|
لا أدعم جيش بلدي
مهدي خالد
الحوار المتمدن-العدد: 6458 - 2020 / 1 / 7 - 10:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بفيلم "الممر" تغازل الجهة المنتجة الوعي الجمعي للمواطن المصري القائم علي أسطورة "قدسية الوطنية" ، فيخرج كلام ضابط الداخلية الذي جسده شريف منير ، يعبّر عن أن هذا الشعب رغم كل ما يلحق به من أزمات ومصائب تتعلق بأزماته الإجتماعية والسياسية والإقتصادية إلا أنه شعب "ابن نكتة" ، يحول تلك المأساة إلي مادة هزلية للسخرية العامة ، ويفصلها ويعزلها عن سبب أزمته الحقيقية ، تلك واحدة من الدعايا الناجحة للجهات المنتجة التي تعبّر عن توجّه الجهات الحاكمة ومنطقها ، بأن تترك الأزمة ومسبباتها لصالح شكل من أشكال التعاطي ، أقل ما يقال عنه أنه منحط ودونيّ وتغييبي ليس أكثر. في مشهد آخر يجمع الضابط ابن الضابط ابن الضابط كتعبير عن أسمي تشرّب للوطنية والعسكرية ، مع جندي يترك حبيبته وأحلامه وحياته كتعبير آخر عن الوطنية ، مع جندي آخر عصامي فقير من الصعيد كشكل ثالث عن الوطنية ، تُزاح الظروف الموضوعية والتفاوتات الطبقية والإمتيازات الإجتماعية ، كل هذا يُزاح ويحجب لصالح بروزة فكرة واحدة أسمي وهي أيضا : الوطنية!
الوطنية ليست بالشيء المطلق ، أو ليست دربًا من دروب الإيمان ، في عام ٦٧ ، كان الصراع العربي الإسرائيلي مرهون وجوده بوجود محفزات الصراع نفسه ، لم يكن مجرد دفاع عن أرض مستلبة ، بل مشروع شعب يجابه المخططات الإستعمارية وتبعية القرار والسيادة والتبعية المالية والوجود الصهيوني والرجعية العربية ، كانت الوطنية التي قامت عليها دولة يوليو ٥٢ لها مشروعيتها في قلب مشروع تحرر قومي. أما وطنية دولة يوليو ٢٠١٣ ، فهي علي العكس مما سبق ، هي تؤمن وتؤبد المخططات الإستعمارية وتبعية القرار والسيادة والإقتصاد والوجود الصهيوني وكل ما هو رجعي تماما ، دولة السيسي ، الحليف الأكثر موثوقية لحكومة الإحتلال الصهيوني بحسب تصريح نتنياهو.
لي كثير من الأصدقاء علي قيد الإستدعاء والإحتياط ، علي ذمة القوات المسلحة المصرية ، لا يعرفون عن الحرب ولا الصراع شيء ، كل ما يعنيهم ، بماذا ستؤثر احتمالية الحرب وتأثيرها علي حياتهم؟! بماذا ترتبط بحياتهم؟! في الوقت الذي نقع فيه تحت طائلة الزخم الإيدولوجي الذي تمارسه الدولة من خلال دعاياها لحروبها الأزلية ، الحرب علي الإرهاب مثلا ، وكأنها حقيقة بقاء ومشروعية كل حكومة ، هناك حرب ، فلنصطف معًا لمواجهة العدو ولكن ، الحرب علي الجبهات الأيدولوجية تختلف عن الحرب علي الجبهات العسكرية ، بمعني أنه قد يكون التكتيك السليم في الصراع العسكري إختراق أضعف المواقع قُدرة علي المقاومة حتي تتمكن من إختراق والسيطرة علي أقوي المواقع ، ولذلك فالإنتصار العسكري ذو قيمة دائمة محدودة بمحدودية السيطرة. بينما في الصراع الأيدولوجي ، فهزيمة العناصر الأضعف والأتباع الطفيليين ليس لها أهمية تُذكر ، فالصراع لن يُدعي صراع إلا بمجابهة أبرز وأقوي الخصوم. فلن تكون هناك أية إمكانية لإنتصار ، إلا إذا أثبت الطرح قدرته علي مُجابهة المُدافعين الأقوي عن الأفكار القديمة المُراد تثويرها.
لن أناقش هنا مشروعية الحرب وتفاصيلها ، بل أود التطرق لما هو أهم ، وما هو بارز في واقعنا المُعاش ويُجري تعميتنا عنه ، انها الفكرة الإيدولوجية الوهمية المؤسسة لكل الحروب ، انها الوطنية المبنية علي اللامُبالاة والإستعباد ، الوطنية السابقة الذكر التي تلغي كل شيء وكل مصلحة وكل تناقض وكل واقع لصالح ما هو مجرد ، لتخرج علينا جُمل وأشعار من العيار الثقيل : أنا أدعم جيش بلدي مهما كان هناك خلاف ، أنا أدعم حكومة بلدي مهما ومهما ومهما ....!!
يتحدث آلان دونو في كتابه "حكم التافهين" بأن : "الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين. جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا. بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام... وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل. فلا فصل بينهما".
نفس فكرة "الحرب علي الإرهاب" كانت بمثابة الكتاب المقدس لمرحلتنا التاريخية التي بدأت مع "سيسي ٣ يوليو ٢٠١٣" ، السلطة التي كانت تبحث عن شرعية لبقاءها ووجودها ، ولا شرعية غير شرعية الحرب ، فكانت الحرب علي الإرهاب ، شيء علي غرار "حرب الكل ضد الكل" عند توماس هوبز ، ولكن عند هوبز كان الإفتقاد للدولة والتنظيم الإجتماعي والضابطي هو ما يؤجج تلك الحرب ، ويجعل من كل إنسان ذئب لأخيه الإنسان ، وأصبحت الحرب الآن تُشنّ بشكل يومي ، في كل قرار حكومي ، في كل قمع وتضييق علي الحريات ، في كل خصخصة للمال العام وكل تسريح وتشريد للقوي العاملة ، في الإقتطاع من ميزانية الصحة والتعليم والدعم الحكومي والإنفاق علي مشاريع الربح العاجل ، في تهميش المواطن وعزله إجتماعيًا وسلبه كافة حقوقه وممارساته من حقه في العمل لحقه في الكسل ، حقه في الحيازة والأمان. الحرب علي الإرهاب التي جعلت السلطة هي الضابط الأوحد ، والإرهاب هو كل ما هو غير السلطة ، من رأي وفكر ووجود ، لتتحول تلك الصيغة من كونها فزّاعة وجودية إلي قانون أخلاقي واجتماعي يحدد الحياة نفسها ويلزم الأدوار فيها ويستبعد كل الرؤي لصالح الرؤية الواحدة ، النافذة والبصيرة ، ويجنّب كل الأزمات والتناقضات الإجتماعية والفجوات الطبقية الرهيبة بين غالبية الشعب والسلطة الحاكمة لصالح فكرة وطنية مثالية ساذجة لا تخدي سوي المسيطرين.
ولتكن الجملة الصحيحة : أنا لا أدعم جيش بلدي لإنه ليس خلاف فقط ، بل حرب ، حرب استعباد واستبعاد ، مارَس فيها الجيش من خلال مؤسساته القمعية والإقتصادية سطوًا مسلحًا علي الحياة بأكملها ، هذا الاستعباد حققه الجيش علي مستويات عدة ، أول مستوي منها توافر العمالة الرخيصة التي يحققها بمعادلة التجنيد الإجباري ليكونوا كتائب خدم لرأسمال القوات المسلحة ومستخرجي أرباح كبار الضباط والجنرالات ، مستوي ثاني هو اللاشفافية واللاعدالة واللاتنافسية التي يخضع الجيش لها السوق من خلال تدخله حيث مثلما ذكرنا هو الضابط الأوحد للحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية ، مستوي ثالث للاستعباد هو التطويع الإيدولوجي للعبودية من خلال احتكار الآلة الإعلامية من جهة ، واحتكار التواجد في الشارع بمنافذ البيع الثابتة والمتحركة في كل ميدان التي يهدف من خلالها لا ضبط والتحكم في السوق وحده ، بل في جماهير السوق والسيطرة عليهم ، لتظهر في الشوارع بكونها كمائن بوليسية من جهة ونوافذ خدمية من جهة وآلة ربحية من جهة أخري ، ليحكم سيطرته الشاملة علي جوانب الحياة ، أمنيًا وسياسيًا وإجتماعيًا وإقتصاديًا ، وهنا أصبح الجيش عبارة عن شركة كبيرة ، يبيع ويزرع ويورّد ويعالج ويحتكر ويتاجر ويبني عقارات وطرق وكباري وفنادق ويبيع لحمة وسمك وتموين وأسمنت ولبن أطفال وخُضرة وطماطم وغسالات وبوتاجازات ويعمل أفلام ومسلسلات وأغاني وفرق كورة. بالنهاية اننا لا نخضع لحكم عسكري ، بل مجتمع برمّته يجري عسكرته ، من المكرونة حتي النفط ، في المسجد والمدرسة والمصنع ، علي شاشة التليفزيون وقعدات المقاهي ، الإقتصاد للقوات المسلحة والمجتمع للبوليس وأمن الدولة ، هذا هو مجتمعنا.
#مهدي_خالد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|