|
مافيات حكوميّة مُنتخبة
ياسر البراك
الحوار المتمدن-العدد: 1569 - 2006 / 6 / 2 - 10:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
في جميع أنحاء العالم ثمّة ( مافيات ) مهمتها المتاجرة بمختلف ( الممنوعات ) فمن المخدرات ، الى الماس ، الى السلاح ، الى تجارة البشر ، الى غير ذلك من المواد الثمينة التي يمكن أن تدر أرباحاً هائلة على تجّارها ، وعادة ماتكون هذه ( المافيات ) خارجة عن قانون الدول التي تقيم فيها ، بل أن أغلبها يحاول أن يستخدم نفوذه المالي وسطوة الثروات المتراكمة من المتاجرة بتلك الممنوعات من أجل أن يحقق موطئ قدم في أجهزة القانون والقضاء والشرطة فلا نستغرب أن يكون الشرطي الفلاني ، أو القاضي العلاني عميلأً للمافيا الفلانية ، ورغم الخروقات التي تحققها تلك المافيات في الأجهزة القضائية ، إلا أنها تبقى تنظيمات خارجة عن القانون ومُلاحقة من قبل السلطات المحلية بغض النظر إن كانت تلك السلطات ضعيفة كما هو الحال في دول أمريكا اللاتينية ، أو قوية كما هو الحال في دول أوروبا ، وفي العراق الجديد بعد سقوط الدكتاتورية وإعتلاء ( الأحزاب الوطنية ) سدّة الحكم فيه ظهرت مافيات من نوع خاص ، مافيات لا تشبه أي مافيا في العالم لأن تجارتها الوحيدة ( بيع الوطن ) وتهريب الثروات الى دول الجوار أو الدول الخليجية التي تسمح باستثمارات مالية هائلة حتى بات مسؤولون عراقيون يملكون من الشركات والعقارات في الإمارات العربية المتحدة – على سبيل المثال وليس الحصر – أضعاف ما يملك المواطنون الإماراتيون ، والأمر نفسه ينسحب على العديد من الدول الأخرى ، خاصة بعض الدول الأوروبية التي يشكل فيها ( رأس المال ) جوازاً وجنسية تجعل مالكه من مواطني الدرجة الأولى ، ولكن ( المافيات العراقية ) إضافة الى تجارتها الفريدة من نوعها فإنها تختلف عن المافيات العالمية بميّزتين أساسيتين أولهما : أن المافيات العراقية هي من تضع القانون في البلد ، بل هي التي شرّعت دستوره الجديد ، وهذا يعني أن القانون والقضاء والشرطة في جيب تلك المافيات ، لذلك فهي مافيات قانونية ، والميّزة الثانية ، أنها ( مافيات مُنتخبة ) أي أنها ( مافيات شرعية ) جاءت وفقاً للنظام الديمقراطي الجديد الذي بشّرت به الولايات المتحدة الأمريكية في العراق ، وهذا يعني أنها مافيات تمتلك من الغطاء الدولي مالا يمتلكه أي نظام سياسي سواء كان مُنتخباً أو جاء عن طريق الانقلابات العسكرية الدموية ، وإذا كان المشهد العنفي في العاصمة بغداد يجعل التركيز الإعلامي شبه غائب عن عمل تلك المافيات وتجارتها في العاصمة ، لان الإعلام المحلي والعربي والعالمي مُنشغل بالتراجيديا الدموية والموت المجاني ، فان صورة المشهد الذي نتحدث عنه تتضح أكثر كلما نزلنا باتجاه الجنوب على اعتبار أن غرب العراق من المناطق الملتهبة أيضاً وشماله له وضعه الخاص ، وفي الجنوب هناك أجواء مثالية تصلح أن تكون أنموذجاً لـ ( المافيات الحكومية المُنتخبة ) ، فقد قدّمت ( العملية السياسية ) خدمة كبيرة لتلك المافيات حينما جعلتهم في صدارة المناصب الإدارية والأمنية في تلك المدن المُنهكة أصلاً ، وفرضوا أنفسهم في الممارسات الديمقراطية عبر الترغيب والترهيب الذي مارسوه بواسطة ميليشياتهم المُسلحة ، أو إعادة إنتاج الخطاب الديني بطريقة تجعل من المواطن البسيط مُخطئاً أمام الله ، بينما جعلوا من ( الحق الإلهي ) شرعة تمكّنهم من الاستحواذ على تلك المناصب فهم ( لا ينطقون عن الهوى ) وكل فعل من أفعالهم قانون إلهي لا يمكن خرقه أو تجاوزه ، والعدد الأكبر من تلك المافيات منحدر أصلاً من الريف أو القرى المحيطة بمدن الجنوب حيث الأمية ، والقيم القبلية القائمة على التعصب ، والتمسك الخرافي بالدين ، وقيم الرجولة المُجسّدة بقتل الآخرين لأتفه الأسباب ( لا تستغرب إذا نشبت معركة بين عشيرتين من أجل ساقية ماء وراح ضحية تلك المعركة العشرات من الشباب بين قتيل وجريح ) ، أما الجزء المدني ( أبناء المدينة ) من تلك المافيات فهم من أنصاف المتعلمين أو الفاشلين دراسياً ، أو ينحدرون من عوائل مُصابة بعاهات إجتماعية معروفة في مدنهم ، أو ممن تربوا في تنظيمات ( حزب البعث المُنحل ) وحصلوا على شهادات عليا عبر معدلات خرافية جاءت عن طريق ( أنواط الشجاعة ) و ( شهداء القادسية ) و ( الاتحاد الوطني للطلبة ) وأصبحوا – بعد سقوط الدكتاتور – مناضلين في ( الأحزاب الوطنية ) التي لم تكن تمتلك قواعد شعبية بحكم معارضتها خارج العراق ، فكان أن اعتمدت على هذه النماذج في تكوين قواعدها الشعبية التي دخلت بواسطتها الى الانتخابات الديمقراطية وحصلت على مقاعد ليست قليلة في مجلس النواب ، والأفدح من ذلك أنها استحوذت على جميع المقاعد في مجالس المحافظات ، مقصين الشخصيات المستقلّة عن الانتماءات الحزبية ، والشخصيات الليبرالية ، بل حتى الشخصيّات الإسلامية التنويرية المستقلّة في تلك المدن ، مستحوذين على دوائر الدولة خاصة الخدمية والأمنية التي تُخصص لها المبالغ المالية الطائلة عبر ما اصطلح عليه بـ ( إعمار الأقاليم ) ، ولان الإعلام لا ينشط في مدن الجنوب العراقي مثلما ينشط في العاصمة والمناطق الساخنة ، لان الإعلامي الآن أصبح يبحث عن عدد القتلى ، والجرحى ، والأحزمة الناسفة ، والسيارات المفخخة ، والعبوات الناسفة ، فهي مواد دسمة لمقدمات نشرات الأخبار العراقية والعربية والعالمية ، فان أولئك يعملون بحريّة بعيداً عن أضواء الفضائيات والإعلام المكتوب الذي رغم وجود إعلاميين مغامرين فيه لم يستطع أن يكشف حقيقة تلك المافيات وعملها مع تقديمه لعدد من الإعلاميين الذين راحوا ضحية فضحهم لتلك المافيات ، بينما إرتضى الآخرين موقف الحياد خوفاً ، أو قبولاً بالأمر الواقع ، بل أن ما زاد الطين بلّة أن بعض تلك المافيات سيطرت على الصحف المحلية والتلفزيونات المحلية وجعلت من بعض الإعلاميين ( موظفي خدمة ) لديهم يُسبحون بحمدهم ويثنون عليهم ، حيث تبوأت أسماء طارئة لا علاقة لها بالإعلام مواقع مهمة في إدارة الصحف والتلفزيونات المحليّة و إعلام المحافظة أو إعلام مجلس المحافظة أو إعلام الدوائر الحكومية ، بينما يُتهم كل إعلامي مستقل حريص على وطنه بتبعيته لأزلام النظام السابق ، وهي تهمة جاهزة يمكن أن تودي بحياة الإعلامي عبر عناصر الميليشيات العمياء التي تتنفس شهوة القتل كما تتنفس الهواء ، والاهم في ذلك أن تلك المافيات بدأت بسن قوانين وتعليمات محليّة تمنع الإعلاميين من البحث والتقصّي في الدوائر الحكومية أو الأماكن العامة ، ناهيك عن تجريد الإعلامي من وسائله المهمّة التي يقوم بواسطتها بأداء عمله كالكاميرا وجهاز التسجيل عند الدخول لأي مرفق خدمي ، ومالم يحصل الإعلامي على إذن من تلك المافيات بالعمل لن يشفع له تخويله الرسمي من قبل الفضائية أو الجريدة أو القناة الإعلامية التي يعمل فيها ، وإذا أردنا أن نتحدّّث بلغة الوقائع والأرقام سنجد أن كل إعلامي في الجنوب العراقي يمتلك من القصص والأرقام ما يجعل منه أنموذجاً فريداً للقمع الإعلامي في العالم ناهيك عن الضحايا الذين ذهبوا شهداء المهنة ، ولهذه المافيات ذيول ( سماسرة ) تمتد في كل مكان تمنع الحديث في الأماكن العامة والمقاهي وتمارس نوعاً من سلطات ( محاكم التفتيش ) فهي تحجز في سجون خاصة ، وتجلد من يخرج عن نظامها العام بإقامة حفلة زفاف أو غير ذلك من الممارسات التي تدخل في نطاق الحريّات الفردية ، بل إنها تعزل مدراء الدوائر الحكومية وتستبدلهم بآخرين أكثر إنقياداً لهم ، ومن تثبت عليه تهمة الرشوة أو الفساد الإداري أو المالي أو الاختلاس يتم ترقيته الى منصب أعلى كأن يتحوّل من معلم مدرسة متفرّغ للعمل في المحافظة الى مدير إعلام في أحد الوزارات ، أو من معاون محافظ الى مدير عام في وزارة سيادية وهكذا يتم بناء الصرح العالي لهذه المافيات عبر ( دولة القانون ) ، ولو حاولنا مراجعة تصريحات مسؤولي هذه المافيات التي سيطرت على الجنوب العراقي منذ ثلاثة أعوام في الصحف والتلفزيونات وجمعنا قيمة المبالغ المُعلن عنها لإعمار الجنوب سنجدها مبالغ خرافية تكفي لإعمار نصف قارة أفريقيا ، أما إذا قارنا ماهو متحقق فعلا من تلك المشاريع بحجم المبالغ المرصودة ، فسنجد أن الأوضاع الخدميّة قد إزدادت تدهوراً ، وأن تلك المدن على صعيد المعمار لم تشهد إلا تناسلا لأحياء الفقراء في ما يُطلق عليه بـ ( أحياء التنك ) أي ( أحياء علب الصفيح ) التي بدأت تنتشر على أطراف المدن الجنوبية في حين إتسعت ثروات تلك المافيات بشكل مذهل لتشمل شراء أحياء كاملة في تلك المدن ، وتحاول تلك المافيات أن ( تشرعن ) عمليات الاستحواذ على تلك الأموال عن طريق الحصول على نسب من مقاولات الإعمار التي يتم إعطائها لشركات محلية لا تبتعد في انتماءاتها عنهم فتحصل على 5% أو 10% أو 15% من قيمة تلك العقود ، وقد ذكر لي مهندس في احد المدن الجنوبية أن عضواً في مجلس محافظته طلب منه نسبة 5% من مبلغ المقاولة المرصودة لبناء أقسام داخلية للطلبة عن طريق ( سماسرة ) مجلس المحافظة من أجل أن ترسو عليه المقاولة ، وحين سألته عن قيمة ألـ ( 5% ) ، أخبرني أنها تبلغ 97 مليون عراقي ، وهذا المثال أنموذج بسيط لعمليات نهب كبيرة تتم في محافظات الجنوب من قبل المافيات الحزبية التي تتستر بالدين وتعتبر أعضائها ( مُنزّلين من السماء ) وأصحاب ( حق جهادي ) قاوموا عبره الدكتاتور الذي سقط بيد ( المارينز ) الأمريكي ولم تُسقطه ميليشياتهم . يقينا إن هذا البناء الهش لما يُصطلح عليه بـ ( العراق الجديد ) الذي تعبث فيه المافيات بميليشياتها المسلحة ، وبحقها الدستوري ، وبشرعيتها الديمقراطية ، لن يولّد إلا نظاماً سياسياً مشوّهاً لا يزيد المشهد الدموي في العراق إلا سوءً ، ولن يزيد المواطن البسيط إلا إفقاراً سيجعله يحن الى أيام الدكتاتورية ( والمواطن العراقي مجبول على الحنين للماضي ) ، ويحلم بـ ( البطاقة التموينية ) التي كان يقطّرها الدكتاتور عليه ، ويتوق الى ( الأمان ) حتى لو كان وسط حروب عبثية يعتدي فيها الدكتاتور على جيرانه وتُحصد فيها زهرة شباب الوطن ، فالعراقي مستعد أن يدفع عمره من أجل أن يعلم من أين يأتيه ( الجلاّق ) ، أي الركلة ، فقد تعددت الركلات دون أن يعرف مصدرها في ( العراق الديمقراطي الفيدرالي التعددي الموحد ) ...........
# ياسر_البراك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دولة الميليشيات
المزيد.....
-
تحليل للفيديو.. هذا ما تكشفه اللقطات التي تظهر اللحظة التي س
...
-
كينيا.. عودة التيار الكهربائي لمعظم أنحاء البلاد بعد ساعات م
...
-
أخطار عظيمة جدا: وزير الدفاع الروسي يتحدث عن حرب مع الناتو
-
ساليفان: أوكرانيا ستكون في موقف ضعف في المفاوضات مع روسيا دو
...
-
ترامب يقاضي صحيفة وشركة لاستطلاعات الرأي لأنها توقعت فوز هار
...
-
بسبب المرض.. محكمة سويسرية قد تلغي محاكمة رفعت الأسد
-
-من دعاة الحرب وداعم لأوكرانيا-.. كارلسون يعيق فرص بومبيو في
...
-
مجلة فرنسية تكشف تفاصيل الانفصال بين ثلاثي الساحل و-إيكواس-
...
-
حديث إسرائيلي عن -تقدم كبير- بمفاوضات غزة واتفاق محتمل خلال
...
-
فعاليات اليوم الوطني القطري أكثر من مجرد احتفالات
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|