|
من دفتر الهجرة، المغادرة
محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 6464 - 2020 / 1 / 13 - 10:49
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
قمت بالكشف الطبي عند طبيب السفارة الأمريكية كإجراء أخير. معي تأشير الدخول إلى الولايات. لم يبق إلا تأشيرة الخروج من مصر. لحسن الحظ، أحد الذين سبقونا في الهجرة، قام بطبع كراسة إرشادات للمهاجر، بها خطوات الحصول على تأشيرة الخروج من مصر. كانت تباع بملغ 25 قرشا عند باعة الصحف.
بدأت رحلة المتاعب. دوخينة يا لمونة والإنهاك الآدمي غير المبرر. الروتين الحكومي في قمة أوجه. تماما كما جاء في تذكرة داود. طلبات من هنا وهناك. شهادة إعفاء من الجيش، وإخلاء طرف من جهات ومكتبات عامة لم أدخلها قط.
ترجمات وموافقات. من مجمع التحرير، ومن الوزارات والجامعة والكلية والسفارات وجهة العمل. ترجمات للشهادات وموافقات للكتب المرافقة من دار الوثائق بالفسطاط. لم يبق إلا شهادة من عم عبده البقال بأنني لم أكن أششك منه.
طوابير أمام الشبابيك تنتهك آدمية البشر. الطابور أمام وزارة الخارجية كان نازل من الدور الثاني بمبنى السفارة، إلى الحديقة، ثم الرصيف في الشارع، ثم كورنيش النيل وماشي لغاية النفق.
صدق أو لا تصدق، موظف واحد كان يخدم هذا الطابور. بالطبع مجهد وعرقان وحالته بالبلى. أعصابه فالته وعمال يتخانق مع الكل بدون سبب. لم يكن كل الطابور من المهاجرين، كانوا طلاب تأشيرة خروج للعمل في الدول العربية والحج والعمرة، أو لسبب آخر. بالطبع مصاريف هنا ودمغات هناك وتعالى بكرة يا محترم. الله يكون في عون المستثمر الجاد.
يا سيدي لو ترك الأمر لأهل الكفاءة، لا أهل الثقة من العسكريين والمحاسيب، لوجدنا حلولا كثيرة ونموذجية لهذه المشاكل. الطابور أو الاصطفاف أو الرتل، له نظرية في العلوم الرياضية. تدرس نمط القدوم والوصول إلى آخر الطابور ومدة الانتظار وزمن الخدمة.
الهدف من استخدام مثل هذه النظريات هو تقديم أفضل خدمة في أقصر وقت. هذا هو ما نعنيه بسباق الزمن أو السبق الحضاري. العمر لا يجب أن يبدد ويضيع في الانتظار في الطوابير.
أي وقت يمكن توفيره لأخيك الإنسان "الهوموسيبين"، هو زيادة في عمره. حسنة قد تزيد ميزان حسناتك، أو تخفف من البلاوي اللي عملتها في حياتك.
عندما تجعل الرجل أو المسن أو الأرملة تفقد يوما أو إثنين أو أسبوع لكي تبصم ورقة، أو لكي تحصل على ختم النسر، أنت تسرق عمرها. هذه جريمة، يعاقبك الرب عليها.
تقول لنا نظرية الاصطفاف هذه، أنه في حالة طابور وزارة الخارجية، الحل يكون في تعدد شبابيك الخدمة مع وجود طابور واحد. هذا أفضل من عدة شبابيك وعدة طوابير. لأن متوسط زمن خدمة الفرد في الحالة الأولى، أقل من الزمن في الحالة الثانية. هناك برهان رياضي على هذه المقولة.
الغرب يدرس كل شئ، سواء يخطر أو لا يخطر على بالك. فمثلا، يدرس نمط تكدس وازدحام السيارات، وترادفها وزمن سيرها على الطرق السريعة. تساهم هذه الدراسات في حل مشاكل المرور ومنع الاختناقات.
وتستخدم أيضا نظرية الاصطفاف في تحسين أداء الكمبيوتر، ومن ثم تحسين الخدمة للعميل الواقف أمام الشباك. إذا لطعتني وضيعت وقتي عند صرف شيك مصرفي بسبب بطء الكمبيوتر، سأقوم بتغيير البنك. هكذا ببساطة.
أخيرا استوفيت كل الطلبات وتخطيت كل العقبات ولم يبق سوى تذكرة السفر إلى نيويورك مع دعاء الوالدين. سألت الدكتور شفيق أسعد، كان مدرسي بالجامعة وزميلي في العمل: تفتكر يا دكتور شفيق، قراري بالهجرة سليم؟" أجاب الدكتور شفيق بسؤال مضاد: "هل لديك ثلاجة أو سيارة؟" إجابتي كانت ب: "لا". رد الدكتور شفيق: "هناك سيكون عندك ثلاجة وسيارة" ثم ضحك وهو يقول: "مافيش عندهم قلل للشرب".
كانت المؤسسة التي أعمل بها تستعد لإدخال الكمبيوتر والنظام الآلي لخدمة شركات التأمين. أنشئ القسم وبدأوا يبحثون عن موظفين لشغل المناصب. أنا كنت، قد أكملت كورس كمبيوتر مكثف في الجامعة الأمريكية مدته 6 شهور.
طلبني الدكتور صلاح، مدير قسم الكمبيوتر الجديد، وعرض علي الانتقال إلى قسمه، ونصحني بصرف النظر عن موضوع الهجرة. ليه الغربة يا ابني؟ مستقبلك هنا أحسن. قلت له لقد سمعت أن المؤسسة سترسل 6 أفراد في بعثة إلى إنجلترا لدراسة الكمبيوتر، فهل تضمن لي أن أكون أحد أفراد هذه البعثة؟ أجاب بسرعة وبكل ثقة: "لا".
البعثة التي أرسلت لانجلترا لدراسة الكمبيوتر (النظام الانجليزي)، تم اختيارها كالآتي: الآستاذ وهبة، مدير قسم من شركة مصر للتأمين، لم يبق له سوى 6 شهور في الوظيفة، بعدها يحال للمعاش لبلوغه السن القانونية. يعني حيرجع من البعثة على المعاش. عظمة على عظمة. البعثة له كانت بمثابة مكافأة ترك خدمة.
الخمسة الباقون، جاءوا كلهم من وزارة الاقتصاد، لا علاقة لهم بالتأمين أو بالكمبيوتر من قريب أو بعيد. لا امتحان قدرات ولا مقابلة شخصية ولا شئ غير الواسطة والمحسوبية.
عرفت الآن لماذا رفض رئيس القسم بدون تردد التحاقي بالبعثة، الأمر كان أكبر منه وخارج عن يده. هذا الرفض قد أعطاني دفعة قوية نحو الخارج والهرب من السفينة قبل غرقها.
هذه الحكاية، ذكرتي بأخرى مشابهة لها. بعد استلامي وظيفتي بمؤسسة التأمين عام 1963م، تم تعيين 4 موظفين عن طريق القوى العاملة. هم خريجي تجارة القاهرة قسم تأمين. في أحد الأيام، وجدتهم يجلسون ساهمين يبكون من الظلم والتمييز الواقع ضدهم.
عندما سألت عن الحكاية، علمت أن هؤلاء قد تخرجوا من الجامعة بتفوق وكانوا من أوائل الدفعة. لكن الكلية لم تقبل أيا منهم في وظيفة معيد، بالرغم من تفوقهم الدراسي.
قامت الكلية بتعيين من هم دونهم في التقدير العام. سبب الرفض الظاهري هو أنهم تخصص تأمين، ونحن لا نحتاج إلى تأمين، لكن السبب الحقيقي كان لأنهم أقباط مسيحيون.
من يتعصب للدين الإسلامي قد يكون غير ملتزم دينيا على الإطلاق. وقد يتعصب الإنسان لعائلته أو لنادي كرة قدم أو لحزب سياسي أو لجنس أو لبني وطنه أو لشئ آخر.
أذكر في بداية حياتي الوظيفية، أن جامعة القاهرة قد أعلنت عن برنامج لدراسة الماجستير في التخطيط مدته سنتان. شرط التقديم أن تكون من خريجي كلية الهندسة أو العلوم قسم رياضة بحتة.
تقدمت بطلب وانتظرت نتيجة القبول. بعد فترة قصيرة أعلنت الجامعة عن أسماء المقبولين. لم أجد اسمي بينهم. لاحظت من كشف المقبولين، وكان عددهم 25 طالبا، أنهم جميعا من خريجي كلية الهندسة جامعة القاهرة.
لا أحد من جامعة عين شمس، أو جامعة الاسكندرية أو جامعة أسيوط. مكان دراسة الماجستير كان جامعة القاهرة، على أيدي أساتذة من جامعة القاهرة، إذن لابد من محاباة خريجي جامعة القاهرة. التعصب والتمييز هنا كان لشئ آخر غير ديني، ولا دخل له بمسلم أو مسيحي.
لا امتحان قدرات، أو اختبار شفهي أو تحريري، ولكن تعصب أعمى ومحاباة غير مبررة. كيف تفسر هذا غير أنه دلائل على أمراض اجتماعية خطيرة، تنخر في عظام مجتمعات بائسة، تنتحر وهي لا تدري على أيدي أبنائها.
التحيز والتمييز مرض اجتماعي لا شك في ذلك. يزيد التوتر عند من يلاقونه. قد يؤدي إلى مشاكل بدنية وعقلية. منها القلق والاكتئاب وارتفاع ضغط الدم. مشكلة التمييز حتى لو كان لأسباب زائفة، قد يؤدي إلى فقدانك الثقة بنفسك وبمجتمعك.
التمييز قد يكون ضارا حتى لو لم تكن هدفا له مباشرة، يكفي أن تكون مصنفا من مجموعة يمارس ضدها التمييز والعنصرية. مثل الأقباط أو السود أو كبار السن أو النساء أو الفقراء أو المدنيين بالنسبة للعسكريين، أو المصريين والفلسطينيين عند الكفيل في الدول العربية.
الدول الكبيرة تضع قوانين صارمة لحماية الناس من التمييز في السكن والعمل والحانوت والمطعم. لكن في بلادنا السعيدة، لا توجد مثل هذه القوانين.
بدأت في الاستعداد للسفر. ملابس جديدة وبالطو. اشتريت تذكرة ذهاب فقط، من القاهرة إلى نيويورك، على شركة "تي دبليو إيه" الأمريكية. حددت ميعاد السفر ب 29 نوفمبر 1969م. وبدأ العد التنازلي، الساعة تدق وقلبي يدق.
لم يبق غير الاستقالة من العمل وتوديع الأهل والأصدقاء وانتظار ميعاد السفر. سألت أحد الزملاء عما إذا كان يعرف أحد المهاجرين إلى نيويورك، يمكن أن أسافر معه. فأجاب أنه يعرف صديقا له يعيش في حي شبرا يستعد للسفر إلى نيويورك، وأعطاني عنوانه وتليفون أقرب بقال لبيته.
ذهبت لمقابلة "مجدي"، المهاجر مثلي إلى نيويورك، فوجدته قد حجز ميعادا للسفر قبلي بأسبوع. رجوته تغيير ميعاد السفر حتى يمكن أن نسافر معا.
وافق الرجل بكل مروءة وكرم. وكانت موافقته هذه، مثل يد مدت لغريق. لم أكن أجيد الإنجليزية ولم أكن أعرف أحدا هناك في نيويورك، ولم يكن معي غير 200 دولار فقط لا غير، لا تكفي النزول في لوكاندة ليوم واحد.
بعد ذلك، قدمت استقالتي. فقام زملائي بالعمل بدعوتي إلى حفل عشاء أقاموه تكريما لي. المكان كان مطعم مشهور بالأزهر، أعتقد أنه "الدهان". ألقى بعض الزملاء بضع كلمات وداع، لزميل عاش معهم 6 سنوات.
وللحديث بقية فإلى اللقاء
#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من دفتر الهجرة، لماذ؟
-
باثر بانشالي (أغنية الطريق)
-
سارق الدراجة
-
زوربا اليوناني
-
الشفاء بالإيحاء
-
الرفق بالحيوان
-
أرشميدس (287-212ق.م.)
-
تعاليم أبكتيتوس الرواقية
-
رواية 1984 لأورويل
-
مزرعة الحيوانات لجورج أورويل
-
رحلة إلى بيت جدتي
-
الديموقراطية هي الحل
-
حرية الرأي يا قوم
-
رينيه ديكارت
-
هوراس – الاعتدال
-
يوم جميل من الزمن الجميل
-
نظام نقر الدواجن
-
ثيسيوس بطل أثينا الإنسان
-
السر في بير
-
غباوتك حتودينا في داهية
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|