|
وجهة نظر حول النموذج التنموي الجديد في المغرب
عادل امليلح
الحوار المتمدن-العدد: 6456 - 2020 / 1 / 5 - 21:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعيش المغرب اليوم على وقع دعوات رسمية لبناء نموذج تنموي جديد، بعدما أبان النموذج الحالي عن محدوديته سواء على الصعيد الاقتصادي (تباطؤ وثيرة نمو الاقتصاد الوطني أقل من 3% وتزايد ثقل المديونية أكثر من 60% من الناتج الداخلي الخام.. و كذلك تزايد حدة ظاهرة الريع، وضعف دينامية المقاولات الوطنية...) أو على الصعيد الاجتماعي (الفقر والحرمان والبطالة...)، ونظرا لتعدد الاشكالات وتداخل العوامل، كان لابد من البحث عن مخرج جديد من شأنه تجاوز الإختلالات الراهنة، ويتمحور أساسا حول إيجاد بدائل تنموية كفيلة بخلق الثروة من خلال الاستثمار في القطاعات المنتجة، والرفع من التقائية تنافسية الإقتصاد الوطني والمقاولات خاصة المبتكرة والمصدرة، واعادة توطين محاور التنمية على أساس الرأسمال اللامادي المتمثل في المؤهلات البشرية والثقافية والتراث.. وتثمينه حتى يتسنى الإنتقال من منطق التقليدي القائم على التقليد، إلى منطق عصري قائم على الابتكار والابداع، أو ما يسمى باقتصاد المعرفة، وخلق الثروة يقتضي توزيعها العادل، بمعنى ادق وجود آليات قانونية (تبسيط المساطر القانونية وتفعيل مقتضيات دستور 2011 ودعم الإختيار الديمقراطي كضرورة ذات راهنية) وتنفيذية لمحاربة الفساد والتصدي لظاهرة الريع بمختلف أشكاله.. وكذا النهوض بالمؤسسات المغربية وتفعيل ادارة القرب والادارة المواطنة واعادة توطين السياسات العامة في اتجاه تعميق اللامركزية واللاتمركز.. كمنهج معاصر في الإدارة والتسير والتدبير الناجع. ثم أن يناط بتحقيق التوازنات المجالية والتصدي الإختلالات السوسيو اقتصادية.. يشكل دستور 2011 خطوة مهمة في المسار السياسي الوطني، خاصة مع التنصيص على ضمان الحقوق الأساسية وتوسيع فضاء الحريات الفردية والعمل المدني وتبني الديمقراطية التشاركية واقرار المساواة... بالإضافة إلى تبني الإختيار الديمقراطي وجعله بسلطة الدستور إحدى الثوابث الأربع للمملكة، زد على ذلك الإرتقاء بالجهة الى مؤسسة دستورية، في حين اتجه المغرب الى الإنخراط في منظمة التجارة العالمية وتعزيز اتفاقيات التبادل الحر، واحداث اصلاحات اقتصادية هيكلية خاصة تحرير سعر الصرف "الدرهم" وتجديد مجلس المنافسة.. وإعطاء نفس جديد للتعاون جنوب-جنوب، كنتيجة لسياسة المغرب في توسيع دائرة الشركاء الاقتصاديين.. اذن يستشف أن هناك حضور التصور وللفعل معا، لكن سرعان ما تعالت الصيحات مؤخرا لضرورة بناء نموذج تنموي جديد.. إذا كان التصور الذي براد بناء هذا النموذج من خلاله والقائم على خلق الثروة وتوزيعها العادل، فليس معناه توفر القدرة على بلورته، وتغيير عناصر التنمية لا يعني هو الآخر تغيير المنهجية التنموية، وبعبارة اخرى فان اشكالات التنمية في المغرب هي اشكالات منهجية ترتبط بطبيعة المقاربات النظرية، قبل أن تكون اشكالات عناصر التنمية "الرأسمال المادي و الرأسمال اللامادي". ونحن هنا سنسعى إلى كشف بعض من هذه الاشكالات المنهجية مستقرئين في ذلك بعض التمظهرات التي نعتقد أنها تتحكم وتحرك الفعل التنموي المغربي. فما هي هذه التمظهرات؟ وأين تتجلى الإشكلات المنهجية للفعل التنموي في المغرب؟ ثم كيف السبيل بنا لتجاوزها او على الاقل التقليل من آثارها السلبية؟ -من خلال استشفاف الخطاب الرسمي يتضح جليا أن الرهان الاقتصادي حاضر باعتباره المعطى الأساسي للنموذج التنموي، مما يعكس حتما الخلفية الإيديولوجية للنظام الاقتصادي المغربي، القائم على الإختيار الليبرالي، وبالتالي فالنظرة الليبرالية للتنمية تحضر بقوة، كما أن الإنخراط في نظام العولمة الاقتصادية، يحتم على الفاعل السياسي والاقتصادي جعل المسألة الإقتصادية في قلب أي تنمية.. والحال أن المسألة الإقتصادية ليست سوى رافد من روافد التنمية، ذلك أن التنمية تحيل إلى البعد الإجتماعي من خلال تجويد حياة المواطنين وتوسيع من حرياتهم ودائرة اختياراتهم، فقد تتحقق الوفرة الإقتصادية لكن دون أن يكون لذلك أيما أثر على الوقع الإجتماعي، والرهان الإقتصادي يخفي خلفه طموحات نخبوية في مساعي متزايدة لتركيز الثروة وخلق دوائر الهيمنة، صحيح أن النمو الإقتصادي يساهم في زيادة مستويات الدخل الفردي، والحد من ظاهرة البطالة، وتوسيع عرض الإستثمار العمومي، لكن يتحقق ذلك في سياقات سياسية محددة، في حين قد يعني انتاج الثروة التقليص من الإنفاق العمومي "التضخم، والخصخصة" وتوسيع دائرة الضرائب والرسوم على الدخل.. أكثر مما يعني خلق الثروة من خلال الإبتكار والبحث عن مصادر جديدة لذلك، كما يؤدي الرهان الاقتصادي إلى استنزاف الموارد الطبيعية وتزايد الضغط على البيئة، مما يطرح اشكالات عويصة على صعيد تحقيق التنمية المستدامة. وخاصة إذا كانت مساهمة الرأسمال اللامادي ثانوية في عملية إنتاج الثروة. ويبقى السؤال حول طبيعة الثروة المراد انتاجها، هل هي الثروة المادية بمفهومها المالي والنقدي؟ أم الثروة المعرفية والإجتماعية من خلال بناء مجتمع المعرفة وبناء الإنسان بعتباره أساس كل تنمية، فهو منها واليها؟ -ان المغرب وإن كان قد غير في واقع الحال الكثير من خطابه التنموي، وتبني المقاربات الجديدة في التنمية القائمة على البعد الترابي، والفعل التلقائي، والبعد المندمج.. فإنه رغم ذلك ظل في جوهره خاضعا لفكرة "اللحاق التنموي" باعتبارها منهجية خطية تنبني أساسا على تشخيصات معينة لواقع الحال بغية استشراف سقف معين للتنمية في أفق محدود زمنيا، مع المقارنة مع نماذج اقتصادية مختلفة، فهي عندما تتصور سقفا لإقتصاديات معينة، فإنها تتعاطى معها على أساس أنها هي الأخرى تتخذ مسارا خطيا، وبالتالي تعيد قراءة الأشواط التي قطعتها، وتحاول بلوغ سقفها بالإعادة إنتاج نفس الشروط وقطع نفس الأشواط، وحتى لو افترضنا ذلك، فكيف اذن الإقتصاد من حجم الاقتصاد الوطني أن يكون في نفس الخطية مثلا الإقتصاد التركي أو البرازيلي؟ هذا السؤال يتم تغييبه خاصة من طرف التقارير الصادرة عن المؤسسات المالية العالمية، والتي تريد اقناعنا بإمكانية قطع هذه الأشواط، والتي تقتضي تمويل ستكون هي مصدره في الأصل، فمعلوم أن الإقلاع التنموي للاقتصاديات الصاعدة والمندمجة، إرتبط في الأساس بسياقات تاريخية مختلفة تماما عن بعضها البعض، مهدت بشكل أو بأخر لحدوث طفرات اقتصادية تمثلت في قفازات نوعية نحو تحقيق الركب التنموي، وهذه السياقات تضبطها شروط موضوعية داخلية وخارجية للبلد المعني، أي أن التنمية فيه ليست الا انعكاس لتجربته التاريخية التي تبرز تفرده وتميزه، فلا يمكن الفصل بين توركيا (أتاتورك) وتركيا (اردوغان)، ولا بين فرنسا (نابليون وديغول) وفرنسا (ماكرون).. وعليه فكل تجربة تنموية تجد تفسيرها في التاريخ، أكثر مما تجده في أرقام كمية حول الناتج القومي والدخل الفردي.. كما أن للإرادة السياسية والإقتصادية هي الأخرى تلعب دورها، لأن هذه الأخيرة تلعب دورا حيويا في أي تنمية، فمعلوم أن سياسة أي بلد لها تأثير مباشر في التنمية، فمثلا تؤدي سياسات التحديث الشامل وتبني التصنيع، إلى حدوث طفرات عجيبة في ميزان القوى للبلد، خاصة في مجال تقسيم العمل الدولي، حيث يتم التحرر من فخ التخصص في الإنتاج الفلاحي وإنتاج الخامات باعتباره تخصص موطد للتبعية الصناعية والإقتصادية، كما أن بعض الاقتصاديات تستفيد من دورها في السياسات الخارجية بحيث تمتلك المقدرة على أن تكون فاعلة ونشيطة في النظام الدولي، وتستطيع فرض مصالحها وضمان الموارد الضرورية لصناعتها.. في حين يفتقد الإقتصاد المغربي إلى الميكانيزمات التي تؤهله للمنافسة الدولية في ظل طرح العولمة وتصاعد وطيس الحروب التجارية، وهو في الحقيقة اقتصاد دولة أكثر مما هو اقتصاد شعب، ويهيكله الريع وتغذيه بنيات إزدواجية، وكذا بنى تقليدية متوارثة من العصور الوسطى، مع غياب شبه كلي لصناعة وطنية، فالتصنيع لا يتحقق بمجرد توطين شركات أجنبية، وإستراد التكنولوجيا، بل في وجود صناعة وطنية ذاتية قوية ومبتكرة فهناك فرق شاسع بين التحديث الإسترادي والتحديث الإستراتيجي، وهذا لا يمنع من للإستفادة من تجارب الاخرين، لكن كضرورة لبناء تجربة ذاتية، ومن هذا المنطلق نعيد طرح السؤال، فهل خطية اقتصاد فلاحي-حرفي قوامه الريع والزبونية والإحتكار، هي ذاتها خطية إقتصاد صناعي-خدماتي تغذيه صناعة وطنية وتؤطره إرادة قوية في التقدم؟ والحال أن هناك بن شاسع بينهما، لذلك وجب التحرر من عقلية اللحاق إلى عقلية بناء تجربة تنموية ذاتية ومتفردة. -اشكالات ترتبط بالبنية السياسية ذاتها، ذلك انه لايمكن الفصل بين التنمية كفعل اقتصادي واجتماعي وثقافي.. عن الفعل السياسي والخلفيات التي تعتمله، كما أن البنية السياسية لأي بلد تشكل معطى أساسي لكل تنمية، فهل البنية السياسية القائمة في المغرب قادرة على بناء نموذج تنموي جديد كما تدعي؟ في المغرب هناك اتجاهان، اتجاه المركز الذي يرتبط بالسلطة العليا والدولة العميقة ويعرف اصطلاحا في المغرب "بالمخزن" وله جذور تاريخية إرتبطت بالتجربة التاريخية للبلد ويخفي خلفه تراكمات تقليدية مستمدة من هذه التجربة، فنظام البيعة وتأدية الولاءات وطقوس امارة المؤمنين، وكذا الإمساك بزمام الامور، كلها أشكال متوارثة، وباستثناء الإدارة التي توطدت مع المستعمر وتعززت بعد الاستقلال يبقى المركز في أساسه قائما على بنيات تقليدية على الرغم من الدعايات المروجة التي تسعى لصبغه بمفهوم "الدولة الحديثة، والدولة المدنية" وتمتد هذه البنية داخل المجتمع الحزبي والنقابي، كما تفرض وجودها من أعلى المستويات "سلطة الملك" إلى أدناها "المقدم والمريد"، والاتجاه الثاني معبر عنه في شكل تنظيمي جديد متمثل في الجهة والجهوية ذات الأسس اللامركزية الادارية والتي تشكل القاعدة، على عكس المركز الذي يشكل القمة، وعليه فالعلاقات الجدلية بين القاعدة اللامركزية والقمة الممركزة، تشكل معطى مهم لمسار التنمية في المغرب!! ولا نعني بالعلاقات الجدلية الإطارات المؤسساتية والادارية والقانونية.. وحسب بل القوى الخفية التي ترتبط وتحرك هذه الجدلية دون أن تتجلى، فليس معنى أن المركز يمتد الى القاعدة عن طريق الوصاية والاختصاصات القانونية، ولكنه يمتد ويتغلغل في البنيات الشعورية بحيث تتحول تلك البنيات اللامركزية "جماعات ترابية" الى مراكز صغرى تعيد بدورها إنتاج سلطة المركز حتى يصبح من الصعب التمييز بين ممارسة الجماعة الترابية وممارسة الدولة المركزية، إن القول بأن المخزن تخلى عن صلاحياته أو بعضا منها لصالح المصالح للامركزية المنتخبة، لا يترجم بما تم التنصيص عليه في القوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية "الجهات والأقاليم والعمالات والجماعات" وإنما في كون الاختصاصات المخولة لهذه الجماعات لا تواكبها المتطلبات المادية الكفيلة لممارسة صلاحياتها وكذلك تحول السلطات الوصية دون ذلك، وبالتالي فالإستقلال المادي والمعنوي المعبر عنه دستوريا، يبقى بعيدا عن الممكن، فأغلب الجماعات قاصرة على ممارسة اختصاصاتها الذاتية، وتلجأ في ميزانياتها إلى الإعتماد على أموال الدولة، وتزكيات الأحزاب.. بالإضافة إلى تكبيلها بمهام تسييرية تبتلع ميزانياتها وتمنع عنها فرص مهمة في الإستثمار داخل مجالها الترابي، كما أن معظم المستشارين إما يعانون من الامية المباشرة والأمية المقنعة، وحتى المتعلمين منهم أغلبهم عاجز عن بلورة رؤى خلاقة واستشراف أفاق مجالاتهم ، ويتم تغليب عقلية الطريق والقنطرة على عقلية التجديد واستعاب متطلبات التنمية الترابية التي تقوم على مركزية الإنسان ومن اجل الانسان، إن إعادة إنتاج سلطة المركز متمثلة أساسا في غياب التدافع بين المركز واللامركز، فالتنمية ليست هبة تأتي من فوق ولكنها تنتزع، والقبول بالقسمة معناه التخلي عن الأدوار الطلائعية التي ينبغي للجماعات أن تناط بها، وإذا كانت الدولة قد عولت على جعل الجهوية اطارا للتنمية الإقتصادية والإجتماعية، فإنها في نفس الوقت تخفي هواجز وتوجسات، فنحن لم ننتقل بعد من التقسيم الترابي القائم على الخيارات السياسية إلى التقسيم الترابي القائم على الخيارات التنموية.. في المقابل تريد أن تبقي عليها في حدود امتصاص الصدمات وتشتيت المسؤولية أمام الرآي العام "كما حدث في إختلالات مشروع الحسيمة منارة المتوسط"، يجب إذن على النموذج التنموي أن يمحور أدوار كل من القمة والقاعدة بكل شفافية وموضوعية، كما أن المقاربات التنموية ينبغي أن تكون واضحة المعالم هي الأخرى، صحيح أنه ليس هناك حدود واضحة بين المقاربات القطاعية والمقاربات الترابية، وإن كان ذلك ممكن نظريا، فإن الواقع شيء أخر.. إلا أن الدفع بالفعل التنموي نحو المقاربة الترابية يبقى الحل الانجع لبلوغ حد من التنسيق والتلقائية. والسؤال الذي يمكن الخروج به في هذا الأمر هو: إذا كانت الدولة تراهن على الجهوية لتحقيق التنمية، فهل فعلا تشكل الجهوية اطارا مؤهلا الإضطلاع بالمهام المناطة بها في تحقيق التنمية؟ فهل تمتلك صلاحيات الفعل التنموي وشروطه؟ يبقى النموذج الجهوي المغربي نموذجا إداريا في جوهره مقيد الصلاحيات الإدارية، فالمقصود بالاستقلال الإداري هو الإستقلال المشروط بالقانون الإداري الذي خولته لها السلطات المركزية ومصالحها، بمعنى أدق أن هناك سلطة تراتبية، تزداد غموضا مع غموض النهج الديمقراطي المغربي، وتتحكم فيه الأمزجة الحزبية، لأن القوانين التنظيمية تستآثر على القانون الدستوري، خاصة في الجانب التنفيذي، مما سيعيق التنمية الجهوية، ويخول الإستمرارية لعيوب التخطيط المركزي الذي يتخفى خلف المصالح الجهوية، كما أن تشعب علاقات السلطة بين القاعدة والقمة يحول دون توضيح الرؤى، وتوضيح المصالح.. فليس وجود مجلس منتخب معناه وجود اطار ترابي مستقل، لآن الإستقلال الترابي "المادي والمعنوي" لا يجد ترجمته إلا في الجهوية الموسعة ذات الصلاحيات السياسية والقضائية، فالنموذج التنموي الجديد ينبغي أن يؤسس لمفهوم الجهوية الموسعة... - الإختيار الديمقراطي وعلاقاته بالتنمية، سنكون محقين إذا قلنا لا تنمية بدون ديمقراطية، والتنمية لا تنضج الا في سياق ديمقراطي، ولنشرح هذه العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ينبغي في البداية أن نقف عند نقطتين مفصليتين فيما يخص الديمقراطية، إذ ينبغي التمييز بين الفعل الديمقراطي، الذي لا ينبثق إلا في ظل وجود بنية ديمقراطية رسيخة، والانتقال الديمقراطي الذي يحيل إلى التحول والتبدل، وهو ليس مسارا أحاديا يسير في منحى متصاعد نحو الديمقراطية وإنما يخضع لهزات فقد يتراجع وقد يتقدم، وهو مفهوم ((مسيس)) أكثر مما هو مفهوم سياسي، وعلى الرغم من تعدد نماذج التحول الديمقراطي فإنه من الجدير بنا أن نتساءل متى؟ وأين؟ كما أن الديمقراطية يمكن قياسها في كل بلد-بلد، من خلال مدى تحقق الفصل بين السلط وضمان الحقوق والحريات العامة.. بينما الإنتقال الديمقراطي يبقى غامض يصعب قياسه، وغالبا ما يروج هذا المفهوم في الدول النامية لتلبيس البنى السياسية العنيفة وتقنيعها، وعليه فان الإختيار الديمقراطي المسرح به قانونيا لا يعكس في واقع الحال الفعل الديمقراطي، خاصة وأن هذا المفهوم يكون نازلا من القمة، والشعوب لا تختار إلا الديمقراطية وليس غير الديمقراطية، لكن الأنظمة السياسية والمؤسسات الدولية تريد أن تستنزف قضية الديمقراطية في الدول النامية في مسار طويل وغامض يخضع لمزاجها ويديمم مصالحها، وعلاقة الديمقراطية بالتنمية علاقة ثابثة ومتلازمة، فالأولى تعني توسيع خيارات الإنسان وإختياراته وضمان حقوقه، مما يسهم في ترسيخ شعور الانتماء والمواطنة الصادقة لدى المواطنين ويدفع بهم لمزيد من الرغبة في التقدم والترقي، كما أنها ترسخ الثقة بين المواطن والدولة وهذه الثقة ضرورية، لبناء أي نموذج تنموي كيفما كانت طبيعته، وتتعزز هذه الثقة بالمشاركة الايجابية والفاعلة، والتنمية لا تنضج الا في مثل هذا الجو المفعم بالثقة وحب الوطن، وإلا فإن غياب الثقة يؤدي الى نزيف الكفاءات وتزايد التشنجات، فالدولة تنظر الى المواطن كخطر يهددها، بينما المواطن لا يرى في الدولة سوى غازي هو الآخر يهدد ووجوده، وفي خضم ذلك سيكون مأل المشاريع التنموية الفشل، لأنها ستخضع لمزايادات ضيقة وعدمية. لذلك على النموذج التنموي أن ينطلق من هذا الأساس، لإعادة الثقة بين المواطن والدولة والذي لن يتأتى في نظرنا الا من خلال الفعل الديمقراطي الرصين. ولا ينبغي أن تكون هذه الديمقراطية ممثلة في مجرد قوانين ومؤسسات بروقراطية، بل أن تكون ممتدة ومتجذرة في الوعي الجماعي، وأن تتحول إلى شعور وطني، فكل مواطن ينبغي أن يثبث له شعور ممارستها، وذلك حتى يتم إعادة ربط المواطنين بمؤسسات الدولة التي ينبغي أن تكون في نهاية الأمر انعكاسا لإرادتهم وسلطتم. كما أن بناء النماذج التنموية ليست مهمة أي مؤسسة أو سلطة، لكنها مهمة الأمة جمعاء، بحيث يجب فتح حوار وطني شامل وتنظيم ندوات ومناظرات وطنية من شأن الكل أن يتباحث حول إيجاد السبل والشروط الموضوعية لتحقيق الإقلاع التنموي، طبعا ذلك في جو ديمقراطي هاديء يعتمد على مبدأ التشاركية الشامل والحوار الهادئ.. وذلك حتى لا نعيد أخطاء الماضي، وحتى لا تصبح النماذج التنموية عبارة عن توجهات لمصالح ضيقة، تصبغ تعسفا بالصبغة الوطنية، لآن الديمقراطية وحدها الكفيلة يتجاوز كل الأخطاء واعطاء نفس جديد لمسار جديد، وبعبارة أوضح يطرح الإصلاح السياسي كضرورة حتمية لبناء أي نموذج تنموي، لذلك لا ضمانة تقدم لمستقبل التنمية في بلادنا في ظل العمل بالمقاربة الأمنية وعسكرة الفضاء العام والتضييق على الحقوق والحريات العامة، واستمرار القوى المعادية للتغيير.. إن التنمية بنت الحرية بالولادة". -تصفية النموذج الحالي، لا يكفي الإعلان عن فشل أي نموذج تنموي قائم، إذا لم يخضع لتقييم صارم، ودون أي تحيز، ومن الضروري أن نطرح السؤال الجوهري، لماذا فشل؟ مسؤولية من؟ وما هي الفروق بين الموارد المادية المرصودة والنتائج المحققة والتي يمكن إثباثها بالملموس؟ ودون الإجابة على هذه الأسئلة سنقع حتما في ((فخ اصلاح الاصلاح))، هذه المسألة التي تجلت بقوة في منظومة التربية والتكوين، حيث لم تطرح الأسئلة الجوهرية مما جعلها تتخبط في مآزق مستمر يزداد استفحالا سنة بعد آخرى، فتغييب هذه الأسئلة سيؤدي حتما إلى إعادة إنتاج-إنتاج نفس المشاكل السابقة، كما ينبغي أن يقارب ذلك من منطق الثابث والمتحول، فمعلوم أن النماذج التنموية متغيرة وتخضع للمتغيرات والمؤثرات الداخلية والخارجية، في حين فإن الثابث في المغرب إلى حد ما هي البنية السياسية، تلك البنية التي تقدم نفسها كمصدر وحامي للمشاريع والبرامج التنموية وعليه هي ما ينبغي أن تطرح عليها هذه الأسئلة، وإذا كان النموذج التنموي السابق قد انكشفت عيوبه وحدوده، فإن السبب في ذلك ليس مرده إلى طبيعة المقاربات التي تم التعامل بها مع التنمية، بل إلى إنعدام الإصلاح السياسي الهادف، وضعف الفعل الديمقراطي، مما ساهم في إستمرارية الريع، وتغلغل الفساد والإفلات من العقاب.. فالتنمية هي وقبل كل شيء مرادفة للإصلاح السياسي، الذي بدونه لن نحقق التغيير الإجتماعي ولن نتجاوز مآزق التخلف، الذي مرده أساسا إلى إنعدام الضمير السياسي وتقديم المنافع الخاصة على منافع العامة.. وهكذا يشكل الإصلاح السياسي مدخلا لكل فعل تنموي، فالمقصود هنا وبالإصلاح السياسي، مراجعة الدستور على أساس الإقرار الفعلي على فصل السلط، وتبني نموذج الملكية البرلمانية كحل راهني، وتفعيل الجهوية الموسعة واحداث قوانين أكثر حزما فيما يخص قضايا الفساد والريع، بالإضافة إلى إعادة هيكلة الأحزاب السياسية وزرع روح العمل السياسي المواطن والتصدي لتيارات الإستوزار.. كما ينبغي أن تصبح الدولة كجهاز ممثلا لسلطة الشعب لا سلطة الأفراد والجماعات، والدفع باتجاه نظام اجتماعي أكثر عدالة وانصافا.. وببساطة إن النماذج التنموية الناجحة هي التي تنبعث من الإرادة الشعبية التي لا يمكن لأي إرادة أن تحل محلها مهما إدعت من حكمة وتبصر. -هل يمكن للقطاع الخاص أن يشكل رافد من روافد النموذج التنموي الجديد؟ للقطاع الخاص آثران إيجابيان وهما تخفيف أعباء الدولة وتوفير المزيد من فرص الشغل، لكن القطاع الخاص ينبغي التعاطي معه من قطاع إلى أخر، فالقطاع الخاص في القطاعات الاجتماعية الحيوية كالتعليم والصحة والمناجم، ليس هو القطاع الخاص في الشركات الإنتاجية والمقاولات الخاصة.. والخصخصة في العديد من الأحيان تخفي خلفها مآزق خطير للغاية ففي ظل وجود الريع تتسرب النفعاوية إلى مراكز القرار مدفوعة بمصالحها، ونظرا للتحالفات التي تؤسسها والقدرة الكبيرة التي تمكنها من الضغط على أصحاب القرار فإنها حتما ستوجه القرار السياسي والاقتصادي لصالحها، مما يؤدي الى خصخصة تحت الطلب، فالقطاع العام في المغرب يتعرض للمصادرة باستمرار من طرف الخواص، خاصة وأن توجهات المؤسسات المالية العالمية تدعم هذه الخطوة، فكل ما يهمها تحصيل أقساط فوائد ديونها، وبالتالي فإن تأثير الخصخصة على الإقتصاد تأثير مزدوج، فهي تساهم في تحصيل عائدات مالية مهمة للخزينة، لكنها في الأمد البعيد تعرض الدولة للتفقير وتمنع عنها مصادر دخلها، وعندئذ لن يكون أمامها سوى أمران، توسيع قاعدة الضرائب والإقتطاع من الاجور ورفع سقف أسعار المواد الاساسية، والأمر الثاني اللجوء الى المزيد من الإقتراض، لكن هنا تظهر التناقضات الصارخة فالمستفدين من الخصخصة هم النخب المالكة لوسائل الانتاج، بينما سيزيد الضغط على الفئات الهشة، وبهذا الشكل ستزيد حدة اللامسواة والفوارق الإجتماعية.. ولن تتحقق العدالة لا في توزيع الثروة ولا في غيرها، لأن القطاع العمومي لم يتمكن من منافسة قطاع يتلقى دعما كبيرا في الداخل والخارج، كما يساهم الفشل المتواصل والسكتات المقصودة وغير المقصودة التي تكتنف بعض القطاعات العمومية، من تردي خدماتها وفقدان الثقة فيها.. وهذا ما يدعم ويبرر أيضا تيار الخصخصة شعبيا، كما أن الخصخصة في بعض القطاعات الاستراتيجية كالتعليم والصحة، يعد توجها سلبيا على كل المجتمع، فضمان عمومية قطاع التعليم والصحة، هو ضمان المساواة أمام كل أبناء الشعب، فلا يمكن المقارنة بين الشعب الامريكي والمغربي في هذا الشأن، فالمغاربة في حاجة ماسة الى الدولة.. فالتعليم مثلا يعد منبعا محوريا للامساواة واللاعدالة، ويتعمق ذلك بوجود القطاع الخاص الذي يعمل على ترجمة متطلبات النخب العليا، في حين يعمل القطاع العام على الإستجابة لمتطلبات لا تنسجم والواقع المعاش، وينتج أطرا لا تنطبق كفاياتها وقدراتها مع الواقع، فهو يرسخ الإغتراب الثقافي والمهني، والحال أن القاع الخاص هو الآخر يحمل معوقات خطيرة، متمثلة في كونه معقل من معاقل ترسيخ الفرانكوفونية بأبعادها الشاملة، ويكرس فعل الهيمنة، ويخرج أطرا تفتقد إلى حس المواطنة، والوعي التاريخي... ومهما تكن الحيثيات فإن القول بالتوزيع العادل للثروة يبقى أشبه بحلم لن يتحقق أبدا، لآن العلاقة بين القطاع الخاص والعام ليست علاقة تنافسية وتدافعية كما في العديد من البلدان، ولكنها علاقة إحتكارية، يحتكر فيها القطاع الخاص النفوذ والهيمنة، مما يخوله مستقيلا القدرة على ازاحة واعدام ما تبقى من عمومي، فالقطاع الخاص فعال في الدول التي تمتلك قطاعا عموميا قويا قادرا على المنافسة، وهذه القاعدة مهمة لكل الدول النامية، فلا رأسمال بشري في ظل الإحتكار وتغليب أمر الواقع على المصلحة العامة.. قد يقول قائل إنه يمكن تفعيل اجراءات إجتماعية لصالح الشرائح الاجتماعية الهشة وهو ما يظهر في المغرب من خلال التفكير في وضع السجل الإجتماعي، كما أن إعتماد بطاقة رميد ودعم الأرامل وغيرها سيمكن من التقليص من آثار الخصخصة عليها، والحال أن هذه الاجراءات تظل غير ذي وقع قوي، نظرا لمحدوديتها كميا وكيفيا، ونظرا لطبيعة المجتمع المغربي المعقدة، كما أن الطبقة المتوسطة هي التي ستدفع الثمن في نهاية المطاف وستتعزز الفوارق بين نخب توجه لها إستثمارات قوية وفئات تعيش على إعالة معاشية من طرف الدولة، ويغيب فيها الإدخار والحركية الإجتماعية الصاعدة، وبدون طبقة وسطى حقيقية في المغرب وطموحة لن يمتلك المجتمع من توفير التدافع اللازم للتقدم والرقي.. إذن كضرورة لبناء نموذج تنموي جديد لابد من توضييح الرؤى، هل نريد نموذجا تنمويا لصالح الشعب والطبقات الإجتماعية ككل؟ أو نريد نموذجا مقلوبا تدفع فيه الشرائح الاجتماعية الفقيرة والهشة تكلفة لن تستفيد منها أبدا؟ -التكتلات الإقليمية كحل للتنمية إن الأنخراط في تكتلات اقليمية يعد أمرا ضروريا فعاملي الجغرافيا والسكان مهمين في النهوض بالتنمية، فوجود اتحاد أو تكتل شاسع جغرافيا يخوله من المنظور الجيوبلتيكي الإضطلاع بأدوار إستراتيجية على الصعيد القارئ والدولي، كما أن البعد الديمغرافي هو الأخر يلعب دورا حيويا مثلا كسوق استهلاكية ضخمة تعمل على إستقطاب الاستثمارات المنتجة، وعليه خلق قطب اقتصادي متماسك وقوي تحكمه ضوابط داخلية وروابط قوية، بحيث يمكنه الإنخراط في المنافسة الدولية ليس على الصعيد الإقتصادي وحسب بل وعلى الصعيد السياسي كذلك، ولهذا وجب إعادة تفعيل المغرب العربي، أو خلق تكتل أوسع في شمال افريقيا وتعزيز التعاون القارئ في إطار الاتحاد الافريقي، والإنخراط في تكتلات محلية، وبما أن المغرب العربي يشكل من حيث عاملي القرب والتاريخ، ويتوفر على موارد متنوعة مساعدة على الاندماج، يمكن أن تلعب دورا حاسما في التبادل البيني، فإنه من الضروري بناء إتحاد بين الدول المغاربية وإيجاد حل لمآزق التبعية الذي تعيشه هذه البلدان، وتفوت عنها فرصا ضخمة للتقدم والرقي، ونتحول إلى فضاءات مفتوحة لتجاذبات الدولية، لذلك لا ضير في الجلوس إلى طاولة المفاوضات من جديد والتباحث لبناء مغرب عربي قوي بعيدا عن كل التجاذبات السياسية والخلافات الضيقة التي تعيق في الحقيقة التنمية والتقدم في شمال افريقيا.. -الطبقة الوسطى والمسار التنموي في المغرب أية علاقة؟ تلعب الطبقة الوسطى دورا حيويا في نهضة أي بلد، فهي ولكونها تقع بين طبقتين متناقضتين فانها تطمح لأن تبلغ سقف الطبقة العليا وفي نفس الوقت تحمل هواجس من السقوط إلى الطبقات الدنيا، وهكذا ونظرا لهذه الطموحات وهذه الهواجس، الذان يعملان كتيارين للضغط.. تنتشر في الطبقات المتوسطة روح العمل وكذلك تشكل عماد التغيير في المجتمع بحيث تتشكل من النخب المثقفة والأطر العليا والكفاءات... وبالتالي فهي أكثر الأطياف تطلعا للتغيير والإصلاح، وفي المغرب هناك تضيق واضح تجاه الطبقة الوسطى التي تتأثر بشكل مباشر من سياسات الدولة، التي عادة ما تسعى للإبقاء عليها ضمن دائرة متحكم فيها، كما أن السياسات الإقتصادية التي تعمل لصالح الطبقات العليا تعرقل نمو هذه الطبقة في المغرب، وهي تتفاوت بحسب المجالات، بحيث تسير شبه منعدمة في الوسط القروي الذي تحول الى مجال للمعدومين والكادحين، إما بفعل الهجرة أو بفعل خصوصيات المجال القروي ذاته، ولذلك فبدون وجود طبقة متوسطة فاعلة يصعب حدوث التغيير الإجتماعي في المجتمع المغربي، كما يصعب الحديث عن التنمية، والطبقة الوسطى ليست قطعة أجور يتم قولبتها في قوالب جاهزة ولكنها تنتج بفعل الحركة الداخلية للمجتمع، وإذا كانت هناك دعوات لخلق طبقة وسطى في العالم القروي، فإن ذلك لن يتجاوز خلق نخبة من الأعيان بغية الضبط الاجتماعي والسياسي.. -اشكالية الوحدة الترابية والتعليم، أي تحديات أمام النموذج التنموي الجديد؟ تأتي قضية الوحدة الترابية كأولوية وطنية، وقد شكلت هاجس الأمة لأنها ترتبط بمصلحة الوطن، إن هذه القضية شئنا ام ابينا كان لها تأثير سلبي على المستوى الداخلي والخارحي، فمنذ 1975 عمل المغرب على ضخ استثمارات مهمة في الأقاليم الجنوبية مكنت من أن ترقى هذه الأقاليم سلم التنمية البشرية وطنيا، في حين دفعت مناطق عديدة ضريبة ذلك وبقيت لا تحضى سوى بالنرز القليل من الإهتمام، مما خلق للاعدالة في الاستثمارات، كما أن بعض الاستثناءات التي تحضى بها الساكنة تتعارض مع النص الدستوري جملة وتفصيلا، وتولد شعور النقص والدونية لدى الاخر، فالاستثناءات يجب أن تكون شاملة ولا تقتصر على مجال دون غيره، ولطالما شكلت قضية الوحدة الترابية المشكل الهيكلي في السياسة الخارجية المغربية خاصة ملى مستوى العلاقات الدول، وطبعا لذلك تكلفة باهضة يدفعها المغرب، بعبارة أخرى "الحرب الديبلوماسية ضد الجبهة وداعميها" وقد حاول المغرب أن يقدم حل وسط يكون مقبول من لدن المجتمع الدولي والمتمثل في مقترح الحكم الذاتي الذي يشكل مقترحا عمليا وموضوعيا.. إلا أنه ينبغي إماطة اللثام عن الحقائق بعيدا عن عواطف وأهواء حب الانتماء.. أولا: لا يمكن الدفاع عن الوحدة الترابية والحسم فيها بدون تعزيز التضامن والتماسك الوطني، بين مختلف المواطنين، فالتماسك والوحدة الداخلية هما إن صح التعبير المنطلقين لضمان الممانعة ضد اعداء الوطن، بحيث لهما أثر مباشر في إدارة النزاع وتدبيره.. ثانيا: لطالما احتكر المخزن سلطة التقرير في قضية الوحدة الترابية، إما بسلطة الدستور التي تجعل الملك الضامن الوحيدة للوحدة واللحمة الوطنية، أوالسلطة التاريخية التي يمتلكها، إلا أن سياساته المتناقضة المتمثلة في زرع بذور التفرقة الداخلية وخلق صراعات من شأنها أن تبقيه في منآى عن كل التجاذبات.. عمل ذلك على تعميق التفرقة بين المغاربة، وما إنفكت أن تحولت الى نزاعات عرقية تختمر في الخفاء، وظهور مطالب انفصالية تحتج بالاسبقية التاريخية او بالقيم الدينية، واليوم تتسارع وثيرة هذه النزاعات وتدك في طياتها روح الوطنية وحب الوطن وتتبذر الكراهية، كما أن الوسائل الحديثة، خولت مسالك الاختراقات التي تريد ان تكب الزيت على هذه النزاعات الوليدة، وأمام ذلك لن يبق أمام المخزن سوى السلوك الأمني والارضاءات.. وهذه الحلول ليست مضمونة العواقب، نظرا لموقع المغرب من جهة، ونظرا كذلك لانتقال بوقرة الصراع العالمي الى افريقيا وخاصة شمالها وشرقها... إن أقصى ما يمكن للمخزن بلوغه إستدامة الأزمة الى اجل غير معروف، وفي كل سنة سنتعرض الابتزاز اما من تقارير تصدرها مؤسسات دولية ذات خلفيات نيوليبرالية، او من طرف دول بعينها، وسيدفع المغاربة ثمنا باهظا، وفي ظل معطيات اليوم لا يظهر أن المغرب سيحسم في الموضوع، والتعويل على الحراك السياسي في الجزائر أو ماشابه هو الآخر لن يظيف للامر شيئا، لأن القضية قضية دولية ترتبط بمصالح القوى العظمى، لذلك تطرح الوحدة الداخلية كضرورة قصوى، والوحدة ليست معطى يتحقق في جو من التشاحن والتطاحن، بل تقتضي جو من الثقة وسيادة الشعور الوطني، من خلال اقرار الحرية والمشاركة وتبني روح الحوار، بعيدا عن منطق الصراع والنزاع، كما ينبغي جمع المغاربة على المشترك المتمثل في وحدة التاريخ ووحدة القيم الوطنية ولابد من القضاء على الصراعات التي لن تكون في صالح أحد ولن تخدم الا الاعداء، فذلك سيشجع أكثر الاطراف الاخرى على تقديم تنازلات والبحث عن حل وسط يرضي الجميع، كما سيقلم من اظافر المتربصين، ولذلك فبناء مغرب ديمقراطي مزدهر هو المفتاح والسر لقضيتنا الترابية، اما اسلوب البيع والشراء لن تزيد الا من تعميق الازمة... المدرسة الوطنية هي القضية الثانية، لأن المدرسة تشكل عماد التغيير والتقدم في اي مجتمع، وفي المغرب ترتبط المدرسة بالنخبة المثقفة وتنتج الأطر والكفاءات وليس هناك من مؤسسة اخرى تضطلع بهذا الدور.. وبالتالي فهي مؤسسة إستراتيجية وحيوية، ونظرا للمرامي الساعية لتعزيز الرأسمال البشري، فإن ذلك يقتضي تعزيز دور المدرسة والرقي بها، وتنويع عرضها وضمان جودتها.. كما ينبغي ربط المدرسة بمحيطها.. وعلى الرغم من أن المدرسة الوطنية عرفت تدخلات شتى، أتت تحت شعار "اصلاح التعليم" إلا أن معظم هذه التدخلات باءت بالفشل، فبستثناء البعد الكمي للتمدرس ظلت المدرسة الوطنية تعيش اعطابا خطيرة، ليس فقط في تدني مردوديتها، بل في دورها في زرع الاتكالية والاغتراب وعدم المساهمة في التغيير، ونظرا لنسبة الامية المرتفعة، وكذا الامية الثقافية والحضارية، المتمثلة في النظرة العرفية الإنسان والوجود والعالم، والتي تكبح الفكر العقلاني والتحرري، كما تعمل المدرسة على تخريج جيش من المعطلين والعاطلين، وارغمهم على الانخراط في اعمال لا تنسجم وتخصصاتهم، فيغيب روح العمل وحب العمل، وينتشر التضمر واليأس والرغبة في وطن مختلف ومغايير، كما تحتل الجامعات الوطنية رتبة متآخرة جدا على الصعيد العالمي والعربي، ومعظم البحوث المنتجة إما تبقى دون المستوى المطلوب، او تتعرض للنسيان والتلف، وذلك مرده إلى غياب الدعم المخصص للبحث الجامعي وضعف التأطير.. والانفصام الحاصل بين الجامعة والمحيط، فما الفائدة من بحوث لايمكن استثمارها في الواقع؟ وما فائدة التخطيط والتقرير الذي لا ينبني على البحث؟ زد على ذلك تفشي ظاهرة الغش والزبونية والمحسوبية، والفاقة التي يعاني منها العديد من الطلبة والباحثين والتضييق عليهم، إن إعادة ربط المدرسة والجامعة بمحيطهما، يطرح مشكلة كبيرة، من الذي يجب ربطه بالاخر؟ يرافع أهل المسؤولية أن للمدرسة خصوصا والجامعة عموما يجب أن تستجيب لمتطلبات سوق الشغل، ولكن من يعبر عن الواقع هل سوق الشغل، ام المدرسة؟ وهل المجتمع يستجيب لحاجيات المدرسة، والتغييرات التي تحاول أن تجد موئلا لها في المدرسة وحدها غير كافية، بل إن المجتمع أيضا يفسر الضعف الذي شاب المدرسة الوطنية، وبنية المجتمع عامل مهم لفهم حاجيات كل مجتمع، فحاجيات المجتمعات المتقدمة تختلف عن حاجيات المجتمعات النامية، ان ظاهرة المدرسة في المجتمع المغربي، ظاهرة معقدة، فالمدرسة تسير في سيرورة التقدم، لأنها تزود المتعلمين بالفكر المنهجي والنقدي وتنزاح نحو العقلانية بينما المجتمع تحكمه ضوابط عرفية وقيمية تنزاح نحو المحافظية والانغلاق وتبرز ضعف جودة الهندسة الإجتماعية، وماذا نريد أن ننتج نحن؟ العقلانية ام المحافظية، وهذا ما يفسر الغربة التي يعيشها العديد من المتعلمين والاطر، خاصة أصحاب الثقافة العالمية والقيم الانسانية، ويُقعهم في صدام خطير، يعمل على تحطيم القدرات الابداعية وتبخيس الإبتكارات مما يفسد الطاقات ويهدرها، خاصة مع عدم توفر فرص الشغل للعديد منهم وبقائهم تحت اعالة الوالدين والأسرة أي غير مستقلين.. وما يثبث ان هؤلاء على الرغم من الاعتبارات الضيقة للكفاءات يمتلكون مؤهلات قابلة للاستثمار هي تمكنهم في الاندماج في سوق شغل اجنبية بسهولة، اما كمهاجرين شرعيين او غير شرعيين، وان ربط المجتمع بالمدرسة هو اصح تعبير واقوم، يجب على المجتمع أن ينفتح على المدرسة والجامعة، وهنا ينبغي للاعلام والمؤسسات أن تقوم بدورها في هذا الصدد.. عموما يمكن القول لبناء النموذج التنموي المنشود يجب إعادة النظر في الاختيارات السياسية والاقتصادية، والهندسة الاجتماعية والثقافية القائمة.. كما ينبغي جعل الإنسان في صلب التخطيط التنموي واعادة النظر في التوجهات الداخلية والخارجية تبعا لما طرحناه أعلاه..
#عادل_امليلح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السقاع والغيمة
-
حرق العلَّم الوطني أية دلالات؟
-
خواطر شعرية: بين السجن والمقبرة
-
قضية تجديد تاريخ المغرب عند عبد الله العروي
-
خواطر شعرية: تخبرني أنني هنا
-
الربيع العربي، التمرين الأول والدروس المستفاذة
-
خواطر شعرية: بين ثنايا قلبي تقبع مرارة كل هذا الوجود
-
العطش المعرفي اي واقع في المحتمع العربي
-
التنمية الترابية بالمغرب ملاحظات منهجية
-
الأستاذ الجامعي بالمغرب، من الوظيفة التربوية إلى الممارسة ال
...
-
هل يعاني المغرب من مأزق إجتماعي أم أزمة ضمير سياسي؟
-
ما هو التنوير؟
-
المرجة والحراث
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|