود من حكم النار والحديد، فمن يصطف مع الصنم ونداءاته واستخفافه بعقول العراقيين وحياتهم، يصبح معزولا أيضا، ونشأت لدينا في العراق طبقة معزولة لم تتماثل للشفاء لأن حساسية العراقية معروفة بقدر مايتعلق الأمر بحكم الطاغية، والإصطفاف معه ضد إرادة الشعب كامل لايمكن توصيفه إلا بحالة مرضية ركزها الطاغية وأدامها ومنحها امتيازات، أما الرافضون -سواء للصنم أو للنسخة الأصلية منه وهم عموم الشعب العراقي-، فهؤلاء أغلبية تنزع إلى الخلاص من حكم جائر لايمكن بحال لتمثال أن تسوي مابينه وبين النظام، ولاالصورة زاهية الألوان أن تنير ليل العراق البهيم.
ارجح وجود لجان خاصة منبثقة عن أوكار الحزب والمخابرات والأمن في المدن العراقية، مهمتها إعادة ترميم الأصنام بعد القصف المدني العراقي، إضافة إلى استنساخ أعداد أخرى منها وزرعها في أماكن منتخبة من المدن: الساحات العامة مثلا، وتبقى مهمة حساب كم أنفق الطاغية من أموالنا على إقامة الأصنام، مهمة عسيرة نظرا لإقامة أعداد لاحصر لها عبر سني حكم الطاغية.
وبرزت إلى سطح المجتمع العراقي طبقة الرسامين والنحاتين، موهوبين وغير موهوبين، كنا نلمس ثراء هؤلاء السريع حتى أن البعض منهم، ونظرا للعدد الكبير الذي نفذوه من صور الطاغية عبر سنوات طويلة، وكثرة مرور فرشاتهم على وجه الطاغية المرذول، صاروا يستخدمون (البنتلايت) بدلا من الزيت، فيما كان البعض منهم -كما سمعنا - يرسم وهو سكران.
ودأبت اللجان المذكورة على حجب كل صنم تعرض لقصف مدني عراقي، تهرع العناصر إلى مكان الحادث لإنقاذ الصنم أولا بحجبه عن الأنظار بقماش غامق اللون، أو إذا اقتضى الأمر بموانع عالية نوعا ما تعلو قامة رجل لكي يغيب نهائيا عن العيون، وللحساسية العراقية المتوثبة على الدوام وقفة ضمير وتهكم وتشف، وشماتة لراعي الصنم ونظامه الدموي، ولايحتاج العراقيون إلى طويل وقت ليدركوا خسارة النظام في هذا المكان أوغيره،نفسيا كنا نشعر بنوع من الإرتياح، شعور بأن مقاومة الطاغية عبر تدمير أصنامه لم تتوقف، ولابد أن يأتي يوم النسخة الأصلية!!
بعد القصف المدني العراقي، تقوم عناصر الأمن كما هو معروف بحملة اعتقالات واسعة، سواء في الأماكن القريبة من الصنم أو البعيدة عنه، لكن الصنم يعود بعد أيام فترفع عنه الدعامات والأقمشة، ويحدث أحيانا استبدال الصورة المقصوفة بغيرها، فيستبدلون العسكرية باالمدنية، والصورة التي يرتدي فيها الطاغية العقال العربي، تستبدل ربما باالصورة التي يدخن فيها السيجار الكوبي!
إبان الإنتفاضة المجيدة التي لم تدم للأسف أكثر من ثلاثة أسابيع، اطفأ العراقيون في الناصرية وغيرها من المدن العراقية نيران صدورهم المتقدة بعمل مذهل أمام الملأ: تكسير الأصنام رفضا وخطوة أولى باتجاه نسخة بغداد الأصلية، أصنام مدينتنا كسرت يال(آربي جي)، سحلت باالتراكتورات، وباالدبابات التي غنمها المنتفضون من معسكرات الجبيش، بإختصار عوملت الأصنام بما تستحقه.
هنيئا لشعبنا المظلوم بسقوط النسخة الأصلية وإلى الأبد.